منهجية السؤال الإشكالي المفتوحفروض وامتحانات

العلاقة مع الغير | هل الصداقة هي الوجه الوحيد للعلاقة بين الأنا والغير؟

مطلب الفهم:

يشكل “الوضع البشري” مجالا للوجود العلائقي التفاعلي، تأخذ فيه “العلاقة بين الأنا والغير” بعدا أساسيا من أبعاد الوجود الإنساني المشترك. فتتنوع وتتعدد مظاهر وأوجه هذه العلاقة في الحياة الواقعية والإجتماعية للناس، متأرجحة بين الإيجاب والسلب، تارة تعكس مظاهر المحبة والصداقة والأخلاق، وتارة أخرى تنزح إلى نقيضها معبرة عن مظاهر الصراع والنبذ والإقصاء.وفي هذا الباب يمكننا التساؤل عن أبعاد وأوجه هذه العلاقة من خلال التساؤلات الفلسفية التالية:


مستوى التحليل:

يتضمن السؤال مفاهيم أساسية على رأسها مفهوم الغير L’autrui وهو إسم مفرد لجمع أغيار، ويعني الآخر من الناس، أي الأنا الآخر منظورا إليه، ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه ذاتا بشرية تمتلك وعيا وإرادة. إنه- كما يعرفه سارتر–الأنا الذي ليس أنا، المخالف والمطابق، أي أنه ذات أخرى تشبهني وتختلف عني. أما «الصداقة» فهي علاقة اجتماعية بين شخصين أو أكثر، تقوم على مشاعر الود والمحبة وحب الخير للأنا والغير معا، يكمل من خلالها كل طرف وجود الآخر. في حين يشير مفهوم «العلاقة» في هذا السياق، إلى مظاهر الإرتباط الاجتماعي بين شخصين أو أكثر، وقد تقوم على أساس إيجابي كالصداقة والأخلاق، أو على النقيض من ذلك.

وبالانطلاق من دلالات المفاهيم أعلاه، يمكن الإجابة السؤال المطروح باعتبار الصداقة، هي أكمل أوجه العلاقات الإجتماعية بين البشر. فعن طريقها تتحقق القيم الإنسانية والأخلاقية بين الأفراد، من حب واحترام، وتعاون وتعايش وغيرها من القيم السامية التي تعزز الوجود المشترك بين الذوات البشرية. ومنه فالصداقة من أشد الحاجات الضرورية للحياة وهي نموذج مثالي للعلاقة الايجابية بين الأنا والغير.

ومن الأمثلة الواقعية التي تؤكد على دور الصداقة  في حياة الإنسان، أنه لا نستطيع العيش طوال حياتنا دون أصدقاء أو في عزلة واستقلال تام عن كل أشكال العلاقات الإجتماعية.ففي اللحظات الصعبة من حياتنا نكون في حاجة إلى حضور الأصدقاء إلى جانبنا لمواساتنا والتخفيف من آلامنا ومعاناتنا، ونفس الشيء بالنسبة للتعبير عن فرحنا وسعادتنا اتجاه ما يصادفنا من مسرات. فنجد في الأصدقاء خير من نتقاسم وإياهم أجمل اللحظات، والإستمتاع رفقتهم بملذات الحياة. إذن يمكن التأكيد على أن الصداقة هي إحدى المظاهر الإيجابية للعلاقة بين الأنا والغير.

مستوى المناقشة:

وبالتساؤل عن قيمة هذا الطرح، نجد أن الصداقة تحتل قيمة اجتماعية وأخلاقية، تعكسها الحياة الواقعية للإنسان، حيث تساهم الصداقة في تمتين العلاقات الاجتماعية وتقوية روابط التواصل والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد، حتى أنه يصعب تصور حياة الناس في الواقع دون أصدقاء، لهذا كثيرا ما نجد في الغير القريب ذاتنا الآخرى، أو في جماعة الأصدقاء قواسم مشتركة وشيئا منا.

لكن من ناحية أخرى، وبالانطلاق من واقع الناس والمعيش اليومي، يتبين لنا أن العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، لا تتأسس دائما على الصداقة، إذ كثيرا ما نلاحظ أن بعض الناس يعيشون منعزلين عن الآخرين، ويرفضون الدخول في علاقات صداقة، ربما لأنهم عاشوا تجارب لصداقات فاشلة انقلبت إلى ضدها، أو خيبات ٱمال في علاقاتهم بالأصدقاء، أو تعرضو للخيانة والخذلان أو ربما يميلون بطبعهم إلى الوحدة والانعزال، ناهيك عن مظاهر الصراع الكثيرة التي يعج بها الوسط الاجتماعي والمعيش اليومي للناس، فنجد البعض يكرهون البعض الآخر وربما يصل بهم الأمر إلى حد العداء والنبذ وإقصاء بعضهم بعضا. 

ولتعزيز قيمة الأطروحة السابقة، نجد “أرسطو” يؤكد أن الصداقة من أسمى الفضائل التي يجب أن تقوم عليها كل علاقة بين الأنا والغير ، فلا غنى للإنسان عن الصداقة في حياته إذا ما كان يتطلع للعيش في سعادة. وفي هذا السياق، يميز “أرسطو” بين ثلاثة أنواع من الصداقة هي صداقة المتعة وصداقة المنفعة وصداقة الفضيلة وأرسطو في تأسيسه لطبيعة العلاقة بين الأنا والغير ، يقيمها على نموذج إيجابي، أي على الصداقة المبنية على الفضيلة مؤكدا على أهميتها وقيمتها باعتبارها صداقة دائمة لا تفنى ولا تزول، إنها صداقة ترسخ القيم الانسانية والأخلاقية السامية وأهمها العدل. يقول أرسطو : متى أحب الناس بعضهم بعضا لم تعد هناك حاجة إلى العدل. وهكذا فصداقة الفضيلة حينما تتحقق بين الناس يترتب عنها أيضا صداقة المتعة والمنفعة غير أن الفرق بين هذه الصداقات هو أنه إذا كانت صداقة الفضيلة دائمة، فصداقة المتعة والمنفعة يزولان بزوالهما ، هكذا يؤسس الموقف الأرسطي العلاقة بين الأنا والغير على أسس أخلاقية تقوم على صداقة الفضيلة.

لكن إذا كان أرسطو يؤكد على الصداقة كنموذج إيجابي للعلاقة، بين الأنا والغير ، فلهذه الأخيرة أيضا، الكثير من المظاهر السلبية، مما يعني أن حياة الناس لا تخلوا من توترات وصراعات ، وهنا يحدثنا «ألكسندر كوجيف» أن العلاقة بين الأنا والغير تقوم أيضا على أساس سلبي كعلاقة صراع، مؤكدا أنه ما دام العالم لا يقوم على وجود بشري متساوي القيمة بين الأفراد، وجود متفاضل فيه السيد وفيه العبد، فإن هناك نزعة تحرك جميع البشر لنزع اعتراف الٱخرين بالذات، وهذه الغاية لا يُتوصل إليها إلا بالصراع مع الغير ، الأمر الذي يؤدي إلى انهزام أحد الطرفين المتصارعين، و بهذا المعنى يُخلق عالم فيه السيد و فيه العبد فيه القوي و فيه الضعيف، فيه وجود يتمتع بالاستقلال الذاتي و وجود يرزح تحت الهيمنة والخضوع.

مستوى التركيب:

ختاما لمستويي التحليل والمناقشة المتعلقين بإشكالية “العلاقة مع الغير” نخلص إلى كونها تحتمل عدة أوجه، فقد تكون علاقة إيجابية كالصداقة مثلا، حيث يتبادل من خلالها الناس مشاعر المحبة والمودة تحقيقا لما هو خير وأخلاقي، وقد تكون العلاقة بين الأنا والغير ذات مظهر سلبي قوامه الصراع والنبذ والإقصاء وهذا ما يكشف عنه الواقع البشري كمجال للعلاقات الاجتماعية التي كثيرا ما تعكس مظاهر الصراع، ومن منظوري الشخصي فالعلاقة بين الأنا والغير علاقة جدلية وتظل منفتحة على كل الإمكانات الإيجابية والسلبية، وهذا مرده إلى تعقد الطبيعة البشرية التي يتداخل فيها البيولوجي مع النفسي والاجتماعي مع الثقافي. وهنا يمكن ان نتساءل: ألا يمكن للأفراد والجماعات، وللأنا والغير أن يعيشوا في وفاق وانسجام، وطمأنينة وسلام، أم أن هذا مستحيل من الناحية الواقعية، على اعتبار أن الصراع يحل في كل شيء؟


مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى