فروض وامتحاناتمنهجية النص الفلسفينصوص فلسفية

نموذج تطبيقي | تحليل ومناقشة نص فلسفي | الامتحان الوطني مادة الفلسفة 2010 | دورة يونيو 2010

الامتحان الوطني، الدورة العادية 2010. (كل مسالك الشعب العلمية والتقنية والأصيلة)

تحليل ومناقشة نص فلسفي ( الامتحان الوطني مادة الفلسفة 2010 )

الامتحان الوطني مادة الفلسفة 2010 دورة يونيو للشعب العلمية والتقنية

« إن المعيار الغالب للحكم على أن الشخص هُوَ هُوَ، كما يرى الحس العام، هو استمرارية الجسد المادية عبر الزمن، وهو المعيار نفسه الذي نستخدمه للحكم على أن الدراجات الهوائية أو غيرها هي نفسُها دون سواها. أما إذا تحدثنا بخلاف ذلك، فإن حديثنا سيكون على سبيل الاستعارة (كأن أقول مثلا أنا إنسان جديد)، فلو صَحَّ هذا القول لما كان بوسعي التفوه به. وحقيقةً أننا نشعر أن هويتنا الجسدية عبر الزمن أمر معقد وأنها تتأكد من خلال المعرفة الداخلية بماضينا التي تأتي بها الذاكرة. يجب ألا يُثير دهشتَنا على الإطلاق كون الذاكرة نفسها تتصل بالضرورة بأدمغتنا وبأجسادنا. وإذا كانت ذكرى الماضي قد سببها ما حَدَثَ لنا، أي ما حدث لأجسادنا وأدمغتنا، فمن غير المدهش أن استمرارية هذه الأجساد عبر الزمن يجب في بعض الأحيان على الأقل، أن يتأكد من خلال معيار الذاكرة».
حلل النص وناقشه


المرجع: الامتحان الوطني لمادة الفلسفة دورة يونيو 2010 (كل مسالك الشعب العلمية والتقنية والأصيلة) / ميري ورنوك، الذاكرة في الفلسفة والأدب، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، 2007. ص108-109 (بتصرف)


مطلب الفهم

حين تناول الفلاسفة والمفكرون موضوع “هوية الشخص” عبر التاريخ، وجدوا أنها تقوم على خصائص ومقومات جوهرية، من قبيل الفكر، الوعي، الإرادة، الذاكرة… هذه المحددات هي ما تمنح الشخص الوعي بالذات والشعور بالهوية وتجعله مطابقا لذاته ومختلفا عن الآخرين، ومنه فقد طرح التفكير في هذه الإشكالية سؤال الأساس الجوهري الذي تقوم عليه “هوية الشخص”، إذا ما كان يتحدد في الفكر أو الوعي والذاكرة أو الإرادة، أو وحدة الطبع…

من ناحية ثانية، إذا كانت الهوية الشخصية في مبدئيتها تُقاس بالثبات والاستمرارية، فهذا الأمر جعل المفكرين في الفلسفة والعلوم الانسانية، يعيدون النظر في مسألة “هوية الشخص” إذا ما كانت تظل ثابتة أم أنها تقبل التغير والتعدد. هكذا إذن نجد أن قضية “هوية الشخص” تحمل جملة من المفارقات والتقابلات يمكن صياغتها والتعبير عنها من خلال التساؤلات الفلسفية التالية:


مطلب التحليل

بعد قراءتنا وفهمنا لمضمون النص، يتبين لنا أنه يدافع عن أطروحة فلسفية قوامها أن ” هوية الشخص، أو ما يجعل من الشخص “هو هو” مطابقا لذاته، لا تتحدد في استمرارية الجسد المادية عبر الزمن، بل من خلال المعرفة الداخلية بماضينا التي تتم من خلال الذاكرة، مما يفيد أن الذاكرة هي المعيار الذي تتأسس عليه حقيقة الشخص الثابتة أو هويته الشخصية، وهي ما تمنح الشخص الوعي المستمر بذاته في الزمان”.

وفضلا عن هذا، فقد بنى صاحب النص أطروحته بالاعتماد على المفاهيم التالية: “الذاكرة” “الشخص” “الهوية الشخصية” فما دلالة هذه المفاهيم؟ يحيل “مفهوم الشخص” في دلالته الفلسفية على “الانسان بما هو ذات فردية تتصف بخصائص الفكر والعقل، الوعي والإرادة، الأخلاق، الحرية والمسؤولية..، وفي هذا السياق يقول “كانط: “إن الشخص هو الذات التي تنسب إليها مسؤولية أفعالها واختياراتها، مسؤولية قانونية وأخلاقية”. أما مفهوم “الهوية الشخصية” فتحيل على مجموع الخصائص الجوهرية التي تؤلف وحدة الذات والتي بمقتضاها يتميز الشخص عن غيره ويكون مطابقا لذاته باعتباره هو هو نفسه، وبغض النظر عن مختلف التغيرات التي تطاله عبر مختلف مراحله العمرية اللاحقة”، في حين يشير “مفهوم الذاكرة” إلى “تلك البنية الذهنية المعرفية التي تقوم بوظيفة تخزين المعلومات والأحداث والذكريات الماضية، وكل ما راكمه الشخص من تجارب شخصية في حياته السابقة”.

وفي سياق العلاقة الدلالية بين هذه المفاهيم، يمكن القول أن هوية الشخص تتأسس على وظيفة الذاكرة نظرا لكونها العنصر الجوهري المسؤول عن الوعي الذي يربط أفعال الشخص الحالية بأفعاله الماضية ويجعله يعي ذاته باستمرار باعتباره “هو هو”.

أما فيما يتعلق بالحجج الموظفة في الدفاع عن الأطروحة، فقد اعتمد صاحب النص على مجموعة من الأفكار الحجاجية، حيث استهل نصه بنقد تصور الحس العام (الحس المشترك) لطبيعة هوية الشخص في ربطه للهوية باستمرارية الجسد المادي عبر الزمن، وقدم مثالا في هذا السياق بالدراجات الهوائية التي نحكم على أنها هي نفسها دون سواها انطلاقا من خصائصها العرضية المادية، ثم في المقابل أكد أن هويتنا تتأكد من خلال المعرفة الداخلية بماضينا التي تتم من خلال الذاكرة، مما يعني أن الذاكرة هي المعيار الذي تتأسس عليه هويات الأشخاص.


مطلب المناقشة

المناقشة الداخلية

وبمساءلتنا لأطروحة النص من الناحية النقدية وتحديدا على مستوى قيمة الأطروحة، نجدها تكتسي قيمة واقعية ومنطقية، فمن الناحية الواقعية، يستمد الشخص وعيه بذاته وشعوره بوحدته وهويته انطلاقا من معطيات واحداث ذاكرته التي راكمها هو نفسه من خلال تجاربه الحسية السابقة، والتي لازال يحتفظ بها عبر الوظيفة التذكرية للذاكرة التي تربط أفعاله الحاضرة بذكرياته الماضية، والتي لا تمنحه فقط الوعي بالأحداث الماضية وبالعالم الخارجي من حوله، بل تمنحه أيضا الوعي بالذات المستمر في الزمان. 

ومن الناحية المنطقية مادامت الهوية في مبدئيتها تقتضي الثبات والتطابق، وأن A دائما هي A والشخص دائما هو نفسه، فلا يمكن إقامتها على الجسد لأنه متغير باستمرار. وكمثال على ذلك؛ الشخص الذي يخضع لعملية تجميل جذرية، رغم تغييره لشكله ومظهره الخارجي، إلا أنه لا يستطيع تغيير هويته الشخصية طالما لم يحدث خلل في ذاكرته، فما دامت ذاكرته تقوم بوظائفها على نحو سليم ومتسق، فستذكره باستمرار بماضيه ومختلف مراحله وتجاربه السابقة المخزنة في ذاكرته، مما لا يدع مجالا للشك والحالة هذه، أن للهوية الشخصية ارتباطا وثيق الصلة بالوظائف السيكولوجية والمعرفية للذاكرة كمعطى جوهري داخلي يمد الشخص بالوعي المستمر بوحدة الذات وتطابقها مع ذاتها، وليس بالسمات المادية العرضية المتغيرة للجسد.

لكن كحدود للأطروحة السالفة الذكر، نجد أن الذاكرة أيضا معرَّضة للتلف والنسيان والضياع، في حالة الإصابة بالأمراض والاضطرابات العقلية كفقدان الذاكرة الكلي أو الجزئي، ومنه إذا قمنا بربط هويات الأشخاص بالذاكرة فهذا سينسف القول بثبات الهوية واستمراريتها، لتصبح بذلك معطى قابل للتغير، وهذا ما درج الفكر الفلسفي المعاصر على الأخذ به بعد انفتاح الفلسفة المعاصرة على العلوم الانسانية وتحديدا علم النفس الذي سلط الضوء على دراسة الأمراض النفسية والعقلية والعصبية. ليتبين أن مفهوم الهوية الشخصية في سياق الفكر الفلسفي المعاصر، أصبح ذو علاقة بالجانب الوجداني والسيكولوجي من الذات الانسانية، وليس فقط بالجوانب المعرفية والعقلية المحددة للوجود الانساني الذاتي.


المناقشة الخارجية

إغناءََ للنقاش الفلسفي الدائر بخصوص “إشكالية الهوية الشخصية” يمكن الانفتاح على أطروحة الفيلسوف العقلاني الفرنسي “روني ديكارت”، ففي سياق بحثه عن حقيقة الشخص، لم يحصر “ديكارت” حقيقة الذات في الجسم لأنه متغير، وعكس ذلك يرى بأن أساس هوية الشخص هو الفكر، فبدون الفكر لا يمكن للشخص أن يعي ذاته ووجوده ولا يمكنه ان يبلغ الحقيقة بما في ذلك حقيقة الوجود الذاتي أو الهوية الشخصية، وبالتالي، متى انقطع الشخص عن التفكير انقطع عن الوجود، مما يعني أن الفكر هو ما يؤسس الهوية الشخصية وهي هوية ثابتة مادام الفكر عنصر جوهري ثابت.

لكن، إذا كان ديكارت يحصر هوية الشخص في الفكر المجرد، فعلى خلاف ذلك، يرى الفيلسوف الانجليزي “جون لوك” أن ما يجعل الشخص مطابقا لنفسه رغم تغيرات الزمان والمكان هو الشعور المرتبط بالفكر كإحساس؛ فعندما يصدر عن الشخص فعلُُ ما، يكون مصحوبا بالمعرفة والإحساسات، هذا الشعور المصاحب للفكر ينتج وعيا مستمرا في الزمن بفعل الذاكرة التي هي امتداد لهذا الوعي في الماضي والحاضر ، هذا الوعي هو الذي يربط أفعال الشخص الماضية بأفعاله الحالية فيجعله “هو هو”، مطابقا لذاته، ومتميزا عن غيره مما يعني أن الوحدة والاستمرارية هما ما يكون الهوية الشخصية.

خلافا لكل من الموقف “العقلاني” و”التجريبي” اللذان أكدا على ثبات هوية الشخص ينطلق “لاشوليي” في تصوره للهوية الشخصية من مرجعية نفسية سيكولوجية فهو يرى ان الهوية الشخصية تقوم على عمل آليتين نفسيتين: دوام نفس المزاج (الطبع) أي ردود الأفعال المطبوعة بطابع شخصي، وترابط الذكريات.  وينتقد التصور الماهوي لهوية الشخص القائم على فرضية وجود جوهر ثابت، فالهوية في نظره ليست شعورا أو وعيا قبليا بل هي طبع متحول وذاكرة متغيرة، ويستند “لاشوليي” لتأكيد تصوره على حالات واقعية مثل تحول الانسان من حال إلى آخر بين النوم واليقظة وفقدان الذاكرة وبعض الحالات المرضية النفسية كازدواجية الشخصية.


مطلب التركيب

بعد انتهائنا من معالجة إشكالية “الهوية الشخصية” تبين لنا على مستوى التحليل أنها لا تتأسس على استمرارية الجسد المادية، بل تقوم على الذاكرة كمعطى جوهري يمنح الذات الوعي بذاتها والشعور بوحدتها وتطابقها مع ذاتها، أما على مستوى المناقشة فإن القول بالذاكرة كأساس لهوية الشخص يتضمن إحراجا مفاده ان الذاكرة قابلة للتلف والفُقدان، ومنه فليست هي الأساس المفترض الوحيد لفهم طبيعة هوية الشخص، ذلك ان هذه الأخيرة تفترض أسسا ومقومات جوهرية أخرى، كالفكر الذي يعبر عن حقيقة الوجود الذاتي والهوية الشخصية، وكذلك الشعور المرتبط بالفكر كإحساس  وفضلا عن هذا، فللهوية أيضا علاقة بالجانب الوجداني والمعرفي على حد سواء، كوحدة الطبع والمزاج وترابط الذكريات حيث لم تعد تتأسس على جوهر ثابت، بل أصبحت قابلة للتغير.

أما فيما يتعلق برأيي الشخصي، أرى أن الفهم المتكامل لقضية هوية الشخص يقتضي استحضار كل الخصائص والمقومات الجوهرية المحددة للذات الانسانية “الشخص”، (الفكر والعقل، الوعي، الإرادة الشعور، الإحساس، الذاكرة…) التي في تفاعلها وانصهارها تمنح الشخص شعورا مستمرا بوحدة الذات ووعيا ملازما له بتطابقه مع ذاته. لكن مادام كل جواب فلسفي يصبح سؤالا من جديد، نتساءل: إذا كانت هوية الشخص وفقا لما سلف ذكره ترتبط بالخصائص والمقومات الجوهرية الذاتية، ألا يمكن الحديث عن دور الثقافة والمجتمع في تحديد هوية الشخص؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى