مفهوم الحقيقة

المحور الثاني (2) معايير الحقيقة | مفهوم الحقيقة | مجزوءة المعرفة

يميز الفلاسفة والمفكرون في الحقيقة بين نوعين “حقائق تتعلق بالاستدلال العقلي، وحقائق تتعلق بالوقائع. حقائق الاستدلال العقلي حقائق ضرورية ونقيضها غير ممكن، بل مستحيل، والحقائق المتعلقة بالوقائع هي حقائق جائزة ونقيضها ممكن”. يتضح من هذا القول أن حقائق الاستدلال العقلي تختلف عن الحقائق المتعلقة بالوقائع، فإذا كانت صلاحية الأولى تبني على عدم التناقض المنطقي، فإن صدق الثانية يتأسس على التطابق مع الواقع. هذا بالرغم من أن المرحلة المعاصرة شهدت بروز تصورات أخرى للحقيقة تربطها بمعايير جديدة تتجاوز عدم التناقض المنطقي والتطابق مع الواقع وتربطها بالمنفعة والفائدة. من هنا نتساءل:

تقديم إشكالي بطريقة أخرى (أنقر هنا)

اهتمام الفلاسفة والمفكرين بمسألة المعرفة جعلهم ينقسمون بصددها إلى فريقين كبيرين: العقليوون، ويرون أن العقل وحده مصدر المعرفة الحقة، وأنه ملكة وقوة فطرية في الناس جميعا، قوامه مبادئ أولية أو استعدادات فطرية سابقة على الحس والتجربة. وأنه موزع على الناس بالتساوي، بحيث لا يختلفون في امتلاكه، بل في طرق استعماله. والتجريبيون، وهم يذهبون بالعكس من ذلك، إلى القول بأن جميع أنواع المعرفة التي يحصلها الانسان مكتسبة ومستقاة من التجربة والحس؛ وأنه لا وجود لمبادئ فطرية ولا للأفكار قبلية في العقل، فما يسميه العقلانيون أفكارا فطرية في العقل، هي في الواقع إحساسات جرى إكتسابها عن طريق الادراك الحسي، فترسخت في الذاكرة بفعل العادة والتكرار لمعطيات التجربة الحسية، والعقل نفسه ليس إلا مجموعة قدرات ذهنية مكتسبة. وشعار الجريبيين في ذلك “لايوجد في العقل شيء إلا وقد سبق وجوده في الحس”. هذا التباين في المنطلقات المعرفية والمنهجية للحقيقة، بين النزعتين العقلانية والتجريبية، جعلهم يختلفون في النظر للأساس والمعيار الذي تبنى عليه الحقيقة، وعمق إشكالية المعيار المعتمد لبلوغها في العصر الحديث، وتأسيسا على هذا التقابل، تنبع الإشكالية الفلسفية للحقيقة في علاقتها بالمعيار المؤسس لها، وهي إشكالية يمكن صياغتها من خلال الأسئلة التالية: على ماذا تتأسس الحقيقة؟ ما معيار صدقها؟ هل هو معيار عقلي صوري، أم مادي تجريبي؟ وهل يمكن الحديث عن معايير أخرى للحقيقة؟

معايير الحقيقة

أطروحة “روني ديكارت”

ينطلق ” ديكارت ” في تصوره للحقيقة من الشك في المعرفة الحسية، حيت اعتبر الحواس خادعة ولا يمكن الاستناد عليها في تأسيس معرفة يقينية. إن الحقيقة في نظر “ديكارت” هي المعرفة البديهية الواضحة والمتميزة والتي تدرك بنور العقل مباشرة أي بواسطة “الحدس intuition ” ” وهو تلك الرؤية العقلية المباشرة التي تكشف لنا عن حقائق يقينية، ودون المرور عبر وساطة الاستدلال أو الحواس”. إضافة إلى الحدس كمعيار للحقيقة هناك “الاستنباط Déduction “، “وهو العملية العقلية التي نستنتج بها من الحقائق الحدسية، حقائق أخرى تلزم عنها وفق الضرورة المنطقية”، إذن مع ” ديكارت ” فالمنهج العقلي في بُعده الرياضي القائم على الحدس والاستنباط هو طريق بلوغ الحقيقة. فالحقيقة توجد في العقل، ومعيارها في ذاتها ولا تحتاج إلى معيار خارجي يميزها عن الأفكار الخاطئة، بمعنى تكون الأفكار حقيقية بحكم بداهتها العقلية وليس مطابقتها للواقع.

أطروحة ديكارت بصيغة أخرى (أنقر هنا)

ينص «ديكارت» في القاعدة الأولى من قواعد المنهج العقلي في كتابه «مقال في المنهج»: «علي أن لا أقبل شيئا ما على أنه حق ما لم أعرف بديهيا أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور والسبق إلى الحكم قبل النظر، وأن لا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في وضوح وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع شك» تبين هذه القاعدة أن معيار الحقيقة عند ديكارت، يكمن من جهة في البداهة، ذلك أن الفكرة الحقيقية هي الفكرة التي تفرض ذاتها على العقل وتبدو في وضوح وتميز إلى حد لا يخالطها الشك من قريب أو بعيد. ومن جهة ثانية يكمن معيار الحقيقة في الوضوح والتميز . ويعني به ديكارت قائلا «أعني بالفكرة الواضحة الفكرة الحاضرة المتجلية لذهن منتبه، أي كونها غير غامضة. وهكذا فمعيار الحقيقة في  المنظور الديكارتي هو معيار البداهة والوضوح، فحقيقة فكرة ما، لا تتأسس إلا على بداهتها ووضوحها بعد مرورها بميزان العقل وأفعاله المتمثلة في الحدس والاستنباط.

معيار الحقيقة عند ديكارت ( عقلي يتمثل في البداهة والوضوح)

ينص «ديكارت» في القاعدة الأولى من قواعد المنهج العقلي في كتابه «مقال في المنهج»: «علي أن لا أقبل شيئا ما على أنه حق ما لم أعرف بديهيا أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور والسبق إلى الحكم قبل النظر، وأن لا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في وضوح وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع شك».

تبين هذه القاعدة أن معيار الحقيقة عند ديكارت، يكمن من جهة في البداهة، ذلك أن الفكرة الحقيقية هي الفكرة التي تفرض ذاتها على العقل وتبدو في وضوح وتميز إلى حد لا يخالطها الشك من قريب أو بعيد. ومن جهة ثانية يكمن معيار الحقيقة في الوضوح والتميز . ويعني به ديكارت قائلا «أعني بالفكرة الواضحة الفكرة الحاضرة المتجلية لذهن منتبه، أي كونها غير غامضة. وهكذا فمعيار الحقيقة في  المنظور الديكارتي هو معيار البداهة والوضوح، فحقيقة فكرة ما، لا تتأسس إلا على بداهتها ووضوحها بعد مرورها بميزان العقل وأفعاله المتمثلة في الحدس والاستنباط.


أطروحة ديكارت معايير الحقيقة البداهة والوضوح

الأطروحة الثانية لـ “جون لوك”: الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع

خلافا للتصور العقلاني للحقيقة يعتبر الفلاسفة التجريبيون وعلى رأسهم ” جون لوك” أن العقل لا يحمل معه بشكل قبلي مبادئ فطرية جاهزة، بل هو صفحة بيضاء وأن التجربة هي التي تمدنا بالمعارف والأفكار. ويميز “جون لوك ” بين نوعين من الأفكار: “أفكار بسيطة” التي مصدرها الحواس مثل: الشكل، الامتداد والحركة…، و “أفكار مركبة” وهي التي يعمل العقل على تركيبها من “الأفكار البسيطة”، كفكرة الجوهر والسببية واللامتناهي… إذن فكل الأفكار مصدرها “التأثيرات الحسية” وهي التي تمكننا من التمييز بين الصدق والكذب. وهكذا فمعيار الحقيقة مع ” جون لوك ” هو مطابقتها للواقع الحسي التجريبي وليس مطابقتها مع العقل ذاته.

الأطروحة الثالثة لـ “إيمانويل كانط” (1724-1804) “معيار الحقيقة، صوري ومادي”

يميز كانط بين معيارين للحقيقة: أحدهما مادي والآخر صوري، فالمعيار المادي يتعلق بالحقائق من جهة ارتباطها بالموضوعات المادية التجريبية، فهو ينظر في مدى مطابقة الفكر للواقع، ذلك أن صدق فكرة ما يتوقف على ملائمتها ومطابقتها لموضوعها الخارجي، أما “المعيار الصوري” فيتعلق بالحقائق من جهة ضرورتها أي من جهة ارتباطها بالفهم والعقل، فهو ينظر في مدى مطابقة الفكر لذاته، ذلك أن صدق فكرة ما يتوقف على مدى مطابقتها لذاتها، أي انسجامها مع مبادئ العقل القبلية، وبهذا فإن المعيار الصوري ليس شيئا آخر سوى القوانين المنطقية الكونية للفهم والعقل. وهكذا فالحقيقة في تصور كانط صورية ومادية، لا توجد في الفكر وحده ولا في الواقع وحده على نحو جاهز بل هي بناء وتشييد، أي انتظام الواقع وفقا لبنية الفكر ونظامه القبلي المتعالي. أي أن الحقيقة بناء يسهم فيها ما هو عقلي وما تجريبي.

أطروحة “وليام جيمس” “الحقيقي هو المفيد”

في نهاية القرن (19م) وبداية القرن العشرين، وتحت تأثير تطور العلم والنتائج التي أحرزها بفضل تركيزه على الناحية العملية (التطبيقية)، وتجنب الخوض في المسائل التي لا طائل من ورائها، تذهب النزعة البراغماتية بزعامة “وليام جيمس” إلى إعطاء الحقيقة معنى جديدا تبتعد بها عن مبدأ مطابقة الفكر لموضوعه، فالأفكار لا تستمد حقيقتها من ذاتها، ولا تكتسب قيمتها من مطابقتها للواقع التجريبي، وإنما تكون حقيقية بالنظر الى مردوديتها على حياة الانسان ومدى ما تقدمه له من منفعة ونجاح. فالمعيار الوحيد الذي يصلح للتمييز بين الأفكار الحقيقية وبين غيرها، هو معيار المنفعة. يقول “وليام جيمس” “إن امتلاك أفكار صحيحة، يعني على وجه الدقة امتلاك أدوات ثمينة للعمل”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى