مفهوم الحقيقة

المحور الأول (1) الحقيقة والرأي | مفهوم الحقيقة | مجزوءة المعرفة

منذ نشأة الفكر الفلسفي عند الإغريق اعتبرت الحقيقة غاية كل إنسان محب للحكمة، ومسعى لكل مجهود للمعرفة، بل أكثر من هذا فهي هدف لمختلف أصناف المعرفة البشرية ولمختلف أشكال الخطابات التي أنتجها الواقع البشري تاريخيا والخطابين الفلسفي والعلمي منها على وجه التحديد.

المحور الأول: الحقيقة والرأي

في سياق الحياة اليومية و مجال الحس المشترك كمجال للتواصل والتفاعل الاجتماعي بين الذوات البشرية، يُعبر الناس عن آرائهم باعتبارهم يتكلمون من منطلق الحقيقة، فيتبادلون الكثير من المعارف والأفكار بخصوص المواضيع والقضايا التي تشغل بالهم أو تستأثر باهتمامهم، إلا أن الملاحظ دائما، هو اختلاف هذه الآراء باختلاف الأشخاص إلى حد التناقض أحيانا.

هنا تُطرح صعوبة التمييز بين الصواب والخطأ، وبين ما هو باطل وما هو صحيح، مما يعني أن الحقيقة، لا تُعطى جاهزة في مجال الرأي، بل تتخللها الشوائب، الأخطاء، المغالطات، التدليس، والأوهام أحيانا، لهذا يقتضي التوصل إلى الحقيقة وبُلوغها؛ إحداث قطيعة مع الآراء الشائعة بين الناس، والتخلي عن الأساليب المشتركة والمتداولة في الحكم على الأمور.

يبدو إذن: أن الرأي انطباع شخصي يكونه الفرد بناء على إدراكه الحسي المباشر، ومن ثمة فهو يعكس التجربة العامية والمشتركة بين الناس، وهو ليس ناتجا عن تفكير أو تأمل عقلي؛ مما يجعله عائقا يحول دون الوصول إلى مستوى الحقيقة. إضافة إلى ذلك، يكشف الواقع أن الآراء عادة ما تختلف باختلاف  الأشخاص، مما يعني أن بعض هذه الآراء خاطئة.

أما الحقيقة فهي تجاوز للرأي، ويحددها “لالاند” في معجمه الفلسفي بقوله” (1)الحقيقة هي خاصية ما هو حق، (2)وهي القضية الصادقة (3)وما تمت البرهنة عليه، (4)وشهادة الشاهد الذي يحكي ما فعله أو ما رآه، (5)والحقيقة بمعنى أعم هي الواقع“.

من خلال هذين التعريفين تنبع الإشكالية الفلسفية للحقيقة في علاقتها بالرأي، وهي إشكالية يمكن صياغتها من خلال مجموعة مترابطة من الأسئلة:

ما الحقيقة؟ وما الرأي؟ وما طبيعة العلاقة بينهما؟ هل يعبر الرأي عن الحقيقة؟ أم أن الحقيقة تستدعي إحداث قطيعة مع الرأي؟


خطاطة عامة لفهم الدرس

الحقيقة والرأي

الحقيقة في الحس المشترك

عادة ما تتضارب وتختلف (الحقائق) ووجهات النظر التي يعبر عنها الناس في مجال الحياة اليومية، نظرا لتعدد الأسس التي ينطلق منها الأفراد في حديثهم، فتتصف الحقيقة في هذا السياق بكونها: متعددة، مختلفة، متغيرة، نسبية، متناقضة، غير واضحة، تفتقد للدقة، وأحيانا كاذبة أو متوهمة وغير صحيحة… ومادامت الحقيقة تفترض الثبات والصدق، والصواب واليقين، فهي لابد أن تكون واحدة، ومن ثمة فلابد أن تكون الحقيقة تجاوزا للرأي وقطيعة معه.


الحقيقة في الفلسفة

إذا كان من ضمن التعاريف التي أعطيت للفلسفة أنها بحث عن الحقيقة، فإن الحقيقة هي الغاية النهائية لكل تفكير أو خطاب فلسفي، ذلك أن الانسان يفكر ويتكلم من أجل الحقيقة وعلى أساسها. وما دامت الحقيقة مطلبا كونيا، فإن الفلسفة منذ نشأتها التاريخية، حَمِلت على عاتقها مهمة تخليص المعرفة من الأوهام والأخطاء والمغالطات، ومن ثمة كرَّسَتْ جهدا لمعرفة المبادئ والأسس الضرورية التي تُبنى عليها الحقيقة بناء موضوعيا يوصلها إلى المعرفة اليقينية بخصوص المواضيع والظواهر والقضايا المُفكر فيها. وعلى هذا الأساس ستشكك بعض الفلسفات في الرأي مؤكدة بأن الحقيقة بناء يتقاطع مع الرأي.


أطروحة ريني ديكارت René Descartes
الحقيقة بناء يقتضي الشك في الرأي


أنقر هنا لقراءة النص (ضرورة مراجعة الأفكار السابقة)
أطروحة ديكارت هوية الشخص

كنت قد انتبهت منذ سنواتي الأولى إلى أني قد تقبلت كمية من الآراء الخاطئة على أنها آراء حقيقية وصادقة، وإلى أن ما أقمته على هذه المبادئ غير المؤكدة لا يمكن أن يكون إلا أمورًا مشكوكا فيها وغير مؤكدة ؛ وذلك بحيث كان علي أن أقوم، مرة واحدة في حياتي، بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها وصدقتها إلى ذلك الوقت، وأن أبدأ كل شيء من جديد ابتداءً من الأسس، وذلك إذا ما كنت أريد أن أقيم قدرًا من اليقين الصلب والثابت في المعارف والعلوم.

لكن بدا لي في ذلك الوقت أن هذه المهمة كبيرة جدا بالنسبة لعمري، فانتظرت إلى أن أبلغ أقصى سن أصبح فيه أكثر نضجا، بحيث أستطيع إنجاز هذا الأمر والآن، وقد أصبح فكري حرًا من كل القيود، كما أنني قد حققت لنفسي راحة أكيدة في إطار عزلة مريحة، فسأقوم بكل جدية، وبكل حرية، بتقويض كل آرائي السابقة.

والحال أنه لن يكون من الضروري، لكي أبلغ هذا الهدف، أن أبرهن على أن كل الآراء التي تلقيتها وتقبلتها هي آراء خاطئة، لأن تلك مهمة لن أستطيع الذهاب فيها إلى نهايتها ؛ لكن بما أن العقل يقنعني بأن علي ألا أتردد في تصديق بعض الأشياء التي ليست تامة اليقين بنفس القدر الذي يمكن أن أصادق فيه على أشياء تبدو لنا خاطئة بشكل جلي، فإن أدنى عنصر شك أعثر عليه فيها يكفي ليجعلني أرفضها.

ومن أجل ذلك فليست هناك حاجة إلى أن أختبر كل شيء منها على حدة لأن ذلك سيكون عملاً لا نهاية له ؛ لكن بما أن هدم الأسس يتلوه، ضرورة، انهيار بقية البناء كله، فإني سأوجه هجومي أولا إلى المبادئ المؤسسة التي كانت تستند إليها آرائي السابقة.


René Descartes, Méditations métaphysiques, Flamarion, Paris 1979, première méditation.


إن الحقيقة حسب “ديكارت” تنفصل عن الرأي وتتعارض معه، إنها بناء عقلي استدلالي، يقتضي هدم الآراء السابقة والمبادئ والأسس غير المؤكدة، عبر وضعها موضع شك، كخطوة أولى نحو إقامة قدر من اليقين الصلب والثابت في المعارف والعلوم. والشك، عند ديكارت هو بداية طريق الحقيقة، فهو شك منهجي يتم من خلاله تعليق الحكم بشكل مؤقت بغرض تأسيس اليقين. وهو كذلك خطوة منهجية تهدف إلى هدم ما تم قبوله مسبقا من أجل بناء المعرفة على أسس يقينية ثابتة وأكثر صلابة.

وهذا يعني أن الشك في الآراء السابقة وهدمها وفي شهادة الحواس، بل والشك في كل شيء، ليس إلا نقطة البداية، لأن بلوغ الحقيقة اليقينية يقتضي، حسب “ديكارت”، منهجا لحسن قيادة العقل. وهذا المنهج يتشكل من خطوات بسيطة (قاعدة البداهة والوضوح – التحليل – التركيب – الإحصاء أو المراجعة الشاملة) تضمن لمن يتبعها بدقة بلوغ الحقيقة بصدد جميع القضايا التي يُبْحَثُ فيها.

هكذا إذن: نستنتج أن بناء الحقيقة مع “ديكارت” يقتضي هدم الآراء السابقة، عبر الاعتماد على منهج يتأسس على الشك ويعتمد على أفعال الحدس والاستنباط.


أطروحة ديكارت الحقيقة لا تعطى جاهزة بل هي بناء يتجاوز الرأي وتقتضي إعمال الشك المنهجي في الآراء السابقة

أطروحة بليز باسكال (Blaise Pascal)‏
(حقائق القلب وحقائق العقل)


أنقر هنا لقراءة النص (الرأي عائق أمام بناء المعرفة العلمية)
أطروحة باسكال حقائق القلب وحقائق العقل

نعرف الحقيقة لا بواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب. فعن طريق هذا الأخير نعرف المبادئ الأولى التي يحاول الاستدلال العقلي، الذي لا حظ له منها، هدمها. إن البيرونيين [الشكاك]، الذين لا موضوع لهم غير التشكيك في تلك المبادئ، يعملون بدون فائدة. نحن نعلم أننا لسنا في حلم أبدا. ومهما عجزنا عن إثبات ذلك بالعقل، فإن هذا العجز لا يتضمن سوى عجز عقلنا عن ذلك، وليس لتهافت معارفنا وعدم اليقين كما يزعم الشكاك.

إن معرفة المبادئ الأولى مثل المكان والزمان والحركة والأعداد هي من الصلابة بحيث تتجاوز سائر المبادئ التي يقدمها لنا الاستدلال العقلي. إنما ينبغي على العقل أن يستند، لتأسيس خطابه بكامله، على المعارف الصادرة عن القلب والغريزة. فالقلب يشعر أن هناك ثلاثة أبعاد في المكان، وأن الأعداد لانهائية، وبعد ذلك يأتي العقل ليبرهن أن لا وجود لعددين مربعين يكون أحدهما ضعف الآخر.

إننا نشعر بالمبادئ، أما القضايا فيستخلص بعضها من بعض، والكل له نفس اليقين وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه. ومن غير المفيد كذلك، بل من المثير للسخرية أن يطلب العقل من القلب البرهنة على مبادئه الأولى حتى يتوافق معها، ومن المثير للسخرية أيضا أن يطلب القلب من العقل أن يشعر بجميع القضايا التي يبرهن عليها حتى يتلقاها منه.


باسكال، خواطر، الفقرة 52 قدمها ورتبها من جديد مارسيل غرسان، النادي الفرنسي للكتاب 1963، ص: 22-23.


يأتي مضمون أطروحة «باسكال» في سياق يرد فيه على من يقول «إن العقل وحده مصدر الحقيقة» مؤكدا في ذلك أن العقل لا يمكنه معرفة كل شيء، ولا يمكنه احتكار الحقيقة، ومقدما في نفس الإطار طرقا أخرى تؤدي إلى إدراك الحقيقة، وهي القلب والشعور؛

فحين يعجز عقلنا عن إدراك بعض الحقائق فذلك لايعني استحالة المعرفة وعدم إمكانيتها ويقينيتها، لأنه ما دامت الحقيقة تتأسس على المبادئ، فإن معرفة المبادئ الأولى مثل المكان والزمان والحركة والأعداد تتأسس على القلب والحدس، فالقلب يشعر بالمبادئ ثم يأتي العقل بعد ذلك ليتخذ من المبادئ التي أنتجها القلب أساسا للبرهان, ویوظفها في عملية الاستدلال، فيصِلُ الى قضايا تتمتع بنفس درجة يقين المبادئ التي نتجت عنها، أي تلك المبادئ التي أنتجها القلب بداية. يقول «باسكال» «إننا نشعر بالمبادئ، أما القضايا فيستخلص بعضها من بعض، والكل له نفس درجة اليقين وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه»

الحقيقة في العلم

أطروحة غاستون باشلار Gaston Bachelard
(” الرأي عائق أمام بناء الحقيقة العلمية”)


أنقر هنا لقراءة النص (الرأي عائق أمام بناء المعرفة العلمية)
أطروحة باسكال حقائق القلب وحقائق العقل

إن معرفة الواقع هي بمثابة تسليط للضوء يترك بعض الضلال. فعملية إنشاء المعرفة العلمية ليست أبدا عملية مباشرة وكاملة. فانكشافات الواقع هي انكشافات تقوم على التراجع إلى الوراء. فالواقع ليس هو ما كان بإمكاننا أن نعتقد، بل هو ما يكون مطلوبا منا التفكير فيه … فالحقيقة العلمية يتم التوصل إليها عبر العودة إلى الأخطاء الماضية، أي عبر عملية ندم ومراجعة فكريين. وفي الواقع فالمعرفة العلمية هي معرفة تتم دومًا ضد معرفة سابقة، وذلك بتقويض المعارف غير المصاغةِ صياغةََ جيدة، وبتخطي ما شكل، في النفس المفكرة، عائقا أمام عملية التعقل المعرفي.

إن العلم، من حيث حاجته إلى الاكتمال كما في مبدئه نفسه، يتعارض تعارضًا مطلقا مع الرأي. وإذا ما حصل أن أعطى العلم الشرعية للرأي، فذلك لأسباب أخرى غير الأسباب التي يقوم عليها الرأي : لدرجة تسمح بالقول بأن الرأي، من الناحية المبدئية، هو دوما خاطئ.

الرأي يفكر تفكيرا ناقصا، بل إنه لا يفكر : إنه يعبر عن حاجات معرفية. إن الرأي وهو يتناول الموضوعات من زاوية نفعها وفائدتها، يحرِّم على نفسه معرفتها . لذا لا يمكن أن نؤسس أي شيء على الرأي بل يجب أولا أن نقضي عليه. إنه العائق الأول الذي يتعين تجاوزه في مجال المعرفة العلمية. ولا يكفي مثلا أن نعدله في نقط معينة ونحافظ على المعرفة العامية الشائعة ولو بصورة مؤقتة. فالروح العلمية تمنع علينا أن يكون لنا رأي فيما يخص القضايا التي لا نفهمها أو لا نعرف كيف نصوغها بوضوح … لا شيء في العلم يسير بديهيا من تلقاء ذاته، لا شيء معطى، بل إن كل شيء فيه مُنشأ ومبني.»


G. Bachelard, La formation de l’esprit scientifique, éd. Vrin, Paris, 1970, pp. 13-14


يبين “باشلار” من منظور “الابيستيمولوجيا المعاصرة” أن الحقيقة العلمية تنفصل عن الرأي، ذلك أن هناك تعارضا جذريا بينهما، فالرأي مبني على الاعتقادات الرائجة والمشتركة بين الناس، وتناوله للموضوعات والأشياء يتم من زاوية نفعها وفائدتها مما يجعله غير قادر على معرفتها، واعتقاد الناس وتصديقهم بالآراء مرتبط بحاجتهم إلى معارف وحقائق تخدم حياتهم وتلبي منافعهم ولذلك فإن الرأي في المعرفة العلمية يشكل حسب “باشلار”

عائقا كونه لا يفكر أو يفكر تفكيرا سيئا ، وهذا يقتضي أولا هدمه وتخطيه، خاصة وان الفكر العلمي سيمنعنا من تكوين رأي حول قضايا لا نفهمها ولا نحسن صياغتها بوضوح، ذلك أن الحقيقة العلمية يتم التوصل إليها عبر العودة إلى الأخطاء الماضية، والقيام بعملية مراجعة فكرية من أجل تقويض المعارف غير المصاغة صياغة جيدة وتخطي ما يقف عائقا أمام المعرفة العلمية.


استنتاج: يتبين من منظور “باشلار” هذا أن الرأي عائق أمام تكون المعرفة العلمية، لذلك يتعين التخلص منه كما يتعين مراجعة المعارف الماضية وتصحيح أخطائها  للوصول إلى الحقيقة العلمية.

زر الذهاب إلى الأعلى