مجزوءة المعرفة

المحور الثاني (2) العقلانية العلمية | مفهوم النظرية والتجربة | مجزوءة المعرفة

المحور الثاني (2) العقلانية العلمية | مفهوم النظرية والتجربة | مجزوءة المعرفة

التأطير الإشكالي لقضية العقلانية العلمية

يتمحور النقاش الفلسفي الدائر في سياق العقلانية العلمية، حول الكيفية التي تُبنى من خلالها المعرفة العلمية في علاقتها بالعقل والدور الذي يلعبه في الوصول للحقيقة العلمية وبناء النظريات العلمية، وتنطوي هذه الإشكالية على تقابل صريح، بين من يرى في العقل بنية ثابتة وجهازا مكتملا لإنتاج المعرفة، اعتمادا على مبادى قبلية لا تتغير ولا تتطور وهذا حال العقلانية الكلاسيكية المنغلقة، التي سيتم تجاوزها بفعل التطورات العلمية المعاصرة في مجال الرياضيات والفيزياء المعاصرة في القرنين 19 و20.

وبين من يرى في العقل بنية دينامية وفعالية منتجة للمعرفة بواسطة مبادئ ومناهج ومفاهيم قابلة للتعدد والتطور وهذا شأن العقلانية العلمية المنفتحة التي ستقيم حوارا جدليا بين مبادئ العقل ومعطيات الواقع، باعتبار التجربة مكملة لعمل العقل ولا غنى عنها في بناء المعرفة العلمية، وفي هذا الصدد سيتجاذب أقطاب هذا النقاش ثلاث أنماط من العقلانية العلمية وهي العقلانية الرياضية، والعقلانية التجريبية، والعقلانية المطبقة:


تقديم محور العقلانية العلمية

العقلانية الرياضية

“إن العقلانية العلمية حسب “ألبيرت آينشتاين” تشتغل بشكل فرضي استنباطي؛ فالمفاهيم والمبادئ والقوانين التي يتكون منها النسق النظري للعلم الفيزيائي والتي تشكل الجزء الأساسي من النظرية العلمية، هي إبداعات حرة للعقل الرياضي، أما التجربة فهي تلعب دور المرشد والموجه في اختيار المفاهيم الرياضية الموظفة في النظرية وهي التي يجب أن تطابق القضايا الناتجة عن هذه النظرية.

المنهج الفرضي الاستنباطي: هو المنهج الأكسيومي وينبني على التسليم بقضايا أولية (أكسيومات أو أوليات) تعبر عن علاقات منطقية بلغة رمزية، وهذه القضايا بمثابة فرضيات يجب ألا تتناقض فيما بينها وبين القضايا المستنبطة أو المستنتجة منها وفق قواعد الاستنباط المنطقي. وقد أصبح هذا المنهج يلعب دورا مهما في مجموعة من العلوم الأخرى وخاصة الفيزيائية سيما في مجال الميكرو-فيزياء.

الاستنباط المنطقي: هو عملية ذهنية يستخلص العقل بواسطتها ضرورة قضية جزئية من قضايا عامة سابقة على أساس قواعد منطقية ويقابله الاستقراء الذي ينتقل من قضايا جزئية إلى قضايا عامة.

تحليل عناصر الأطروحة:

يؤكد صاحب نظرية النسبية أن نسق الفيزياء النظرية يتكون من أفكار ومن قوانين تربط بينها، وقضايا تُشتق منها بواسطة الاستنباط المنطقي، ويحدد “أينشتاين” دور كل من العقل والتجربة في هذا النسق، فالعقل يضفي على النسق بنية متماسكة وهو الذي يبدع بشكل حر الأفكار والمفاهيم، والمبادئ المكونة لها وتبسيطها قدر الامكان. أما التجربة فيكمن دورها في مدى مطابقتها للقضايا المستنبطة من النظرية وفي توجيه العالم وإرشاده في اختيار المفاهيم الرياضية الملائمة التي يقوم بتوظيفها في نسقه النظري.

هكذا يعتبر “أينشتاين” أن البناء الرياضي الخالص باعتباره بناء عقليا محضا، هو الذي من شأنه أن يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين الكفيلة بتفسير ظواهر الطبيعة، في حين أن التجربة لا يمكن أن تكون منبعا للمفاهيم الرياضية النظرية مادام أن” المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي”.

العقلانية التجريبية

يعرض الفيلسوف الألماني ذو النزعة التجريبية المنطقية ” هانز راشنباخ “(1891-1953) موقفه الرافض للمذاهب الفلسفية العقلانية والمثالية في مجال المعرفة العلمية. من خلال ذلك يعرض تصوره لما ترتكز عليه هذه المعرفة. فعلى ماذا تنبني المعرفة العلمية في نظر النزعة الاختبارية؟

يميز “رايشنباخ” بين العقلانية والمعقولية، فالمعقولية صفة للمنهج العلمي الذي يمكن العالم من الوصول إلى المعرفة العلمية، عبر استخدام العقل مطبقا على مادة التجربة، أما العقلانية فهي مذهب فلسفي يرتكز على منهج يتخذ العقل مصدرا لمعرفة العالم الفيزيائي. ويؤكد هذا الفيلسوف أن العالم الرياضي أكثر عرضة للتحول إلى المذهب العقلي وذلك لأن نجاح “الاستنباط المنطقي” في مجال الرياضيات دون الاعتماد على التجربة يدفعه إلى تبني نظرية للمعرفة قائمة على الاعتقاد بأن العقل له قوة خاصة تمكنه من معرفة العالم الخارجي من خلال الاستبصار العقلي وليس من خلال الادراك الحسي. وبهذا فإن تخلي العالم أو الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية واعتماده على العقل كمصدر للحقيقة يجعله في نظر “راشنباخ” أقرب إلى النزعة الصوفية منه إلى العلم.


العقلانية المطبقة

العقلانية المطبقة - غاستون باشلار

في سياق سعيه لإبراز طبيعة العقلانية العلمية في الفيزياء المعاصرة، عمل الإبستيمولوجي الفرنسي غاستون “باشلار” (1884-1962) على نقد النزعات التجريبية والعقلانية معا، مؤكدا أنه “لا وجود لعقلانية فارغة كما لا وجود لاختبارية عمياء”.  فما طبيعة العقلانية العلمية في نظره؟

 يؤكد “باشلار” أن تأسيس العلوم الفيزيائية يقتضي إقامة حوار بين العالم العقلاني والتجريبي، فالعالم في الفيزياء المعاصرة يلزمه أن يتيقن من جهة أولى من أن الواقع يوجد في قبضة ما هو عقلي، ومن جهة ثانية من أن الحجج العقلية هي في حد ذاتها من مصدر واقعي ألا وهو التجربة.

إن النظرية والتجربة في الفيزياء المعاصرة تَنْبَنِيان حسب “باشلار” على إلزامين فلسفيين هما: عدم وجود عقلانية صورية، وعدم وجود تجريبية محضة والعالم لا يمكن أن يساهم في النشاط العلمي الفيزيائي المعاصر إذا فصل في عمله بين العقل والتجربة، لذلك يدعو باشلار الى فلسفة مفتوحة تتجاوز الثنائية القديمة: فلسفة عقلانية/فلسفة تجريبية ويقيم حوارا دقيقا ووثيقا بين العقل والتجربة  مما يقتضي ضرورة تموضع العالم داخل مركز تتجلى فيه عقلانية مطبقة مع مادية مبنية مستخلصا أنه “لاوجود لعقلانية معزولة عن الواقع، مثلما انه لا وجود لمادية تقنية لا تحمل طابعا عقلانيا

تركيب محور العقلانية العلمية

“آينشتاين” عقلانية رياضية “رايشنباخ” عقلانية تجريبية “باشلار” عقلانية مطبقة
إن العقلانية العلمية تشتغل بشكل فرضي استنباطي من خلال المفاهيم التي يبدعها العقل الرياضي بشكل مستقل عن التجربة. إن العقلانية العلمية هي عقلانية تجريبية لأن المعرفة العلمية لا تنبني إلا عبر استخدام العقل مطبقا على معطيات الملاحظة والتجربة. إن العقلانية العلمية تقوم على يقين مزدوج وتتأسس على حوار جدلي بين ما هو عقلي نظري وما هو واقع تجريبي.
بالرغم من أن العقلانية العلمية المعاصرة اتخذت تارة منحى اختباريا تجريبيا، وتارة أخرى منحى فرضيا استنباطيا، إلا أن تقدم المعرفة العلمية أكد على أهمية وضرورة الحوار الجدلي بين ما هو عقلي وما هو تجريبي.
زر الذهاب إلى الأعلى