المحور الأول (1) هوية الشخص | مفهوم الشخص | مجزوءة الوضع البشري
تحيل هوية الشخص على مجموع الصفات الجوهرية التي تُشكل وحدة الذات، وتجعل الشخص مطابقا لذاته ومتميزا عن غيره باعتباره نفس الشخص، أي هُوَ هُوَ، عبر مختلف مراحله العمرية، وبغض النظر عن كل التغيرات التي يخضع لها الجسد. كما تعني حقيقة الشخص الثابثة، كشكل من أشكال الوعي المستمر بالذات عبر الزمان.
تفترض الهوية في مبدئيتها عدة خصائص، من أهمها: الثبات (لا تتغير؛ أي أن الشخص دائما هو نفسه وليس غيره )، الوِحدة (وحدة الذات)، والتطابق (تطابق الشخص مع ذاته في التفكير والوعي والإحساس والشعور والذاكرة…)، والاستمرارية ( ممتدة في الزمان، جاعلة الشخص يتعرف على ذاته طيلة حياته).
مثلا: هوية الشخص لا تتحدد بالصفات العَرَضِيَّة المادية المتغيرة، فهي لا تتحدد من خلال المظاهر الجسدية، لأن هذه الأخيرة متغيرة عبر الزمان، وإنما هي في الأصل عكس ذلك، تتحدد بما هو باطني جوهري ثابت، أي أنها من الناحية المبدئية تُقاس بالثبات والتطابق، باعتبارها عنصر جوهري ثابت وملازم لشعور الشخص طيلة مراحل حياته.
أما مبدأ الهوية، وكما حُدِّدَ في المنطق منذ أرسطو، فيفيد بأن الشيء دائما هو نفسه، فـ A دائما هي A ، والشخص دائما هو نفسه، مما يعني كونها ثابتة ومطابقة لذاتها.
التأطير الإشكالي لقضية هوية الشخص
يتعرف كل شخص على ذاته ويميزها عن الآخرين، من خلال عنصر جوهري باطني ثابت، يصطلح عليه “بالهوية الشخصية” ، وتطلق الهوية الشخصية identité personnelle على الشخص باعتباره يبقى “هو هو” رغم ما قد يطرأ عليه من تغيرات خارجية، كما تدل عما يميز الذات عن غيرها ويجعلها مطابقة لذاتها. فعندما يستعمل الانسان لأول مرة كلمة “أنا” لكي يعبر عن ذاته وعن إرادته ورغبته، فإنه يدخل مرحلة الوعي بالذات وتشكل الهوية الشخصية Personal identity.
وحين تأمل الفلاسفة والمفكرون قضية “هوية الشخص” وجدوا ان لها ارتباطا بالمقومات الجوهرية المحددة للذات الانسانية ، وهنا طُرح اشكال الأساس الذي تقوم عليه، كما تم التساؤل أيضا عن طبيعة هذه الهوية إذا ما كانت تظل ثابتة على حالها، أم أن هوية الأشخاص تطرح إمكانية التغير والتعدد. وهذا ما يقودنا إلى بسط الإشكال الفلسفي لهوية الشخص في ضوء التساؤل التالي:
ما دلالة مفهومي الشخص والهوية؟ وما الأساس الذي تقوم عليه هوية الشخص؟ هل تقوم على الفكر والعقل، أم على الإحساسات والذاكرة أم على وحدة الطبع وترابط الذكريات؟ وهل الهوية الشخصية ثابتة أم متغيرة؟ واحدة أم متعددة؟
تصور الفلسفة الحديثة للهوية الشخصية
نص “ديكارت” “الفكر أساس هوية الشخص”
أي شـيء أنا إذن؟ أنا شيء مفكر. وما الشيء المفكر؟ إنه شيء يشك، ويفهم، ويتصور، ويثبت، وينفي، ويريد، ويتخيل، ويحس أيضا. إنه ليس بالأمر اليسير أن تكون هذه كلها من خصائص طبيعتي، ولكن لمَ لا تكون من خصائصها؟...
خطاطة توضييحة | أطروحة ديكارت في هوية الشخص
أطروحة ديكارت في الهوية الشخصية | الفكر أساس هوية الشخص
في سياق الإجابة عن الإشكال الفلسفي الذي تطرحه قضية “هوية الشخص”، يرى “ديكارت” أن: “العقل هو جوهر الذات الإنسانية وبدونه لا يمكن للإنسان أن يعي ذاته ويدرك وجوده ويبلغ الحقيقة، بما في ذلك حقيقة الوجود الذاتي والهوية الشخصية، ومن هنا فإن أساس هوية الشخص بنظره هو العقل والفكر، وما يؤكد بنظره هذه الحقيقة التي تحمل طابع البداهة والوضوح في الأصل هو أنه موجود بهذه الصفة حتى ولو كان نائما دائما، ومن خلال هذا يتبين أن حقيقة الأنا هي كونها ذاتا مفكرة، تستطيع أن تثبت وجودها من خلال هذا الفكر ذاته. الذي ينطلق من الذات ليعود إليها.
لمزيد من التفاصيل (…) أنقر هنا
في سياق بحثه عن حقيقة الشخص، يرى ديكارت أنه يتكون من جوهرين مختلفين: الجسم وهو من طبيعة مادية متغيرة، والنفس وهي من طبيعة روحية باطنية وظيفتها التفكير. ومنه لا يحصر ديكارت حقيقة الذات في الجسم من هنا نفهم دعوته إلى تجنب الحواس لأنها خادعة، توقع في الخطأ، وعكس ذلك يرى بأن أساس هوية الشخص هو الفكر، فبدون الفكر لايمكن للشخص أن يعي ذاته ووجوده ولا يمكنه ان يبلغ الحقيقة، فمتى انقطع الشخص عن التفكير انقطع عن الوجود، إذن فالفكر هو ما يؤسس الهوية الشخصية، وبالرغم من أن الشخص شيء مُفكر يتميز بأفعال متعددة ومختلفة الشك ، الفهم، التصور، الإثبات، النفي، الإرادة، التخيل، الإحساس فإن هذا التعدد والاختلاف لا ينفي هويته ووحدته، وبالتالي فالهوية حسب ديكارت عنصر جوهري ثابت.
مفاهيم أطروحة ديكارت في الهوية الشخصية
للتوسع في تحليل النص، لابد من الإنفتاح على المفاهيم الأساسية التي صِيغت بها الأطروحة، للوقوف عند دلالاتها وعلاقاتها، ومن بين هذه المفاهيم نذكر: “الأنا”، “الفكر”، “الشخص”… إضافة إلى مفهوم “هوية الشخص” الذي يحضر بشكل ضمني في النص، فما دلالة هذه المفاهيم؟
- الأنا: هي الذات الواعية التي تُرد إليها أفعال التفكير والوعي والشعور. وهي الجانب العاقل والواعي من شخصية الإنسان، وتقابل الآخر والعالم الخارجي. وتحيل حسب سياق النص على الشخص باعتباره ذاتا مفكرة.
- الفكر: هو السمة الفطرية المميزة للموجود الإنساني الذي يُعرَّف بكونه ذاتا مفكرة، ويتجلى في مجموع أفعال العقل والتفكير التي تستعملها الذات أثناء وعيها لذاتها وإدراكها لوجودها.
- الهوية الشخصية: وهي مفهوم مركزي يحضر ضمنيا، وتحيل حسب سياق النص على الحقيقة الثابتة للشخص، كما تعني في دلالتها الفلسفية العامة مجموع الخصائص والسمات الجوهرية التي تميز الشخص عن غيره وتجعله مطابقا لذاته، محافظا على وعيه بذاته عبر مختلف مراحله العمرية وبغض النظر عن التغيرات التي تلحق الجسد. فالهوية هي ما يجعل من الشخص “هو هو”; مطابقا لذاته.”
- الشخص: يشير إلى الإنسان، بما هو ذات مفكرة وواعية، وقادرة على التمييز بين الخير والشر والصدق والكذب وتتحمل مسؤولية أفعالها واختياراتها مسؤولية قانونية وأخلاقية”.
وبتأملنا للعلاقات الدلالية التي تنسجها مفاهيم النص، يتضح لنا أن: “الفكر هو ما يشكل أساس هوية الشخص” حسب التصور الديكارتي، والفكر خاصية جوهرية ثابتة، به يُعرَّفُ الإنسان وبموجبه تتحدد ماهيته، وتتشكل هويته الشخصية.
نص “جون لوك” “الوعي والذاكرة أساس هوية الشخص”
يجب معرفة دلالة لفظ شخص لتحديد معنى الهوية الشخصية. فالشخص، في اعتقادي، كائن مفکر وذكي، قادر على الاستدلال و التفكير، وبإمكانه العودة إلى ذاته باعتبارها هي نفسه، وباعتبارها الشيءذاته الذي يفكر في مختلف الأزمنة وفي مختلف الأمكنة. وهو أمر يقوم به الشخص بالاعتماد على الإحساس الذي خلقته لديه أفعاله الخاصة فحسب. وهذا إحساس غير منفصل عن التفكير، بل يعتبر، كما يبدو لي، ضروريا على اعتبار أنه من غير الممكن لأي كائن كيفما كان أن يدرك دون ان يدري بأنه يدرك....
أطروحة جون لوك | الوعي والذاكرة أساس هوية الشخص
إن ما يجعل الشخص مطابقا لذاته حسب “جون لوك” John Locke رغم تغيرات الزمان والمكان هو الشعور أو الوعي بالذات المُقترن (المرتبط) بالذاكرة. فعن طريق التجربة الحسية للذات في الوجود، تتحول التأثيرات الحسية التي تأتي بها الحواس من العالم الخارجي إلى أفكار في الذاكرة منتجة وعيا ممتدا في الزمان، هذا الوعي هو الذي يربط أفعال الشخص الماضية بأفعاله الحالية فيجعله هو ذاته، متميزا عن غيره مما يعني أن الوحدة والاستمرارية هما ما يكون الهوية الشخصية في نظر “جون لوك.
أطروحة جول لاشوليي | تقوم هوية الشخص على وحدة الطبع وترابط الذكريات
وخلافا لما عبرت عنه الفلسفة الحديثة (النزعة العقلانية والتجريبية) من تصورات بخصوص هوية الشخص، سيعبر “جول لاشوليي” Jules Lachelier في سياق الفلسفة المعاصرة عن تصور فلسفي ذو مرجعية نفسية سيكولوجية، فهو يرى أن الهوية الشخصية تقوم على عمل آليتين نفسيتين: دوام المزاج (الطبع) أي ردود الأفعال المطبوعة بطابع شخصي وترابط الذكريات. وينتقد التصور الماهوي لهوية الشخص القائم على فرضية وجود جوهر ثابت، فالهوية في نظره ليست شعورا أو وعيا قبليا، بل هي طبع متحول وذاكرة متغيرة، ويستند “جول لاشوليي” لتأكيد تصوره على حالات واقعية مثل تحول الإنسان من حال إلى آخر بين النوم واليقظة، وفقدان الذاكرة وبعض الحالات المرضية النفسية كازدواجية الشخصية.
تركيب محور هوية الشخص:
ما يمكن استخلاصه من المعطيات السابقة بصدد إشكالية الهوية الشخصية، أن هوية الشخص تفترض تعدد الخصائص الجوهرية المميزة للإنسان، (العقل، الوعي، الشعور، الإرادة، الذاكرة..) كما انها يمكن أن تظل ثابتة، كما يمكن أن تتغير. ولفهم حقيقة الشخص يتطلب الأمر استحضار مقومات فلسفية وسيكولوجية أخرى، فهوية الشخص تتحدد بماهيته كذات واعية تمتلك جوهرا ثابتا، وهو الفكر والشعور والإرادة، مما يجعلها هوية فطرية. كما تتحدد بتكوينها النفسي الذي يكسبها طبعا وذاكرة، وقد تتحدد أيضا بتكوينها الاجتماعي إذ تترسخ لديها داخل المجتمع قيم ومعتقدات مما يجعلها هوية مجتمعية تختلف من مجتمع لآخر.