المحور الثالث (3) الشخص بين الضرورة والحرية | مفهوم الشخص
تحيل قضية الشخص بين الضرورة والحرية على جملة من التقابلات والمفارقات، من بينها أن الشخص مادام يتحدد بالفكر والوعي والإرادة، أي بكونه ذاتا مفكرة وواعية ومريدة، فهو يختار ذاته وأفعاله وتصرفاته وما سيكون عليه، بناء على حريته وما يمليه عليه تفكيره ووعيه وإرادته، لكن من جهة أخرى مادام الشخص يعيش ضمن شبكة من العلاقات الموضوعية التي تربطه بالطبيعة والمجتمع والواقع، فهو يجد نفسه مقيدا وخاضعا لشروط الوضع البشري وإكراهاتها، مما ينفي عنه صفة الحرية. ناهيك عن هذا، فالحديث عن حرية الشخص أيضا، يضعنا أمام إشكال آخر، يتعلق بما إذا كانت حرية مطلقة أم نسبية ومشروطة.
تقديم إشكالية الشخص بين الضرورة والحرية
إذا كان الوضع البشري يتحدد بشروط ومحددات موضوعية (طبيعية، تاريخية، اجتماعية، ثقافية، واقعية، نفسية لاشعورية…) فهي شروط متفاعلة ومتداخلة فيما بينها، تخلق عالما مليئا بالحتميات، مما يعني أن الشخص يعيش في عالم محاط بأنواع من الضرورات والإكراهات، الأمر الذي ينفي القول بحرية الشخص، لكن مادام وجود الشخص مشروط بمحددات فردية ذاتية، كالفكر والعقل والوعي والإرادة، فهذه الخصائص في تفاعلها، هي ما تمنحه الشعور بالحرية، وأنه ذات فاعلة، قادرة على التعالي وتجاوز وتحدي ما يواجهه من ضرورات وإكراهات وحتميات، مما يعني أن الشخص ذات حرة، والحرية خاصية ملازمة لوجوده. هكذا إذن نجد أنفسنا أمام قضية فلسفية حاملة لتقابل وإحراج، يمكن صياغتها والتعبير عنها في ضوء الأسئلة الفلسفية التالية:
ما الشخص؟ وما الضرورة؟ وما الحرية؟ وهل الشخص حر أم خاضع لضرورات وحتميات معينة؟ إذا كان حرا، فهل حريته مطلقة أم نسبية مشروطة؟ وإذا كان خاضعا، فما الضرورات التي يخضع لها؟
أطروحة باروخ سبينوزا Spinoza | الشخص خاضع لضرورة طبيعية
يرفض الفيلسوف العقلاني سبينوزا، القول بأن الشخص يملك حرية مطلقة، فحرية الشخص في نظره لا تنفصل عن امتثاله للضرورة، لأن القول بالحرية مجرد شعور ووهم ناشئ عن الجهل بالأسباب التي تسيرنا، فكثيرا ما يندم الشخص على فعل صدر عنه أو يتبع الأسوأ وهو على علم بالأفضل، أو يقوم بفعل دون معرفة سببه، أما الحرية الحقيقية، فهي الوعي بالضرورة التي نخضع لها، حيث يعتبر الوعي شرطا للحرية.
على عكس التصورات التي تعلي من حرية االانسان، يقدم “سبينوزا” تصورا يجمع فيه بين الحرية والضرورة، فهو يرفض القول بأن الشخص يملك حرية مطلقة، فكثيرا ما يندم الشخص على فعل صدر عنه أو يتبع الأسوأ وهو على علم بالأفضل، أو يقوم بفعل دون معرفة سببه. إن حرية الشخص حسب “سبينوزا” لا تنفصل عن امتثاله للضرورة، فالشخص خاضع بالضرورة لقوانين طبيعية، ومن العبث في نظر سبينوزا أن نعتقد بوجود الحرية، لأن الشعور بالحرية ليس إلا وهما، ومصدر هذا الوهم هو تخيلنا بأننا أحرار وجهلنا بالأسباب الحقيقية التي تسيرنا. أما كون الشخص حرا في نظر “سبينوزا” فهو أن يكون واعيا بالضرورة التي توجهه وتحكمه، فحرية الشخص إذن حرية محكومة بالوعي بالضرورة.
- مفاهيم أطروحة سبينوزا
- الانسان: يحيل على الشخص باعتباره ذاتا عاقلة وواعية، وهو جزء من نظام الكون والطبيعة يسري عليه ما يسري على باقي الكائنات الحية الأخرى من قوانين طبيعية.
- الحرية: هي الفعل الصادر عن الذات الانسانية (الشخص) باعتبارها ذاتا واعية بالضرورة التي تخضع لها، سواء كانت ضرورة (طبيعية، أخلاقية، اجتماعية، واقعية.. )
- الضرورة: هي الشروط والحتميات الطبيعية التي توجه سلوك الانسان وتصرفاته.
أطروحة سارتر Jean-Paul Sartre | الشخص حر حرية مطلقة في الإختيار
تنطلق الفلسفة الوجودية مع “سارتر” من اعتبار وجود الانساني سابق على ماهيته، ومنه تكون للشخص حرية مطلقة في الاختيار، أي اختيار ذاته وما سيكون عليه، فهو يوجد أولا، ثم يختار ذاته ثانيا وفق وعيه وإرادته وحريته، باعتباره “مشروعا” منفتحا على الواقع والمستقبل، ومنه؛ لا وجود لضرورة تُلزم الشخص بحتميتها وإكراهاتها، لأنه دائما يتوفر على إمكانيات لتجاوزها، ولا وجود إلا لذاتية حرة ومسؤولة (الحرية والالتزام).
خلافا للتصورات التي تقول بالضرورة نجد الفلسفة الوجودية تؤكد على حرية الشخص في الاختيار المطلق لأفعاله، يرى “سارتر” أن ماهية الانسان هي الحرية وأن الوجود سابق على الماهية، وهذا معناه، أن الانسان يوجد أولا، ثم يحدد ذاته ثانيا ويجددها باستمرار، أي يختار ما سيكون عليه، فالانسان في البداية عبارة عن لا شيء ولن يكون إلا فيما بعد، ولن يكون إلا وفق ما يصنع به نفسه.
إن الوجود الانساني يتطلب الحرية، بل إن الانسان محكوم بالحرية، والانسان أيضا مشروع لأنه يتحدد بالمشروع الذي يختاره لنفسه، فهو دائم التجاوز لذاته منفتح على المستقبل بواسطة الوعي والممارسة. والحرية التي يتحدث عنها “سارتر” تتضمن المسؤولية، حيث الإنسان مسؤول عن وجوده واختياراته. مع “سارتر” إذن لا وجود لضرورة تلزم الشخص بحتميتها وإكراهاتها، فدائما يتوفر على إمكانيات لتجاوزها ولا وجود إلا لذاتية حرة ومسؤولة.
- يقول سارتر:
- “الانسان محكوم بحرية الاختيار”
- “الشخص دائما يختار وحتى عندما لا يختار، فقد اختار ألا يختار”
- “الشخص حر، إلا أنه مسؤول عن حريته واختياراته”
- “لاوجود لحرية من أجل الحرية، وإنما الحرية الحقيقية هي التي تُقترن بالمسؤولية والالتزام”
أطروحة إمانويل مونيي E.Mounier | حرية الشخص في انفتاحه واندماجه
ينطلق الفيلسوف الفرنسي E.Mounier من منظور الفلسفة الشخصانية من القول بأن الشخص ليس شيئا بين الأشياء، وليس حزمة ميول سيكولوجية، أو عوامل بيولوجية، أو قواعد اجتماعية، بل إنه كائن ذو نفس وجسد، ذو وعي وإرادة وحاضر في العالم ومع الآخرين، وبما أن الطبيعة البشرية والمجتمع والعالم الطبيعي، في نظام ضروري توجهه أصناف من الحتميات، فإن حرية الشخص ليست محددة ولا مطلقة، إنها عملية تشخصن personnalisation مستمر، يقوم به الكائن حتى يصل إلى مرحلة الانسان بالانفتاح على المثل العليا، وعلى المجتمع وعلى العالم.
ينطلق الفيلسوف الفرنسي E.Mounier من منظور الفلسفة الشخصانية من القول بأن الشخص كائن موجود، ذو وعي وإرادة وحاضر في العالم ومع الآخرين، وبما أن الطبيعة البشرية والمجتمع والعالم الطبيعي، في نظام ضروري توجهه أصناف من الحتميات، فإن الحرية ليست محددة ولا مطلقة، إنها عملية تشخصن personnalisation مستمر، يقوم بها الكائن حتى يصل إلى مرحلة الانسان.
وتكمن عملية التشخصن في انفتاحه على القيم والمثل العليا، وعلى العالم وعلى المجتمع بإحداث علاقة تواصل فعال بين الشخص والأشخاص الآخرين، كما أنها دعوة لتحرر الشخص المستمر من كل ما يعيق حريته، التحرر من طبيعته البشرية بإعلاء رغباتها وميولها وتجاوز أنانيتها البيولوجية. والتحرر من كل حياة سهلة يهبها له المجتمع. والتحرر من الحتميات والعوائق التي يصطدم بها، فيعيها ويقاومها ويتجاوزها، لذا فإن الحرية الشخصانية لا تعطى للناس من الخارج وليست مطلقة، وإنما هي حرية بشروط.
- التشخصن: عملية واعية، يقوم بها الشخص كحركة مستمرة للتحرر من كل أشكال الضرورات التي يخضع لها، داخلية كانت أو خارجية.
أطروحة إميل دوركايم
يرى عالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركايم” أن المجتمع هو المرجع الأول لكل السلوكات التي تصدر عن الشخص، فالشخص ومنذ طفولته يتلقى ويكتسب من المجتمع الذي ينتمي إليه أفكارا وسلوكات ومشاعر وعادات… يُدمجها في بنية شخصيته فتصبح جزءا من كيانه وتكوينه، وعلى أساسها يسلك ويتصرف، وبالتالي فالمجتمع يشكل سلطة الأوامر والنواهي التي تُفرض قسرا على الأفراد، وهكذا في نظر دوركايم فالضمائر الفردية هي انعكاس للضمير الجمعي الذي يمارس نوعا من الإكراه والإلزام على الأفراد بفعل عملية التربية والتنشئة الاجتماعية التي تلعب دورا أساسيا في إدماج الأفراد في الوعي الجمعي، إن المجتمع بمثابة سلطة آمرة تحد من حرية الأشخاص وتلزمهم بالسير على نهج معين.
تركيب
يكشف إشكال “الشخص بين الضرورة والحرية” عن خضوع الوضع البشري لمحددات وشروط موضوعية تعيق حرية الانسان، كما يكشف عن قدرة الشخص على الوعي بها وتجاوزها بفعل وعيه وإرادته الحرة.