المحور الأول (1) أساس المجتمع | مفهوم المجتمع | مجزوءة الانسان
إن اتخاذ المجتمع كقضية للتأمل الفلسفي، يثير التفكير في طبيعة الأساس أو الأصل الذي صدر عنه الاجتماع البشري، وقبل الكشف عن طبيعة أساس المجتمع، تجدر الإشارة أولا إلى الوقوف عند دلالة المفاهيم المركزية المؤطرة لمضمون هذا المحور وهي: مفهوم “الأساس” و مفهوم المجتمع”. فما دلالة هذين المفهومين؟
التأطير الإشكالي لقضية أساس المجتمع
الإنسان كائن اجتماعي، لا يحيى ولا يحقق وجوده إلا داخل المجتمع، حيث يُنظم وجوده ضمن شبكه من العلاقات المنظمة والمصالح المتبادلة بين الأفراد والجماعات، والتي تقوم على أساس الاعتماد المتبادل والتقارب الجغرافي بهدف تحقيق غاياتهم في جو يطبعه التعاون والتآزر مادام الفرد لا يستطيع إشباع حاجاته بنفسه، مما يفيد أن للمجتمع دورا فعالا في توجيه التفاعلات الاجتماعية بما يحقق المصلحة العامة والخير المشترك للمجموع الكلي للأفراد.
وفي هذا السياق يشكل المجتمع محطه نقاش للعديد من الفلاسفة والمفكرين الذين تساءلوا عن الأساس والأصل الذي يقف وراء تأسيس المجتمع، إذا ما كان صادرا عن شروط طبيعية ضرورية تمليها الفطرة البشرية وما يدفع الانسان للحفاظ على البقاء، أم أنه نتاج لعوامل ثقافية تعاقدية، من أجل العيش المشترك، احتكاما إلى قوانين ومؤسسات تنظيمية كتعبير عن الإرادة الجماعية، وهكذا نجد أنفسنا في مواجهة التساؤلات الفلسفية التالية:
ما المجتمع؟ وما طبيعة الأساس الذي يقوم عليه؟ وهل أساس المجتمع طبيعي ضروري فطري، أم ثقافي تعاقدي اتفاقي؟
تحليل نص جون جاك روسو ص 46 من كتاب في رحاب الفلسفة
فهم النص
أطروحة روسو (المجتمع تعاقد)
في سياق الإجابة عن الإشكال الفلسفي المتعلق بطبيعة الأساس الذي يقوم عليه المجتمع، تقدم صاحب النص بأطروحة جوهرية مفادها:
أن تأسيس المجتمع في التاريخ، جاء نتيجة تعاقد اجتماعي انتقل بموجبه الانسان من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية ؛ من قبل كان سلوكه يتصف بالوهم الفطري، ويقوم على الشهوة والدوافع الجسمانية والميولات الفطرية والغريزية، ويخضع للأهواء والحرية الطبيعية، حيث لم يكن يراعي إلا ذاته والحفاظ على بقائه، أما في الحال المدنية فقد أصبح سلوكه أكثر أدبا، وتفتحت قواه العقلية واتسعت أفكاره ونَبُلَت عواطفه، فأصبح يستشير عقله وينصت لصوت الواجب ويعمل وفق مبدأ الحق ويتصرف وفق ما تقتضيه الحرية المدنية.
البنية المفاهيمية للنص:
في بناء روسو لأطروحته وصياغتها، اعتمد على جملة من المفاهيم المركزية، من قبيل: “حالة الطبيعة”، “حالة المدنية”، “المحرك الجسماني”، “العقد الاجتماعي”، “الحرية الطبيعية”، “الحرية المدنية” (…) فما دلالة هذه المفاهيم؟
- حالة الطبيعة: هي الحالة السابقة على ظهور المجتمع أو حالة المدنية، كانت بمثابة حالة من الفوضى واللانظام، وتميزت بغياب القوانين والأخلاق والنظم الاجماعية، وكان سلوك الانسان فيها يقوم على الميولات والدوافع الفطرية وغريزة البقاء.
- حالة المدنية: هي الحالة التي أصبح فيها الانسان يعيش مع بقية الأفراد وفق مبادئ وقوانين تنظم الوجود الإجتماعي للأفراد، حيث أصبح ينعم بالأمن والسلم والاستقرار، ويتصرف وفق القيم الأخلاقية والمبادئ العقلية.
- المحرك الجسماني: ويشير إلى الدوافع الفطرية والغريزية التي تحرك سلوك الانسان بغاية الحفاظ على البقاء، وعلى رأسها “غريزة الحفاظ على البقاء”
- العقد الاجتماعي: هو اتفاق حر وإرادي تم بين الأفراد والجماعات من أجل تنظيم وجودهم الاجتماعي بواسطة قوانين ومؤسسات ذات سلطة تعلو على إرادات الأفراد، وذلك بغرض الخروج من حالة الطبيعة والانتقال إلى الحياة المدنية (المجتمع)
- الحرية الطبيعية: هي الحق الطبيعي والمطلق الذي كان للانسان في حالة الطبيعة، والذي كان يخول للانسان أن يتصرف بالشكل الذي يحافظ من خلاله على بقائه .
- الحرية المدنية: هي التصرف وفق ما ينسجم ومبادئ العقد الاجتماعي، أي وفق الضوابط والقوانين والتشريعات المعمول والمتفق عليها.
البنية الحجاجية للنص:
للدفاع عن أطروحته بخصوص إشكال الأساس الذي قام عليه المجتمع، اتبع “جان جاك روسو” مسارا حجاجيا قام على أسلوب التأكيد والمقارنة والتقابل والوصف والتفسير. حيث افتتح “روسو” نصه بالتأكيد على أن انتقال الانسان من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني، قد رافقه تبدل ملحوظ في نمط وجوده، ولتوضيح هذه الفكرة شرع في المقارنة بين كلتا الحالتين، مستخدما في ذلك أسلوب التقابل والوصف، حيث شَخَّص سلوك للانسان في حالة الطبيعة، بكونه كان خاضعا للدوافع الجسمانية والميولات الفطرية، أي كان يتصرف وفق مقوماته الفطرية والغريزية فقط، وبما يضمن الحفاظ على بقائه. في المقابل بعد الانتقال إلى الحياة المدنية بموجب العقد الاجتماعي، سيصبح سلوكه أكثر أدبا ويتسم بالعدل. كما أصبح إنسانا يستشير عقله، ويُنصت لصوت الحق ونداء الواجب، فتفتحت قواه العقلية ونمت، واتسعت أفكاره ومداركه، ونبلت عواطفه الشيء الذي جعل منه كائنا ذكيا، بعد ان كان حيوانا بليدا محدود الفهم.
وفي الفقرة الأخيرة من النص، يفسر “جان جاك روسو” هذا الانتقال قد تم بموجب “العقد الاجتماعي” باعتباره الحد الفاصل بين “حالة الطبيعة” و“المجتمع المدني”، وباعتباره العامل الذي فقد الانسان على إثره، حريته الطبيعية وحقه غير المحدود في التصرف واكتسب في مقابل ذلك حريته المدنية.
قيمة الأطروحة وحدودها
إن القيمة الفلسفية لهذه الأطروحة تكمن في كون صاحب النص (روسو) باعتباره أحد رواد فلاسفة العقد الاجتماعي قد أعطى للمجتمع قيمة سامية لكونه أعلى من شأن الإنسان إلى مقام عالٍ حقق فيه قيم ومبادئ أخلاقية راقية عما كان عليه في السابق، إذ أصبح العقل مبدأ فعله ومعيار تصرفاته…
لكن، بالعودة إلى الواقع المعيش نسجل بعض التناقض، لأن المجتمع لا يكون في خدمة الأفراد دوما، بل على العكس من ذلك قد يحد من حريتهم ويكرس مبدأ التفاوت بينهم ويمارس أبشع الممارسات اللاإنسانية، والدليل على ذلك هو ما تشهده بعض المجتمعات العربية من صراع وتوتر بين قادة المجتمع وأفراد الشعب، حيث يظهر المجتمع كالآلة التي تعصف باليابس والأخضر…
فالمجتمع الذي أسسه المرء بهدف تنظيم حياته وعقلنتها، بات قاهرا ومستبدا وحول الأفراد إلى قطيع خاضع للإكراه والتبعية لهيمنة المجتمع، كما أثقل كاهلهم بالواجبات ومتطلبات العيش، وفرض قِيما للاندماج في التراتبية والطبقية الاجتماعية، فنتج عنه الفقر والمعاناة والحرمان… وقس على ذلك من الظواهر الاجتماعية التي يصعب حصرها… ورغم المؤاخذات التي قد نسجلها على الفيلسوف (روسو) فإنه ينتصر للأساس التعاقدي الاجتماعي للمجتمع بناء على منطلقات عقلية وتاريخية. لكن إلى أي حد يمكن التسليم بما قدمه صاحب النص؟ وهل تصور صاحب النص هذا النموذج الوحيد الذي سلك هذا المنحى؟ ألا يمكن التوقف عند تصورات قد توافقه الرأي أو تعارضه؟
وفي نفس سياق أطروحة النص يأتي الفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبز” مؤيدا لتصور صاحب النص إذ يقدم تصورا فلسفيا تعاقديا إزاء المجتمع، واضعا في ظله تقابلا بين حالتين عاشهما الإنسان، حالة الطبيعة التي ساوت بين البشر، وجعلتهم يتمتعون بحرية مطلقة وغير محدودة، و بحقوق طبيعية كاملة، فكانوا، يفتقدون فيها للأمان و السلم، ويعيشون حالة من الفوضى و الخوف، لأن الإنسان عدواني بطبعه، هذه العدوانية جعلت حياته حربا كليــة، هذا ما عبر عنه “هوبز” بحرب الكل ضد الكل، معتبرا الانسان في حالة الطبيعة بمثابة ذئب لأخيه الانسان.
و رغم كل هذه الأوضاع المزرية التي عاشها الإنسان في حالة الطبيعة، كان له نزوع إلى السلم، بدافع حب البقاء وتحسين ظروف العيش، هذا الدافع سرعان ما وضع حدا للأهواء الطبيعــيـة و لحالة الحرب، عبر الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني، من خلال إبرام عقد اجتماعي بين الناس، بمحض إرادتهم، يتم فيه التنازل عن جزء أو كل حرياتهم و حقوقهم لصالح السلطة الحاكمة، فردا كانت أو مجلسا، تمثل إرادة الجميع بواسطة قانون الأغلبية، إنه رمزا لانحناء حقيقي، تذوب فيه شخصيات الكل تحت لواء المجتمع او [الدولة]، التي تسهر على توفير الأمن و السلم و الحياة العامة، دونما تمييز أو تقصير، وبهذا يرهن توماس هوبز أساس المجتمع بمبدأ التعاقد بين الناس، وتنازلهم عن حرياتهم و حقوقهم الطبيعة المطلقة، لصالح رجل أو مجلس يمثل إرادة الجميع، و يضمن السلم و الأمن.
وإذا أمعنا النظر في التصور الذي أقر به صاحب النص ومؤيده “هوبز”، نجده تصورا حديث العهد، أي أنه وليد تحولات فكرية وإنسانية إبان عنها العصر الحديث (القرن 17 الميلادي)، لكن هل يعني هذا أن المجتمع لم يكن له وجود من قبل ظهور التصور التعاقدي؟
الجواب عن هذا السؤال يقودنا إلى التوقف عند تصور الفيلسوف الاسلامي “عبد الرحمان ابن خلدون” الذي يرى أن أساس الاجتماع البشري طبيعي، لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ويحتاج إلى الآخرين من أجل تحقيق حاجياته الأساسية في العيش، وبهذا المعنى فتكون المجتمع في التاريخ هو ضرورة طبيعية أملتها الفطرة المدنية للانسان، وحاجته لتحصيل القوت و الغذاء اليومي لضمان البقاء والحفاظ على الحياة، إضافة إلى حاجته للدفاع عن النفس ومغالبة الأخطار و مواجهة العدوان بتعاونه مع أفراد جنسه. و هكذا اعتبر ابن خلدون أن في أساس كل مجتمع توجد الرغبة الفردية في الحياة وفي المحافظة عليها و ذلك هو السبب الحقيقي في تكون المجتمع الذي لم يكن ليحصل، لولا تعاون الأفراد فيما بينهم إكمالا لقدراتهم الطبيعية في الحفاظ على البقاء.
تركيب
يُستفاد من خلال تحليلنا و مناقشتنا لتصور صاحب النص أن اساس الاجتماع البشري، إشكالية يصعب الحسم فيها نظرا لتباين المواقف الفلسفية بصددها، وقد توقفنا في إطار هذه المقاربة عند توجهين متقابلين الأول جسده موقف صاحب النص، مدافعا عن التصور التعاقدي، في أن المجتمع أو الاجتماع البشري، نِتاج لاتفاق إرادي بين الأفراد وأنه مسألة تنظيمية للوجود البشري بإبداع قوانين ومواثيق متفق عليها، تُؤَمن النظام والتوازن الاجتماعي، وبالمقابل نفى رواد الطرح الطبيعي مثل هذا التحليل، مؤكدين على أن أساس الاجتماع البشري طبيعي لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، ويحتاج إلى الآخرين من أجل تحقيق حاجاته الأساسية وعلى رأسها الحفاظ على البقاء. وبهذا فالجزم أو الأخذ بموقف دون الآخر إزاء هذا الإشكال يبقى أمرا صعبا، لأن جل المواقف المطروحة حول إشكالية أساس المجتمع وإن تباينت واختلفت، فإنها تتطابق بشكل أو بآخر من أجل فهم حقيقة الإشكال والموضوع المطروح.