المحور الأول (1) وجود الغير | مفهوم الغير | مجزوءة الوضع البشري
يُحيل وجود الغير على الكيفية التي يُدرَكُ ويتحدد من خلالها وجود الغير بالنسبة للأنا، أي إذا ما كان حضوره يتجلى لوعيها كذات أو موضوع، وإذا ما كان وجوده ضروريا لوجود الأنا ووعيها بذاتها، أو عكس ذلك، وكذا طبيعة التأثير الذي يمارسه الغير على وعي الأنا وإرادتها وحريتها، إذا ماكان تأثيرا سلبيا أو إيجابيا أم اعتباطيا.
التأطير الإشكالي لقضية وجود الغير
يطرح التفكير الفلسفي في قضية وجود الغير صعوبات في حل الإشكالات الفلسفية المرتبطة بهذه الإشكالية، نظرا لتعقدها وتداخل أبعادها، فمن ناحية أولى يذهب التفكير الفلسفي إلى مساءلة طبيعة وجود الغير والكيفية التي يتحدد من خلالها بالنسبة للأنا، إذا ما كان حضوره داخل المجال الإدراكي الحسي للأنا يجعله يبدو كموضوع ماثل أمام وعي الذات كباقي المواضيع والأشياء، أم أنه يوجد كذات أو أنا آخرى، محكومة بنفس الخصائص الجوهرية المميزة للذوات الانسانية.
ويتعلق الأمر كذلك في هذا السياق بالبحث في الكيفية التي يؤثر من خلالها وجود الغير في وعي الأنا وإرادتها وحريتها. وأيضا إذا ما كان وجود الغير ضروريا لوجود الأنا ووعيها بذاتها، أم أن الأنا مستقلة بذاتها ومستغنية عن أي وجود آخر غير وجودها الأصيل والمدرك بحدس عقلي باطني.
وفضلا عن هذا يثير التفكير في وجود الغير كذلك طبيعة التأثير الذي يمارسه على الأنا إذا ما كان له وجود إيجابي، يغني وجود الذات ويجعلها تعي ذاتها وقدراتها وإمكاناتها، أم أن له وجودا سلبيا، يمارس عليها التهديد والتشييء والإستيلاب في إطار العلاقات التفاعلية والحضور المشترك.
هكذا إذن تفرض الطبيعة المركبة والمتناقضة لوجود الغير وضعا إشكاليا يمكن التعبير عنه من خلال التساؤلات الفلسفية التالية:
ما طبيعة وجود الغير؟ وكيف يتحدد وجوده بالنسبة للأنا؟ هل باعتباره ذاتا أم موضوعا؟ وهل وجوده ضروري لوجود الأنا ووعيها بذاتها، أم أن الأنا تحقق وعيها بذاتها في معزل عن الغير؟ وهل يمثل وجود الغير تهديدا لوجود الأنا أم إغناء لها؟
أنقر هنا لمزيد من التفاصيل (…)
تُعتبر إشكالية الغير، إشكالية فلسفية حديثة تقع بداياتها بالتحديد في فلسفة هيجل Hegle، ولكن جذورها الفلسفية تعود من حيث المفاهيم التي صيغت بها، إلى الفلسفة اليونانية التي اعتبرت الغير هو الآخر الأجنبي أو الغريب، وتعود من حيث الموقف الفلسفي الذي نشأت ضده إلى فلسفة الذات الديكارتية التي انتهت إلى إغراق الذات في عزلة مطلقة على العالم وعن الآخرين ومنه يمكن طرح السؤال الاشكالي التالي: كيف يتحدد وجود الغير بالنسبة للأنا؟ هل باعتباره ذاتا أم موضوعا؟ وهل وجود الغير ضروري لوجود الأنا؟ وهل يشكل الغير تهديدا للذات أم إغناء لها؟
أطروحة “ديكارت” وجود الغير ليس ضروريا لوجود الأنا ووعيها بذاتها (الأنا مكتفية بذاتها)
يعتبر “ديكارت” أن الفكر أو العقل هو جوهر الذات الانسانية وأساس وجودها، ومنه فوعي الأنا بذاتها يمر عبر وساطة الفكر المطابق للذات المفكرة، ومن خلال تجربة الكوجيتو الديكارتي أنا “أفكر، فأنا موجود” تدرك الذات ذاتها وقدراتها وإمكانياتها وتعي وجودها؛ وبالتالي فوجود الغير ليس ضروريا لوجود الأنا ووعيها بذاتها، ذلك أن الأنا مكتفية بذاتها وتعي مقومات وجودها في معزل عن الغير الذي يبدو موضوعا خارجيا قابلا للشك، ويعتبر وجوده احتماليا وجائزا بالنسبة للأنا.
وعي الأنا بذاتها ومقومات وجودها يمر عبر وساطة الفكر المطابق للذات المفكرة. ومن خلال تجربة الكوجيتو الديكارتي أنا “أفكر، فأنا موجود” تدرك الذات ذاتها وقدراتها وإمكانياتها وتعي وجودها؛ وبالتالي فهي مكتفية بذاتها في معزل عن الغير الذي لا يشكل بالنسبة إليها ضرورة وانما وجودا افتراضيا وجائزا.
أطروحة هيجل في وجود الغير F.Hegel جدلية العبد والسيد
خلافا لديكارت الذي لا يعتقد إلا بوجود الذات، أصبح وجود الغير مع هيجل ضرورة وجودية وإشكالا فلسفيا يتصور هيجل أن الأنا في ارتباطه بالوجود الطبيعي هو أنا منعزل مرتبط بالحياة الواقعية. والوعي بالذات لا يكون إلا من خلال اعتراف الغير بها واعتراف الذات بالغير. هذا الاعتراف لا يتم إلا عن طريق الصراع والمخاطرة بالحياة، وينتهي هذا الصراع باستسلام أحد الطرفين وانتصار الآخر لرغباته الإنسانية على حساب رغباته الحيوانية. وأثناء الصراع وعن طريقه يتشكل الأنا والغير ككائنين غير متكافئين وتستمر العلاقة بينهما في إطار جدلية العبد والسيد وهكذا فإن الانسان في حال نشأته لا يكون إنسانا فقط، بل إنه بالضرورة عبد أو سيد، حر أو مستلب، بدءا من هيجل سيصبح وجود الغير ضروريا لوجود الأنا ومكونا له، فالأنا من حيث هو وعي لا يكتسب صفة كائن بشري حر واع بفرديته ومدرك لقيمته وهويته إلا على حساب الغير.
في إطار تحليله لجدلية العبد والسيد، يرى هيجل أن وجود الغير ضرورة وجودية بالنسبة للأنا، فكل ذات منهما تسعى في الحياة الواقعية وباستمرار إلى فرض ذاتها وتأكيدها بإرغام الآخر على الاعتراف بها وبقدراتها وإمكانياتها، وذلك في إطار الصراع من أجل انتزاع الاعتراف بالذات وفرض الهيمنة والسيادة والسيطرة على الوعي الآخر.
أطروحة ميرلوبونتي في وجود الغير، الغير ذات وموضوع
ينظر الفيلسوف الفرنسي” ميرلوبونتي” إلى وجود الغير كوجود مزدوج، فهو وجود في ذاته (جسد مظهر) ووجود لذاته (ذات واعية)، ذلك أن الغير يتبدى للأنا كمعطى امبريقي (وصفي) أي كشيء من الأشياء، بحيث ان أول ما يدرك في الغير هو صورة جسده ومظهره أو شكله الخارجي، ومن ثم فهو مجرد موضوع من مواضيع الطبيعة، لكن الغير ليس فقط موضوعا لإدراكي بل هو ذات واعية مقابلة لذاتي، وعليه فالغير من حيث هو وجود امبريقي يكون موجودا في ذاته (جسد) ومن حيث هو ذات واعية يكون موجودا لذاته.
أطروحة ” جون بول سارتر” وجود الغير ضروري لوجود الأنا ووعيها بذاتها، وجود الغير مزدوج، سلبي وإيجابي
أما بالنسبة للفيلسوف الفرنسي الوجودي ” جون بول سارتر Jean-Paul Sartre ” فهو يؤكد على ضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الذات أو الأنا، وفي هذا الصدد يقول سارتر “الغير هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني وبين نفسي” أي أن وجود الغير ضروري لوعي الذات بذاتها وإدراكها لحالاتها الشعورية وتشكيل هويتها، فوجوده إيجابي وسلبي في نفس الوقت، فالغير الذي هو وسيط لا غنى عنه بيني وبين نفسي باعتباره من يمكنني من الوعي بذاتي، هو الغير نفسه الذي يحول بيني وبين نفسي ويهددني في وجودي. فالغير ليس مجرد موضوع أو شيء بل هو ذات وأنا آخر شبيه ومخالف لأناي. ومن ثمة فالعلاقة بيننا تقوم على السلب، وبذلك فالغير هو مصدر تهديد لحريتي ويبلغ هذا التهديد حد التشيؤ والإستيلاب. فكل من الأنا والغير ينظر إلى الآخر كموضوع ويشيئه ويفرغه من مقومات الوعي والحرية والإرادة، هذا ما يعنيه سارتر بعبارة “الجحيم هم الآخرون les autres c’est l’enfer “
ويقدم لهذه العلاقة الصراعية التشييئية مثال النظرة le regard ، ومثال الخجل la honte كظاهرة سيكولوجية تنتاب الأنا أحيانا ولا يمكن الشعور بها إلا بحضور الآخر ونظرته son regarde وفي هذا يقول سارتر، “إن الخجل، هو خجل من الذات أمام الآخر، فأنا خجول من نفسي من حيث أتبدى للغير، ويضيف موضحا، قد تصدر عني حركة غير لائقة، وهذه الحركة تلتصق بي، لا أحكم عليها ولا ألومها، لكن بمجرد ما أعي شخصا يشاهدني، ويتبين لي أنه اكتشف ما في حركتي هذه من سوقية، حتى أشعر بحالة الخجل وتدب في أوصالي، لا أجد لها مخرجا إلا بالهروب والتستر عن نظرات الغير التي تجمد حركاتي وإمكانياتي، فهو عندما يراني يصبح قادرا على تأويل سلوكي ومنحه معنى سلبيا، يمكن أن يكون مخالفا للمعنى الذي أتصوره أنا ، والحكم علي من الخارج من طرف الآخر، يصبح جزءا من الحكم الذي أصدره على نفسي، أنا خجول من نفسي من حيث أتبدى للغير، لأنه يشيئني، ويحولني إلى موضوع.”
هكذا فوعي الأنا عند سارتر مشروط بوجود الغير، لكن بالرغم من هذا الإقصاء والتشيؤ الذي يمارسه كل من الأنا والغير على بعضهما البعض، فإن وجود كل منهما ضروري للآخر. إن الصراع ضروري لوعي الذات بذاتها، فلا أستطيع أن أكتشف عواطفي وانفعالاتي النفسية إلا داخل الحضور الفعلي أو الرمزي للغير.
ينظر سارتر إلى وجود الغير كوسيط ضروري لا غنى عنه في وعيي بذاتي وإدراكي لحالاتي الشعورية وتشكيل هويتي، فمن جهة يمكنني من الوعي بذاتي واكتشاف عواطفي وانفعالاتي، (مثال الخجل) ومن جهة أخرى يعتبر مصدر تهديد لحريتي فيحول بيني وبين نفسي ويهددني في وجودي إذ يحولني إلى موضوع أو شيء فارغ من مقومات الوعي والإرادة والحرية (مثال النظرة)، ولعل هذا ما يعنيه سارتر بعبارة “الجحيم هم الآخرون les autres c’est l’enfer
أطروحة مارتن هايديغر
وفي نفس السياق نجد الفيلسوف الألماني “مارتن هيدغر” يؤكد أن وجود الأنا مع الأغيار في إطار الحياة المشتركة يؤدي إلى تذويب الذات وإفراغها من خصوصيتها ويفقدها بالتالي اختلافها. وبالرغم من أن الغير هو الآخر الذي له وجود يميزه عن الأنا، فإن وجود الأنا مع الآخرين ينزع عنها تفردها وينمطها حيث يجعلها تعيش على شاكلة الآخرين ويفقدها وجودها الأصيل، إن الوجود مع الآخرين يمارس هيمنة على الذات فيحولها إلى ذات مشتركة بدون هوية. إذن فوجود الغير يشكل تهديدا للذات ويجردها من استقلاليتها.
أما “هيدغر” فيؤكد أن وجود الأنا مع الغير في إطار الحياة المشتركة، يشكل تهديدا لوجود الأنا، فيحولها إلى ذات مشتركة بدون هوية، ويؤدي إلى تذويبها وإفراغها من خصوصياتها، وتجريدها من استقلاليتها، فينزع عنها تفردها وينمطها، حيث يجعلها تعيش على شاكلة الآخرين ويفقدها بالتالي اختلافها ووجودها الأصيل إذن فوجود الغير يشكل تهديدا للذات ويجردها من استقلاليتها.
تركيب محور وجود الغير
انطلاقا مما سبق عرضه، يمكن القول بأن حضور الغير ليس احتماليا كما تصوره ديكارت، فالواقع يؤكد على أن وجود الغير ضروري لوجود الأنا ما دام هذا الأخير محكوم عليه بالخروج من عزلته والانخراط في الحياة الجماعية، وإذا كان الغير يشكل تهديدا لهوية الشخص أو الأنا وسلبا لحريته وفرديته، فإنه في آن واحد يعتبر شرطا ضروريا للوعي بالذات ومعرفتها لنفسها. وإذا كان الغير ضروري لوعي الذات أو الأنا بوجودها ، فهل يمكن معرفته؟