غياب الفلسفة عن جامعاتنا يجعلها مُهَدَّدة بخطر التّفاهة والتقوقع
الأستاذ توفيق رشد لـ"الاتحاد الاشتراكي": الأحد يوليوز 2004، العدد 7645
خلال الموسم الدراسي القادم، ستحتضن مدينة الدار البيضاء، لأول مرة في تاريخها، شعبة للفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك. وفي هذا السياق التقينا بالأستاذ توفيق رشد (من المشرفين على الشعبة) الذي أكد أن عودة الفلسفة إلى الجامعة هي انتصار للفكر العقلاني النقدي الذي لم يَعُد مسألة أكاديمية، بل أصبح ضرورة وطنية تهم الجامعيين بقدر ما تهم غيرهم والهدف هو تحصين الفكر والحياة من العبث والفوضى. وأوضح ذ. توفيق- في مرافعة جميلة، أن الفلسفة مُقاومة وصراع ضد التَّفاهة والوضاعة والانحطاط على مستوى الفكر والحياة معاً، وأنها حاجة ملحة لتحقيق التنمية، وأنها ليست انعزالا أو تعاليا عن الواقع، بل هي إنتاج للمفاهيم والأفكار التي ترتبط بِطُرُق الوجود وأساليب الحياة، فهي ليست صدفة أو هِبَة بل إِنّها تُكْتَسَبُ بالاستحقاق.
حاوره سعيد منتسب
تثبت المرحلة التي نعيشها، أكثر من أي وقت مضى، الحاجة إلى الفلسفة. بماذا تردون على قضية منع الفلسفة، من الجامعة (في جانبه العملي والرمزي)، وما هو جوابكم على الذين أمعنوا في بناء الجدران لمنع الأجيال من معانقة السؤال الفلسفي الذي يشحذ الفكر، ويجعل الطالب قادرا على بلورة رؤية نقدية للأشياء والموضوعات، واتخاذ مواقف حرة معقولة عبر تشغيل آليات التحليل والتركيب والنقد؟
لقد اعتقد الذين منعوا شُعْبَة الفلسفة أنها انقلابيّةٌ، غير أن الفلسفة لم تَسْعَ أبداً إلى تغيير الأنظمة. ولا تنشغل بما يَجبُ أَنْ يَكُون ولكنها تتحدّث عمّا هو كَائِنٌ كما هو كائِنٌ بالفعل. يقول هيغل في مقدّمة “فينومينولوجيا الرّوح”: بالنّسبة لِما يجب أن يكون الفلسفة تأتي دائماً متأخِّرةً، الفلاسفة لا يقومون إلاّ بمتابعة التّاريخ، إنّ بُومَة مينيرفا لا تطير إلاّ عندما يأتي الليل. أمّا بالنسبة لمعرفة شؤون الحُكْمِ والقِيادة، فالشُّعوبُ لم تنتظرْ قطُّ الفلسفة.
صحيح أنّ “أفلاطون” تحدّث عن مشروع الجمهوريّة و”ماركس” نادى بتغيير المُجتمع الرأسمالي في اتجاه تأسيس مجتمع شيوعي… لكن هذه الدّعوات تدخل في مجال السّياسة لا في مجال الفلسفة، وللفيلسوف الحق أن يتوقّف عن كونه فيلسوفاً كي يهتم بالسياسة أو غيرها.
بعد كل هذه السنين من غياب الفلسفة عن معظم الجامعات المغربية يحق للمرء أن يتساءل ولماذا نعود لتأسيس الشعبة؟ وما هي المصلحة؟
إن تجاوز مخلفات الماضي وتصفية الملفات العالقة، والحديث عن عهد جديد؛ لابد أن يأخذ بعين الاعتبار الإفراج عن الفلسفة والعلوم الإنسانية والفكر الإسلامي، غير أن رفع الحضر على هذه الاختصاصات لا يمكن أن يقوم بمجرد إضافة مسالك جديدة لِما هو قائم الآن، بل هو إعادة الاعتبار للفكر العقلاني النقدي الذي لم يعد مسألة أكاديمية بل أصبح في اعتقادنا ضرورة وطنية تهم الجامعيين بقدر ما تهم غيرهم والهدف هو تحصين الفكر والحياة من العبث والفوضى والتخريب.
لنتصور أن أحداً مَنَعَ كُتُب شيكسبير وأتْلَفَها ولم تصل إلينا، فهل سنجد من الأدباء والمسرحيين والنقاد من سيدعو إلى أهميته وضرورته في أعمالهم وإبداعاتهم؟ أبداً، لأنهم لا يعرفونه، إننا سنجد أنفسنا كمن يقرأ كتابا كبيراً هو ثقافة عصر ما، لكنه كتاب مبتور ولن تستقيم قراءته إلاّ بالعثور على الأوراق المبتورة، هذا ما حدث في عهد الدكتور العراقي عندما بَتَرَ الفلسفة والعلوم الإنسانية من التعليم الجامعي، وقلّص من ساعات تدريسها في التعليم الثانوي، فلم يمرّ وقت قصير حتى أصبح تكريس هذا المنع وترسيخه مهمة يَتَبَنّاها بَعْض إن لم نقل أغلب رجال التعليم، وأصبحت الدعوة إلى تصحيح هذا الوضع نوع من الشّذوذ، والوعي بخطر غياب الفلسفة يكاد يكون منعدما.
التّصدّي لتحديات الإصلاح تفترض على شعبة الفلسفة، التي تنطلق بكلية الآداب بنمسيك في الموسم القادم، الالتزام بروح إصلاح العملية التربوية، والاستيعاب والتفتح وتمثل إنجازات الفكر البشري والإنصات إلى متطلبات المحيط، وليس التقوقع والانغلاق. فماذا أعددتم لإنجاح هذا الرهان؟
يجب أن نوضح في البداية إن العلوم والآداب في مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري تكون مترابطة ومتداخلة فيما بينها تداخلا عضويا، مثل الكائن الحي إذا بُتِر عضو منه يصبح مشوها بكامله، كما حدث عند إلغاء الفلسفة والعلوم الاجتماعية والفكر الإسلامي من الجامعة المغربية، تضرر تاريخ الأدب والنقد الأدبي وكذلك التاريخ..إلخ، فلا بد مثلا من سوسيولوجية الأدب وفلسفة النقد وفلسفة التاريخ، فالعلوم تلتقي وتفترق كالشاطئ littoral الذي هو في آن مكان الالتقاء ومكان الافتراق بين البَر والبحر.
إن إلغاء الفلسفة والعلوم الإنسانية شوّه العملية التربوية وأفسدها، فقد أسس لفكر الانغلاق والتقوقع وأصبح كلٌّ منكمش في اختصاصه الضيق لا يعرف ما يدور حوله، بل الأدهى من ذلك، أصبح أصحاب هذه الاختصاصات يعتبرون أنفسهم قضاة في محكمة الفكر يحكمون على مواد بأنها أساسية وأخرى ثانوية وأن الفلسفة كُفْرٌ ومدرسيها كُفّار والتصوف خروج عن الدين والطريق المستقيم.
إن الفلسفة لا تحيى داخل الكتابة الفلسفية فقط بل إنها تتأصّل في الكتابة الشّعرية والرّوائية وغيرها… فقد نجد أعمق أشكال التّعبير الفلسفي في صياغة حكاية سَرْدِيَّة صغيرة، إن الفلسفة عميقة جدّاً إلى درجة أنها تُدْرِكُ أنّ الأدب أعمق منها كما يقول ميشال سير.
معنى ذلك أنكم تؤكدون على أهمية الفلسفة، وأنها الجواب الجوهري على الفكر الواحِدي الشُّمولي، ومشاكل التقوقع والانغلاق..
إنّ الفلسفة ليس اختيّاراً من بين اختيّارات أخرى، بل هي ضرورة قصوى ومستعجلة.إنها أولا الفلسفة أوّلاً هي مقاومة وصراع ضدّ التّفاهة والوضاعة والانحطاط على مستوى الفكر والحياة معاً. تاريخ الفلسفة هو تاريخ المقاومة. فَمِن سقراط الذي ضحّى بحياته من أجل معرفة الحقيقة، وقول الحقيقة عن الذّات، ومقاومة خطر نسيان الذّات، إلى أرسطو الذي قسّم القضايا إلى: صادقة وكاذبة، فتلخّص منطقه في مقاومة الكذب، إلى ديكارت الذي قاوم الخطأ ووضع قواعد بسيطة، واضحة ومتميّزة للعقل، ثمّ كانط الذي أسّس محاكم للعقل… ثمّ تظهر الفلسفة في صيغة صراع ضدّ الوهم وبعد ذلك ضدّ الإيديولوجيا…الخ
مقاومة النّسيان والكذب والخطأ والوهم والإيديولوجيا وغير ذلك هي محاولات تحصين الفكر والحياة من التّفاهة والوضاعة والانحطاط.
إنّ غياب الفلسفة عن جامعاتنا يجعلها مهدّدة بخطر التّفاهة والتقوقع لقد تشكلت جيوش من المتخصصين: تجد أطروحات جامعية يؤرخ بعضهم فيها لقريته أو قبيلته، والآخر يكتب مئات الصفحات عن الألف أو عن جمع المؤنت السالم، ويصبح البعض داعية لنظرية وفي أحيان كثيرة لمذهب أو عقيدة، تتكون جزر لا يربط بينها رابط ولا يستطيع أحد أن يبحر تجاه الآخر، يتكلم المثقف ولا يعرف مع من ولماذا ولا يكاد أن يفهمه أحد! … وهذا هو الإحساس العميق الذي دفعنا للتّأكيد على أهمّية الفلسفة، فضلاً على أنّ الفلسفة هي جزء لا يتجزّأ من العلوم الإنسانيّة، وغيّاب الفلسفة لا تتضرّر منه الفلسفة وحدها بل يشمل الضّرر باقي العلوم الإنسانية نظراً للارتباط العضوي بينها جميعاً.
الفلسفة هي قبل كلّ شيء صداقة ومحبّة وعشق Philo ، ونحن ننطلق من هذا النّزوع العشقي لترسيخ علاقات الصّداقة بين الاختصاصات، فالعلوم الإنسانيّة هي عائلة واحدة، من هنا فنحن نهدف إلى مقاومة التّقوقع والانغلاق داخل الاختصاصات، باعتبار أنّ النّصوص الحيّة هي النّصوص المهاجرة؛ فلحظات ازدهار الفكر البشري هي لحظات سَفَرٍ وهجرة: عندما تتحوّل الرّواية إلى فيلم سينمائي ويتحوّل النّص الفلسفي إلى موسيقى ويهاجر النّص الأدبي إلى المسرح…الخ.
الفلسفة هي فعاليّة إبداعيّة مهمّتها إنتاج وخلق وإبداع المفاهيم، أي إضفاء قيمة ومعنى على حياة الأفراد والشّعوب، ويشكّل إنتاج المعاني والقيّم المنسوبة إلى الحياة مسألة أساسيّة، ذلك أنّ إنتاج المعنى والقيمة ليس مسألة عرضيّة بل هو جوهر الحياة ونمط الوجود نفسه. ولِكُلٍّ المعتقدات والقيّم والأفكار التي يستحقّ.
فالمعاني والأفكار والتّقييمات مرتبطة بطرق الوجود وأساليب الحياة، فهي ليست صُدْفَة أو هبة، بل إنّها تُكتسب بالاستحقاق. فكما أنه لا بدّ للشَّعْب من جنودٍ ينتجون الأمن والسّلام وجنود ينتجون المأكل والمسكن.. فلابدّ له أيضاً من جنود ينتجون المعنى والقيمة والفكرة.
الفلسفة هي رسم خطوط ومدُّ جسور وفكّ حصار، فالتّقوقع في الكلّية داخل الاختصاص أو التّقوقع داخل المحيط، أو المدينة أو الوطن لا يتماشى مع الانفجار التكنولوجي (الأقمار الاصطناعيّة، الهندسة الوراثيّة / التّناسخ، والأنترنيت) ذلك أننّا ملزمون بالانتماء والانخراط في الكوني والإنساني والعالمي، فنحن ننتمي إلى المتنبّي وابن رشد بقدر ما ننتمي إلى ديكارت ورامبو…
تريدون أن تقولوا أن الفلسفة هي البداية والمُنتهى لأي إقلاع مجتمعي، وأنها السلاح الأقوى في وجه التنافسية والعولمة، وأنها السّماد الناجع لتخصيب تربة التنمية.
لا يجوز أن نعتبر هذا الانفجار التّكنولوجي واكتساح التّقنيّة والعلم مجرّد نقلٍ بريء وحيّادي لاستراتيجيّات التّنمية، ولأفكار ومذاهب نقبلها أو نرفضها، لأنّ هناك نمطاً كاملاً من الحياة هو الذي يخترق كلّ المعاقل، والوطنيّات والهوّيات القوميّة والعقائديّة. إنّه قدر هذا العصر، لا يستطيع أحَدٌ اختيّاره، كما لا يستطيع رفضه، ولكن يمكن على الأقل تسليط بعض الوعي حتّى لا يظلّ العصر وحده يسكننا بأوهامه ومعاييره، كما يشاء، بل نحاول نحن أن نسكن فيه على طريقتنا.
رجوعا إلى ما تُسمونه أهمية الفلسفة وضرورتها في عالم اليوم ، كيف تردون على الذين يذهبون إلى أن الفلسفة ارتفاع عن الواقع، وأنها مجرد تأمل تجريدي يكتفي بنفسه، وليست له أية صلة بحياة الناس ومشاكلهم…؟
إن كون الفلسفة هي فن تشكيل وابتكار وصنع المفاهيم، يعني أن هناك ضرورة لذلك. فالفلسفة ليست تأمُّلاً Contemplation ، ولا تفكيرا Réflexion ، ولا تواصلا Communication ، حتى وإن كان لها أن تعتقد تارة أنها هذا وتارة أنها ذاك، الفلسفة هي : حُبُّ وعِشْقُ وصداقةُ : Philo-، الحكمة : Sophie إن الأصل الإغريقي للكلمة يدل على ذلك (Philo – sophie). هذا النزوع العشقي الذي تنطوي عليه الفلسفة يدفعنا للتفكير في المعشوق أو في الصديق والحبيب الذي هو الحكمة، يتساءل جيل دولوز :
«ما معنى الصديق حين يصبح شخصية مفهومية أو شرطا لممارسة الفكر؟ ألا يعني ذلك أن الصديق سوف يُدْرِجُ حتى في الفكر، علاقةً حيوية مع الآخر الذي اعتقدنا إقصاءه من الفكر الخالص؟ أوَ لا يتعلق الأمر بكائن آخر غير الصديق والعاشق؟ لأنه إذا كان الفيلسوف هو صديق الحكمة وعاشقها، أوَ ليس ذلك راجعا إلى كونه يدّعي هذا الأمر ببدل المجهود على مستوى القوة بدل امتلاكها بالفعل؟ ألن يكون الصديق كذلك هو الراغب، والموضوع الذي تحصل عليه الرغبة هو الذي سيقال عنه إنه الصديق، وليس الموضوع الثالث الذي قد يغدو على العكس منافسا؟ ألا يمكن للصداقة أن تنطوي على حذر تنافسي مقابل الند بقدر ما تنطوي على نزوع عشقي نحو موضوع الرغبة».
جيل دولوز/ فيليكس غتاري، ما هي الفلسفة، ترجمة، مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي/ المركز الثقافي العربي، . 1997 ص. .29
إننا نعلم أن الصديق أو العشيق كراغب لا يقوم بدون غريم ولا نِدٍّ أو منافس فِعْلِيٍّ أو مُفْتَرَض. يرصد جيل دولوز بسرعة أنداد ومنافسي الفيلسوف، كالسفسطائي الذي يتنازع مع الفيلسوف على بقايا الحكيم القديم؛ لكن كيف يمكن التمييز بين الصديق الحقيقي والمزيف، بين المفهوم وشَبَهُهُ SIMULACRE وبين الـمُـتَظاهِر SIMULATEUR والصديق : ذاك هو مسرح كامل عند أفلاطون، يسعى إلى تقديم المزيد من الشخصيات المفهومية مضيفا عليها قوى تَمُتُّ إلى الهزلي والمأساوي.
ثم تلتقي الفلسفة بغريم آخر، ومنافسين جدد، كالعلوم الإنسانية، وعلى الأخص السسيولوجيا. ثم جاء دور الابستمولوجيا واللسانيات، بل حتى التحليل النفسي – والتحليل المنطقي. وهكذا راح يواجه الفيلسوف، من تجربة إلى أخرى، منافسين وأنداد، »حتى أن أفلاطون نفسه لم يكن ليتصوَّرهم في أشد لحظاته هَزْلاً. وقد بلغ العار مداه أخيرا حينما استحوذت المعلومياتية والتسويق التجاري وفن التصميم والدعاية، وكل المعارف الخاصة بالتواصل، على لفظة المفهوم ذاتها وقالت : هذه من مهمتنا، نحن الخلاَّقين، إنما نحن منتجو المفاهيم! نحن وحدنا أصدقاء المفهوم، نجعله داخل حاسوباتنا. .«
تصرون على تقديم مرافعة دفاعا عن الفلسفة في الوقت الذي ينذر البعض من داخل حقل الفلسفة أن مآلها هو الموت والزوال، كيف تردون على هؤلاء؟ وهل بإمكان الفلسفة أن تصمد أمام هذا الخطاب؟ وهل للفلسفة مستقبل؟
يُنتج جيل دولوز مفهوم المآل Devenir ومفهوم الانفلات أو خطوط الانفلات Lignes de fuite لتفكيك مفهوم «المستقبل» L’avenir، فنحن عندما نتساءل عن مستقبل الفلسفة أو مستقبل المرأة أو الثورة…إلخ، فإننا نهمل صيرورة مآلات الفلسفة أو صيرورة مآلات المرأة أو الثورة؛ أي نهمل خطوط الانفلات.
عندما نفكر في «المستقبل»، مستقبل المغرب مثلا، ونرسم تصوّرا لهذا المستقبل ونضع له البرامج والمخططات، فإن الذي يتحقق هو مغرب آخر، مغرب يتجسَّد لا من خلال التصورات والبرامج والمخطَّطات بقدر ما يتجسد من خلال خطوط الانفلات.
فالمجتمع كما يقول جيل دولوز، يتحدد بخطوط انفلاته أكثر مما يتحدد بتناقضاته، فهو ينفلت من كل الجهات. ليست البرامج هي التي تصنع المستقبل، فواقع أي مجتمع من المجتمعات ليس منبثقا من تطبيق هذا البرنامج أو عدم تطبيق ذاك، بل هو واقع ناتج عن المآلات المتعددة والمختلفة، وعن خطوط الانفلات التي تتجاوز البرنامج أو المخطط، فنحن لا نَصْنَعُ المستقبل بأيدينا بقدر ما نُصْنَعُ فيه.
إن ما يمكن قوله عن المجتمع يجوز أيضا على حياة الفرد، إذ أن حياة الفرد هي انجراف مستمر على خطوط انفلات مختلفة، فالفرد يؤول إلى ما يؤول إليه خارج البرامج والأهداف والمخططات المرسومة، فالسؤال ماذا تريد أن تكون في المستقبل، هو سؤال سخيف، لأنه في الوقت ذاته الذي نفكر في هذا السؤال أو في الجواب عليه نكون في حركة على مثن مآلات لا نعرفها.
ألسنا مهددين بأن نجد على خط من خطوط الانفلات ما نريد أن ننفلت منه؟ أليس من المحتمل أن نجد أمامنا من جديد التشكيلات الأوديبية وأبدية : الأب/أم؟ ألسنا أمام خطر عودة الفاشية وأنظمة السٌّلط القمعية على خط الانفلات نفسه؟ Dialogues, P. 49/50. قد تكون الكتابة على علاقة وطيدة بخط الانفلات. أن نكتب هو أن نرسم خطّا للانفلات، ونكون مضطرين للانخراط فيه، لأن الكتابة تلزمنا به، وتقذفنا في مساره.
أن نكتب معناه أن نمنح الكتابة لمن يفتقدونها، لكن هؤلاء هم الذين يعطون للكتابة مآلات لا يمكن أن توجد بدونهم.
إن أسمى موضوعات الكتابة في الأدب الإنجليزي هي : المغادرة والانفلات، اختراق الآفاق والانخراط في حياة أخرى على خلاف الأدب الفرنسي الذي يعتبر المغادرة والانفلات جُبْناً وتملُّصا من الالتزامات و المسؤوليات، فالأدب الفرنسي استعادة للإقامة أو توطُّن.
التوطن هو الارتباط بالوطن والحدود أو ما يسمّى بالتراب الوطني، هذا الارتباط يحمل مخاطر التكرار والجمود والتحجر. التوطُّن بَحْثٌ عن أُصُولٍ وجذورٍ وتاريخ، التوطُّن انحصارٌ وتقوقع داخل المدينة أو القرية أو الوطن أو التراث..إلخ.
أما المغادرة والرحيل والسّفر، فهي سمات الأدب الإنجليزي، كل شئ في الأدب الإنجليزي رحيل، مآل، عبور، قفزة، علاقة بالخارج، ابتكار لأرض جديدة، خطوط انفلات.
أريدكم أن تتحدّثوا عن مستقبل الفلسفة، عن مآلها، عن صمودها.
قد يطرح التساؤل عن ماهية الفلسفة والعلوم الإنسانية في ظل انتشار قراءات عن موت الفلسفة (هيدغر) والنهاية المقبلة للعلوم الإنسانية (ميشال فوكو)، وقد يعزى ذلك إلى تطور العلوم والتقنية الحديثة، وبالتالي عدم الحاجة إلى فكر فلسفي مجرّد إلا أن الفلسفة ليست فكراً تجريدياً ولم تكن قطّ كذلك رغم أن بعض الفلاسفة والأساتذة والبرامج المدرسية تذهب إلى أن الفلسفة هي تأمل في المجردات. إن الفلسفة هي نوع من الدِّرْمَاطُولُوجِيا العامة Dermatologie générale مهمتها هي الاهتمام بالسطوح أي الجزئيّات والتّفاصيل.
الفلسفة ليست ولم تَكُن قطّ انشغالاً بالعموميّات، فهيّ ليست تأَمُّلاً، ولا تجريداً، كما أنها ليست مثاليّة أو مادّية. إن الحديث عن الفلسفة كتأمُّل أو تجريد أو الحديث عن المثالية والمادِّيّة شيء مُثير للسُّخرية؛ كما أنّ الفلسفة ليست هي الحِكْمَة فالفيلسوف ليس هو الحكيم بل هو صديق أو محِبُّ أو عشيق، أو خطيب الحكمة.والتّسميّة ذاتها تدلُّ على ذلك: PHILO تعني حب وصداقة وعشق، SOPHIE تعني الحكمة. لقد ابتدع اليونان هذه الصّيغة ذات الأهمّية الكبرى وهي: الصَّداقة. والصّداقة أو العشق والحُب تفترض وجود أشخاص أحرار قادرين على الاختيّار أي اختيار الصّديق أو العشيق. ومن هذا المنطلق تتأسَّسُ المُنافسة الحُرّة، وتظهر شخصية الغَرِيمِ أو النِّدّ. هنا تلتقي الفلسفة بالرّيَّاضة البدنيّة التي تنبني على المُنافسة، وليس غريباً أن تبدأ الألعاب الأولمبية من اليونان.
إن شخصية الصّديق أو العشيق.. تقتضي الإخلاص وكذلك التَّضحيّة والكَرَم. إنّ صديق الحِكْمة؛ الفيلسوف ليس هو الفرد الذي ينزوي وينفرد ليتأَمّل في المجرّدات والعُمُومِيَّات، ذلك أن الصّداقة والحب يفترضان على الأقل شخصين أو أكثر. إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الاندماج والانخراط مع شخصيَّاتٍ: الصّديق والغريم والمُنافس وليس تاريخاً للانزواء والتّأَمُّل والتَّجريد… وحتّى عندما يتحدّث أفلاطون مثلاً عن الفكرة Idée المِثال أو المُثُل، فإنّه يفترض أنّ هناك أشخاصاً آخرين يدّعون امتلاك الفكرة وهم أصدقاؤها، وتبدو هذه المسألة بوضوح عند ديكارت فهو عندما يقول: أنا أفكّر فأنا موجود فإنّ هذه الذّات المفكّرة، هذه الـ[أنا] المُفَكِّرة العاقلة تفترض شخصية أخرى هي الأبله والمجنون والأرعن… ففي المفهوم الدّيكارتي هناك شخصيّات: المُفكّر العاقل والأبله أو المجنون.
يتحدّث جيل دولوز عن الشّخصيّات المَفْهومِِيَّة ويعتبر أنّ تاريخ الفلسفة لا بُدّ من أن يَمُرّ عبر دراسة لهذه الشّخصيّات، ولتحوُّلاتها تبعاً للمجالات، ولحقيقتها تبعا للمفاهيم. فالفلسفة لا تكفّ عن إحياء شخصيات مفهومية وعن منحها الحياة. والشّخصيّة المفهومية كما يقول دولوز لا علاقة لها أبداً مع أيَّة شخصية تجريدية، أو رمزٍ أو استعارة، ذلك لأنها تَحْيَى، تُلِحُّ وتبالغ، والفيلسوف هو الاسم المستعار لهذه الشخصيَّات المفهومية. وقَدَرُ الفيلسوف هو أن يصير أحدَ هذه الشخصيات المفهومية أو جميعها…
أما بالنسبة لفكرة موت الفلسلفة التي روّج لها الفلاسفة أنفسهم فما دام هناك حاجة للفلسفة فستبقى منتجة رغم هذا الجدل القائم. فالسياسة قائمة لأنها ضرورية لإنتاج القوانين والمساطر ومختلف أشكال التنظيم في المجتمع؛ والسينما قائمة طالما أنها قادرة على إنتاج الحركة والصورة؛ والأديان قائمة لأنها تتنتج الشرائع والعبادات؛ والفلسفة بدورها ستظل قائمة ما دامت تنتج المَعاني والقِيم. فكما أننا في حاجة إلى مساطر وقوانين وتنظيمات وفي حاجة إلى شرائع وعبادات.. فإننا في حاجة إلى معاني وقيم تنتجها الفلسفة من خلال المفاهيم