ديكارتيون بدون ديكارتية
لم يكن الاستقبال الذي حظي به ديكارت في الثقافة العربية الحديثة استقبالا عاديا. فقد لاقى فكره عناية واهتماما عز نظيرهما بالنسبة لأي فيلسوف غربي آخر، باستثناء كارل ماركس ربما. إذ اقترن اسمه بصفة كونه “إمام وأب الفلسفة الحديثة”، و “أكبر الفلاسفة المحدثين” إلى غير ذلك من النعوت التبجيلية، مما يشي بأنه كانت قد تشكلت في الوسط الثقافي المصري من أوائل هذا القرن فكرة مفادها أن ديكارت هو مفتاح الفكر الحديث، الذي يشكل الإطلاع عليه ضرورة تقتضيها متطلبات روح النهضة التي أطرت فكر النخبة المصرية الناهضة في بدايات القرن.
ولعل ما يسر حسن استقبال ديكارت في بيئة ثقافية لم تخل يوما من حذر وتوجس من الفلسفة، على الرغم من المناخ النهضوي العام في مصر، ومن الصورة المشرقة التي تشكلت عن ديكارت، هو معرفة الكتاب والنخبة الثقافية العربية بآراء ديكارت في البرهنة على وجود الله، إذ يشير الدكتور عثمان أمين إلى أن الشيخ محمد عبده كان قد أشار إليها واعتمد عليها في السنوات الأولى من هذا القرن.
يرجع ظهور اسم ديكارت في الصحافة العربية إلى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر في كل من مصر والشام. فقد نشرت مجلة “الهلال” في مصر، في أوائل كانون الثاني (يناير) 1897 جوابا على سؤال لأحد قرائها، يسأل فيه عمن هم الكارتازيون وفي أي عصر كانوا ومن هو المؤسس الحقيقي لمذهبهم، وعلى أي أساس بني مذهبهم، تقول فيه المجلة إن الكرتازينيين أو الكارتازيين هم أتباع فلسفة ريناتوس كارتاسوس وهو فيلسوف فرنسوي يعرف باسم ديكارت. ثم تواصل المجلة عرض بعض أفكار ديكارت، أما الكتب العربية الأولى التي بزغ فيها اسم ديكارت وتحدثت عن فلسفته فتعود بدورها إلى السنوات الأخيرة من القرن الماضي فنذكر من بينها كتاب الفلسفة للقس بوتيير الذي ترجمه جرجس صعب سنة 1883 ببيروت، وكتاب “الفلسفة” للأب جرجس فرح الصغير سنة 1893 بالاسكندرية، وكتاب “الفلسفة الحديثة” لأنيس أفندي الخوري سنة 1914 بالاسكندرية وكتاب “مبادئ الفلسفة” بالاسكندرية لزكريا أحمد رشدي، وكتاب “تاريخ الفلسفة منذ أقدم عصورها إلى الآن” المطبوع بالقاهرة لصاحبه حنا أسعد فهمي، في هذه الفترة تقريبا.
المرحلة الثانية في التعرف على فكر ديكارت هي المرحلة الأكاديمية المرتبطة بالجامعة الأهلية المصرية، حيث خصص ماسينيون ضمن محاضراته (1912 ـ 1913) عن “تاريخ المصطلحات الفلسفية” حيزا لفلسفة ديكارت. كما خصص جلارزا، المستشرق الإسباني، في دروسه بالجامعة المصرية حول “الفلسفة العامة وتاريخها وعلم الأخلاق” (1918 ـ 1919) ثلثي محاضراته للتعريف بحياة ديكارت ومؤلفاته متوقفا بالخصوص عند “مقال في المنهج” و”تأملات ميتافيزيقية”. وبعد ذلك بدأت أفكار ديكارت تخرج من رحاب الجامعة عن طريق كتابات طلابها وخريجيها : طه حسين في كتاب “الأدب الجاهلي” زكي مبارك “الأخلاق عند الغزالي” (1924) ومي زيادة في حديثها في كتاب طاهر الضاحي في “أطياف من حياة مي” وفي مقالها “غرفة في المكتبة”، وعلي العناني في مقالته عن ديكارت المنشورة بمجلة النهضة الفكرية حوالي 1932 يمكن أن نقول أن هذه المرحلة بمفاصلها الثلاثة: في الصحافة، ولدى الأساتذة الأجانب في الجامعة المصرية، ثم لدى خريجي الجامعة إنما كانت مرحلة تمهيدية لمهرجان ديكارتي عربي واسع، عبر الترجمة والتأليف، استمرت من حوالي 1930 إلى حوالي 1980.
ونستطيع أن نميز في هذا المهرجان الديكارتي العربي بين عدة أشكال ومستويات من الاهتمام تتراوح بين الترجمة، والتأليف الأكاديمي، والتناول التاريخي لديكارت في سياق الفلسفة الغربية أو في سياق الثقافة العربية الإسلامية، هذا بالإضافة إلى أشكال أخرى من التوظيف المذهبي والمنهجي لأفكار ديكارت. وبما أن الاهتمام بديكارت قد انصب بتوجيه من ماسينيون وجلارزا، بالدرجة الأولى، على كتابه “مقال في المنهج” فقد كان هذا الآخر هو أول كتاب لديكارت تمت ترجمته إلى العربية. فقد حث الشيخ مصطفى عبد الرازق، أستاذ الفلسفة بالجامعة المصرية، ورائد الاتجاه العقلي في دراسة الفلسفة الإسلامية، تلامذته على ضرورة ترجمة النصوص الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي. وهو الذي وجه محمود الخضيري إلى ترجمة “مقال في المنهج”وقام بمراجعة الترجمة على أصلها الفرنسي. وهذه الترجمة تؤرخ لبداية الترجمة الفلسفية للعصر الحديث من حيث العناء المبذول فيها في ما يخص إيجاد المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات الفلسفية الفرنسية، وأيضا في ما يخص محاولة تطويع العربية الحديثة على أداء المعاني الفلسفية الجديدة. وذلك “بالتقريب بين كثير من المعاني الواردة في “المقال في المنهج” وبين معان لفلاسفة الإسلام فيها قول”.
ويذكر الخضيري في المقدمة التي وضعها لترجمة المقال سنة 1930 سببين دفعاه إلى ترجمة المقال في المنهج أولهما عام ويتمثل في “عظيم العناية في مصر والشرق بالاطلاع على الثقافة الغربية (…) رغبة العقلاء في مشاركة الأمم التي فاقتها في الحضارة والمعارف التي يعتمد عليها هذا التفوق”، وثانيهما يتمثل في أن “المقال” لم يكن مجرد مقدمة لكل النهضات الفلسفية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بل هو عند البعض أساس المدنية الحديثة إذ جعلوا منه أصل الثورة الفرنسية التي هي عند إميل بوترو وليدة “المقال في المنهج” لأن المجتمع قد تحدد سنة 1789 باسم مبدأ اليقين العقلي الديكارتي. وقد أعاد جميل صليبا ترجمة هذا الكتاب ونشر ببيروت تحت إشراف اليونسكو سنة 1953.
أما الكتاب الثاني لديكارت والذي حظي باهتمام مماثل فهو كتاب “تأملات ميتافيزيقية” الذي قام بترجمته عثمان أمين بعد ذلك بخمس سنوات استجابة لرغبة أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق وترجع أهمية هذا الكتاب في نظر عثمان أمين إلى أنه هو كتاب العصر إذ فيه ما يدعو أهل الفكر، في هذا العصر المادي الصاخب، إلى النظر في مشاغل الروح والخلود إلى امتحان النفس. وهذا الكتاب أعاد كمال يوسف الحاج ترجمته ونشره في بيروت بعد ذلك في 1971. وأيضا بعد ذلك ترجم عثمان أمين كتاب “مبادئ الفلسفة” الذي نشر بالقاهرة سنة 1962. ولعل هذه الكتب الثلاثة هي التي حظيت بترجمة كاملة بل لأكثر من مرة. وما عدا ذلك تمت ترجمته على شكل نصوص وشذرات في كتاب نجيب بلدي “ديكارت” (دار المعارف، 1959) أو في كتابات أخرى مثل كتاب أندريه كريسون عن ديكارت الذي ترجمه تيسير شيخ الأرض ونشر من النصوص المستقاة من كتب مختلفة لديكارت، أو في كتاب عثمان أمين عن ديكارت (القاهرة، 1975). أما كتبه الأخرى مثل “كتاب الانفعالات” فلم يترجم إلا في العقود الأخيرة، ومن البين أن ترجمة نصوص ديكارت كانت انتقائية تحكم في اختيارها السياق الثقافي النهضوي في الشرق عامة وفي مصر خاصة.
لقد خضع المثقف الديكارتي، في صيغته العربية، لعدة قراءات أستطيع أن أميز فيها، ولو من باب التعسف التوضيحي، بين قراءات داخلية وقراءات خارجية، وأقصد بالأولى قراءة ديكارت عبر المقارنة مع الفلاسفة العرب المسلمين في مختلف العصور، وأقصد بالثانية قراءته من خلال المقارنة بينه وبين الفلاسفة الغربيين الآخرين.
النوع الأول من القراءة نجده لدى ماسينيون وجلارزا، وهو الذي شكل النواة الأولى لعملية مقارنة مستمرة بين ديكارت والفلاسفة العرب، حين شبه ماسينيون ديكارت بنصير الدين الطوسي من حيث الاهتمام بالرياضيات.
وقد سرت مثل هذه المقارنات وتكاثرت بعد ذلك بشكل كبير. فقد عمد زكي مبارك في رسالته الجامعية حول الأخلاق عند الغزالي إلى المقارنة بين ديكارت والغزالي في مسألة الشك منتهيا إلى أن “شك الغزالي كان سببا في جمود الفلسفة في الشرق بينما كان شك ديكارت سببا لنهوضها في الغرب”. كما قام محمود حمدي زقزوق بإنجاز رسالة جامعية بالألمانية حول “المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت”، مبينا مدى تطابق أفكار كل من الغزالي وديكارت في موضوع الشك المنهجي، ومخففا من وقع الحكم الذي ينسب انهيار الفلسفة في الشرق إلى الغزالي.
أما الباحث المصري محمد شريف صاحب كتاب “الفكر الإسلامي منابعه وآثاره” (1967) فقد أبرز تأثير الغزالي على ديكارت بل على كل الفلسفة الحديثة، بل إن الغزالي في نظره هو الذي وضع كل الملامح الرئيسية للفلسفة الغربية من ديكارت إلى برغسون. ولعل مقارنة ديكارت بالغزالي لم تقل قدرا عن مقارنته مع ابن سينا. فقد قد عثمان أمين بحثا مقارنا بعنوان “بين أنية ابن سينا وكوجيتو ديكارت”، كما كتب إبراهيم بيومي مدكور كتابا بعنوان أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبية سنة 198مبينا فيه أن حقيقة النفس وخلودها كان لها تأثير في العديد من المفكرين المسيحيين وخاصة برهان “الرجل المعلق” الذي مهد بدون شك لفكرة الكوجيتو عند ديكارت. وهي الأفكار نفسها التي يدافع عنها في كتاب آخر هو الفلسفة الإسلامية حاشدا لها آراء بعض المستشرقين مثل فورلوني في دراسة له بعنوان “ابن سينا والكوجيتو الديكارتي” وغيلسون. وفي هذا الكتاب يرجع مسألة العلاقة بين النفس والجسم لدى ديكارت إلى ابن سينا معتبرا، أن هذا الأخير هو الممهد لفسيولوجيا وسيكولوجيا ديكارت.
نفس الاتجاه نلحظه لدى محمود قاسم في دراسات في الفلسفة الإسلامية، وجميل صليبا في كتابه من أفلاطون إلى ابن سينا، وسليمان دنيا في مقدمة تحقيق كتاب ابن سينا الإشارات والتنبيهات، وثابت الفندي في مقدمة تحقيق رسالة ابن سينا في معرفة النفس الناطقة وأحوالها.
وإذا كان معظم الباحثين في العلاقة بين ديكارت وابن سينا ينساقون إلى بيان التأثير والأسبقية، فإن قلة فقط من الباحثين رفضت الانسياق في هذا الاتجاه. فزينب الخضيري رفضت في كتابها “ابن سينا وتلاميذه اللاتين” الخلوص إلى تأثير الأول في الثاني انطلاقا من مجرد وجود تشابه في افكارهما.
لكن المقارنة بين ديكارت والفلاسفة العرب لم تقف عند حدود بيان العلاقة مع الغزالي وابن سينا، بل تسلمت ابن رشد وابن طفيل، والمعتزلة، والنظام، والفارابي، كما طالت علماء كابن الهيثم، والقلصادي، وجابر بن حيان ونصر الدين الطوسي، وطالت المتصوفة كابن عطاء الله السكندري، والكرمائي، وامتدت المقارنة إلى الإمام علي.
والقاعدة العامة التي حكمت كل هذه المقارنات هي إما إثبات أسبقية الحضارة العربية الإسلامية إلى الكثير من أفكار ديكارت، أو إثبات تأثير هؤلاء على ديكارت، أو تزكية وإضفاء للمشروعية الثقافية على مساهمات المفكرين العربي والمسلمين.
ومقابل ذلك ازدهر نوع آخر من القراء لنصوص ديكارت نطلق عليه اسم القراءة الخارجية أو السياقة، ونقصد بها بيان علاقة ديكارت بغيره من الفلاسفة الغربيين كليبنتس وسبينوزا وبيكون وهوبز ولوك، وهيوم، وفيورباخ ومالبرانش والرواقية.
وقد ساعدت هذه المقارنات على استيعاب أحسن للفكر الديكارتي إلا أنها لم تكن بدورها بريئة، فهي أميل إلى أن تكون تأويلات لفكر ديكارت في مسار الاتجاه المذهبي لصاحبه.فالمقارنة بين ديكارت وسبينوزا عند حسن حنفي تسير في اتجاه تمجيد وانتقاد ديكارت في نفس الوقت باعتباره أعلى من شأن العقل لكنه استثنى من حكم العقل العقائد والكنيسة والكتاب المقدس والعادات والتقاليد والأخلاق ونظم الحكم، مؤثرا عقلانية سبينوزا الجذرية على عقلانية ديكارت التبريرية.
وقيس هادي في كتابه نظرية العلم عند فرنسيس بيكون ينتقد فكرة أبوة ديكارت للفلسفة الحديثة مبينا أن بيكون يشارك ديكارت في إرساء الأسس الفلسفية للعلم الحديث وتمهيد الاتجاه نحو النظرة الآلية للظواهر. وسواء تعلق الأمر بعقد مقارنة مع الفلاسفة العقلانيين (ليبنتس – سبينوزا) أو مع التجريبيين (بيكون – هوبز – لوك) فإن المقارنة غالبا ما تصب في سياق تأويلي معين إما عقلاني أو تجريبي.
لكن ضمن هذه النزعات في المقارنة والتأويل يمكن أن نتحدث عن اتجاه يغلب عليه الطابع الأكاديمي ويمثله الخضيري وبلدي وغيرهما.
ولم يسلم الفكر الديكارتي من التوظيف الفلسفي في إطار أحد الاتجاهات الفلسفية الكبرى نجمل هذه التوظيفات في ثلاثة:
أ ـ التوظيف المنهجي أو الإبستمولوجي ونموذجية استعمال طه حسين للشك الديكارتي في دراسة تاريخ الأدب العربي حيث دعا إلى اصطناع منهج الشك، وتبرئة النفس من كل ما قيل حول الأدب العربي وتاريخه من قبل، مع دعوتنا إلى “أن ننسى عواطفنا القومية وكل مشخصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدينية وكل ما يتصل بها وأن ننسى ما يضاد هذه العواطف القومية والدينية، وألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا لمناهج البحث العلمي الصحيح ذلك أننا إن لم ننس هذه العواطف وما يتصل بها فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف وسنلغي عقولنا”.
ونعلم جميعا الضجة التي أثارتها هذه الدعوة. ولعل أقوى هذه الردود كان رد مصطفى صادق الرافعي الذي أعلن أن أقبح ما في الكتاب أن صاحبه “يعلن تجرده عن دينه عند البحث” يريد أن يأخذ النشء بذلك اتباعا لمذهب ديكارت الفلسفي الذي يقضي على الباحث بالتجرد عن كل شيء عندما يبحث عن حقيقة. وهذا لعمري منتهى الجهل”. بل إن الرافعي يخلص إلى القول أن طه حسين “أداة أوروبية استعمارية يعمل على إفساد أخلاق الأمة وحل عروبتها الوثقى فهل نعتبر هذا الرد وغيره من الردود الرافضة ردود فعل شخصية أم تعبيرا عن رفض الثقافة العربية لاستخدام معايير ومناهج خارجية في فهم ذاتها والحكم على نفسها؟”
ب ـ التوظيف المذهبي الروحاني لديكارت، وتطوير الجوانب الروحية في فلسفته نجده بالخصوص لدى عثمان أمين، وكمال الحاج، ونظمي لوقا. فجوانية عثمان أمين هي مزيج من الديكارتية والبرغسونية، “وهي فلسفة نبتت من تأمل روح الدين والأخلاق”. لقد كان كل جهد عثمان أمين في ترجمة ديكارت، وفي الدعوة لفكره والتأليف عنه منصبا في إطار دعم قيم الروح مقابل قيم المادة، ومن أجل سد مظاهر النقص في القوة الروحية للإنسان الحديث، مثلما فعل ديكارت نفسه.
إن ديكارت عثمان أمين هو في النهاية ديكارت روحاني باطني وديني، إنه رائد ثورة روحية أكثر مما هو باني فكر عقلاني.
وقد سار تلميذه نظمي لوقا في نفس المنحى تقريبا حيث قدم عدة دراسات عن فلسفة ديكارت مطبوعة بسمة دينية قوية وواضحة. فهو يرى في كتابه الله أساس المعرفة والأخلاق عند ديكارت (القاهرة، 1973) أن المعرفة والأخلاق غير ممكنين إلا على أساس أن الله جوهر ماهيته الكمال الأسمى بالإطلاق. وديكارت حسبه “يجعل من معرفة الله أساسا لمعرفة العالم، وأساسا للحق والخير إطلاقا، ومحورا للفضيلة، ثم قطبا تتجه إليه النفس مجندة كل عناصرها ومدربة على الائتمان والطاعة – تدفع من حبها وعرفانها لمصدر الوجود وأوجب المعرفة وباري، الحيز بإرادته الكاملة”. وبإيجاز فإن ديكارت كما يصوره نظمي لوقا فيلسوف صوفي باطني حتى الأعماق.
نفس المحاولة نجدها عند الفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج الذي يرى أن بحث ديكارت في مشكلة النفس ومسألة الله دليل ضد الذين قللوا من شأن المسألة الما ورائية أو اللاهوتية عنده. وهو يعترف بأن ديكارت ذهب إلى الحدود القصوى للعقلانية لكن دون أن ينكر الإيمان. فالله عنده مصدر العقل والإيمان معا لأن فكرة الله هي الأساس في عمارة ديكارت الفلسفية كلها. ويعتبر التوظيف الروحي الديني لأفكار ديكارت أقوى كل هذه التوظيفات لأننا نعثر عليه لدى عدد كبير من الباحثين والكتاب، فهو إذا كان قويا وواضحا لدى عثمان أمين وكمال الحاج ونظمي لوقا، فإنه حاضر وإن بصورة أقل لدى الباحثين الذين حاولوا أن يظل تناولهم لديكارت ذا طابع أكاديمي خالص مثل نجيب بلدي. إن النغمة الدينية الروحية التي ارتبط بها فكر ديكارت أن أذهان العديد مم الباحثين كانت في أصل عملية تيسير دخول ديكارت اللطيف إلى ساحة الفكر العربي دخولا بكل هذه الكثافة والزخم.
ج ـ التوظيف المادي لأفكار ديكارت فمثلما طور الفريق السابق صورة روحانية عن ديكارت عمد فريق آخر إلى إبراز المكونات المادية في فلسفته. ومثلما استقى الأوائل التأويلات الروحية المتداولة في الفكر الغربي فقد استلهم الأواخر التأويلات والقراءة المادية لفكر ديكارت.
فديكارت في نظر الاتجاه الأخير يمثل لحظة قطيعة مع العصور الوسطى. فهو رائد النظرة الآلية للطبيعة، والفيزياء الديكارتية هي إحلال للنظرة الكمية والقياس محل وجهة نظر الكيفية القائمة على تصنيف الأنواع. فهو قد أعطى للمادة كيانا امتداديا ملموسا وقابلا للقياس، بل اعتبرها قوة خلاقة قائمة على نوع من الآلية. ففكر ديكارت بهذا المعنى هو الأساس الفلسفي لفكر العصور الحديثة. إن أصداء هذه القراءة المادية لفلسفة ديكارت نلمحها لدى مراد وهبة في كتابه عن برغسون، ولدى محمود أمين العالم في كتابه عن المصادفة، وإلى حد ما في كتاباته دراسات ونصوص في الإبستمولوجيا المعاصرة: مدخل إلى فلسفة العلوم ضمن هذا التفسير. يقول الجابري: “إن ديكارت هو أبو الفلسفة الحديثة بدون منازع، ودوره في تقويض دعائم الفكر القديم وإرساء الفكر الأوروبي الحديث على أسس جديدة عقلانية كان أعظم واشد تأثيرا من الدور الذي لعبه غاليلو”.
هذه صورة مكثفة عن كيفية تلقي الثقافة العربية الحديثة لفكر ديكارت ترجمة، وقراءة، واستثمارا منهجيا ومذهبيا اعتمدنا فيها بشكل أساسي على كتاب الديكارتية في الفكر العربي لأحمد عطية. وهذا التلقي يدل على مدى الحظوة التي حظي بها ديكارت في ثقافتنا العربية الحديثة، وهي الحظوة التي لا يكاد ينافسه فيها ربما سوى ماركس أو سارتر.
ويبدو لي أن هناك قدرا من الالتباس في فهم ديكارت في الثقافة الفلسفية العربية المعاصرة. فهو تارة مفكر كلاسيكي مجدد، وتارة مفكر تجديدي كليا. وربما كان مصدر هذا الالتباس أن ديكارت نفسه لا يخلو من التباس وازدواجية: رجل في العصور الوسطى ورجل في العصور الحديثة. كما يبدو أن الفكر العربي لم يفهم المكانة الرمزية لديكارت في تاريخ الفكر الأوروبي، هذه المكانة التي يعبر عنها الكوجيتو من حيث هو إحلال للذات البشرية المتمثلة في مركز الصدارة. فهل الانتقائية في الترجمة، وسوء الفهم، والتأويلات المختلفة، والاستثمارات المختلفة هي أعراض تفرزها ثقافة تقتصر على “استيراد” الفكر العقلاني من الخارج، وتدافع عن نفسها مخافة أن يكتسحها ويستذيبها هذا المفكر الجديد؟ أم أن المجتمع العربي نفسه لم يبد لحد الآن قابليته للعقلانية التي تعني فيما تعنيه روح النقد والتساؤل في وجه كل ما هو تقليدي؟
* نظم سنة 1996 بكلية الآداب بفاس.