مجزوءة المعرفة
مجزوءة المعرفة
(1) تأطير مجزوءة المعرفة
إذا كان اهتمامنا في المجزوءة الأولى قد انصب على النظر في الإنسان بوصفه معطى في الوجود، فإن اهتمامنا في المجزوءة الثانية (مجزوءة المعرفة) سينصب على النظر في الإنسان بوصفه ذاتا عارفة. والمعرفة نشاط أو فعالية بشرية يستطيع الإنسان بموجبها أن يفعل ويؤثر في محيطه الطبيعي والإنساني، إنها علاقة جدلية بين ذات Sujet عارفة وموضوع Objet للمعرفة.
فالمعرفة تشكل محور الاهتمام الفلسفي للإنسان وجوهر وجوده، باعتباره الكائن الوحيد الذي يستثمر المعارف، ويتساءل حول وجوده وحول العالم الذي يحيط به، ومنه سعيه الدائم إلى البحث عن الحقيقة في مختلف مجالاتها وتأسيس معرفة موضوعية عن الأشياء والمواضيع والظواهر، وعن القضايا التي تشغل اهتمامه وتفكيره.
وتتعدد الوسائط التي تُحَصَّل بها المعرفة، وبالتالي تتعدد أصنافها، ويمكن التمييز فيها بين عدة أنماط:
- المعرفة النظرية المجردة وهي التي تُحَصَّلُ بالعقل وحده كتلك التي نجدها في الرياضيات والمنطق والهندسة مثلا،
- المعرفة الحسية التجريبية التي تحصل عبر الحواس والملاحظة -الإدراك الحسي- والقياس كالمعارف المُعَبَّر عنها في العلوم التجريبية كالفيزياء التجريبية مثلا.
- المعرفة الحدسية intuitive وهي التي تُحَصَّلُ عبر الحدس Intuition المباشر دون المرور بوساطة الإستدلال؛ أي أنها معرفة مباشرة، تتم في مقابل المعرفة الاستدلالية التي تحتاج إلى وساطة العقل أو التجربة. ناهيك عن …
- المعرفة الحسية التلقائية والانطباعية التي يُعبر عنها الناس في سياق الحس المشترك والحياة اليومية وهي غالبا ما تطبعها الذاتية وتتقاطع مع المعرفة الموضوعية
إذا كانت المعرفة باعتبارها نشاطا بشريا قديمة قدم الإنسان ذاته وملازمة لوجوده فإن المعرفة كإشكالية فلسفية ارتبطت بالعصر الحديث بداية من القرن 17م وظهور الفلسفة الحديثة؛ حيث سيهيمن مبحث المعرفة (الإبيستيمولوجيا) على جل التوجهات الفلسفية خلال هذه الحقبة، وفي هذا السياق برزت مفاهيم علمية من قبيل النظرية والتجربة وما رافقها من قضايا وإشكالات إبيستيمولوجية وميتودولوجية (منهجية) . وما رغبة الإنسان في تحصيل المعرفة إلا رغبة في البحث عن الحقيقة؛ ذلك الشعار العزيز على الفلسفة منذ نشأتها مع الإغريق القدامى:
فما النظرية؟ وما التجربة ؟ وما طبيعة العلاقة بينهما؟ وهل استطاع الإنسان – وهو يسخر نظرياته وتجاربه – أن يبلغ الحقيقة؟ وما الحقيقة؟ وكيف يمكن بناؤها؟ وهل هي واحدة أم متعددة؟ وما معاييرها؟ وما الذي يحث على طلبها؟