قضايا فكرية و فلسفيةالحداثة الفكرية

الحداثة الأخلاق والسياسة (*) العلمي الإدريسي رشيد

يمكن أن نلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين إلى نقد الحداثة وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة, انطلاقا من تجارب التاريخ. على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية في ذات الوقت (على سبيل المثال, الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا, الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا…)؛ إن صعود وتنامي الفاشيات في أوروبا ارتكز على طروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن.

إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها). ألا يجب بالأحرى أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذهب إليه هابرماس في هذا الموضوع, حيث أنه دعا إلى التفريق بين قيم الحداثة والتي لا يماري أحد في أهميتها والواقع التاريخي الذي يتحكم فيه التركيب الاجتماعي وطبيعة الطبقات السائدة.

I – أواليات مفاهيمية:

1 – الحداثة: مفاهيم متعددة.

يمكن القول بداية إن الحداثة مفهوم يصعب تحديده بدقة, زمنيا ومفهوميا.

زمنيا أولا:

هناك من تحدث عن حداثة “الديمقراطية في أثينا” في التاريخ القديم(1) وهناك من قال بحداثة السفسطائيين وماثلها بالفكر الأنواري الذي برز فيما بعد(2)، وهناك من تحدث عن الحداثة بصفتها مرحلة فكرية متميزة ظهرت مع بروز الذاتية في القرن السادس عشر وامتدت إلى أواخر القرن التاسع عشر. ثم اختفت في الفترات المتأزمة, تلك التي عرفت فيها أوربا تنامي حركات تنادي بالعدمية وبالقومية العرقية, وأفضت في آخر المطاف إلى النازية.

وطفت الحداثة على سطح الفكر, وتجلت على مستوى الواقع, بعد الحرب العالمية الثانية.

مفهوميا ثانيا:

ماذا تعني الحداثة؟ التكنولوجيا, التصنيع, الآلية, المعرفة العلمية, الزمنية, المؤسسات, الديمقراطية, الحقوق السياسية والمدنية؟

عندما يريد العرب توطين وتبيئة الحداثة ماذا يعنون بذلك؟ ألا يجب التفريق منذ البداية بين الحداثة والتحديث؟ إن مفهوم التحديث ظهر في الخمسينات, لما سعت المجتمعات الثالثية إلى نهج سياسات تنموية(3).

الحداثة, كمفهوم عام, تحيل إلى مفاهيم فرعية متعددة: الذات, العقل, التاريخ, السوق, الحقوق, الديمقراطية. ويمكن القيام بتعريف أولي للحداثة: إن الحداثة تعني الإيمان بقدرة الإنسان بفضل عقله أن يوجه مسار التاريخ وتغيير بناء المجتمع بغية تحقيق الديمقراطية وصيانة الحقوق والحريات. صحيح, إن وعي الإنسان بذاته وبقدرته على تغيير المجتمع, شكل منعطفا كبيرا في الفكر البشري.

2 – الحداثة: بنية تناقضية

على أن هذا التعريف الأولي للحداثة سيصطدم بتغييرات وتحولات في غاية من الخطورة, ستفضي إلى إعطاء الحداثة معاني ودلالات أخرى, وهذا ما سنحاول إبرازه.

لذا, نطرح هذا التساؤل الذي يتبادر إلى ذهننا منذ الوهلة الأولى: هل هناك حداثة واحدة, أم هناك حداثات مختلفة, متباينة أحيانا(4)؟

على مستوى المفاهيم أولا, العقل, الذات, الفرد, الحرية وغيرها من المفاهيم المؤسسة للحداثة لها معاني ودلالات مختلفة عند الأدباء والفلاسفة.

على مستوى الواقع ثانيا, يمكن بالفعل, القيام بتحقيب زمني لحداثات مغايرة: حداثة تأسيسية (في القرنين السادس عشر والسابع عشر), حداثة الأنوار, حداثة ما بعد الأنوار, حداثة القرن التاسع عشر, حداثة ما بعدية في مطلع القرن العشرين الخ…

ونصادف اختلافا كبيرا, إن لم نقل تعارضا, بين مستوى الفكر والقيم, ومستوى الواقع في نفس الظرفية وذات الحقبة التاريخية.

ـ حداثة التسامح والاختلاف, وهما مفهومان أنواريان أساسيان يقابلهما التوسع والاستعمار وإقبار الثقافات المغايرة(5).

ـ حداثة المشاركة السياسية, يقابلها الإقصاء والتمييز بين المواطن النشيط والمواطن السلبي (E.SIEYES) وبين المواطن المالك والمواطن غير المالك (J.Locke)(6).

ـ حداثة التعاقد السياسي يقابلها التباعد والتفارق بين مركزية الدولة وطرفية المجتمع. فالفعل التعاقدي هو فعل مؤسس للدولة الحديثة وفعل مؤسس كذلك للمجتمع المدني, مما قد يحدث تناقضا أساسيا بين مساعي الدولة ومطامح المجتمع, وهما يحظيان بنفس الشرعية السياسية(7). وكيف لا يحسم هذا التناقض على حساب المجتمع, والدولة تحتكر حق اللجوء إلى العنف الشرعي؟

ـ حداثة التقدم الاقتصادي, يقابلها الاغتراب والاستغلال والتفقير.

ـ حداثة المجتمع المدني, يقابلها المفهوم التجريدي للدولة. يرى ماركس أن الدولة “المجردة” المتعالية على الطبقات الاجتماعية, تعد من السمات المميزة للحداثة السياسية(8).

وبالتالي فالحداثة في معانيها الإيجابية والمثالية تحيل على الفكر والقيم, وفي معانيها السلبية تحيل على الواقع المعيش. انفصام المجتمع بين فكر مستنير, عقلاني, ديمقراطي وواقع إستلابي, إقصائي, مأساوي. ولعل مفهوم الحداثة يحمل في ذاته بنية تناقضية وحركية ذات اتجاهات متعارضة(9).

3 – فاوست والحداثة:

ومسرحية فاوست (FAUST) لغوته (GOETHE), كانت تعبيرا شاعريا ودراميا لهذه البنية التناقضية المحايثة للحداثة(10).

فالحداثة لكي تصل إلى أهدافها, وهي أهداف نبيلة في مبدئها, كالتنمية والتطور, قد تضحي بأعداد مهولة من البشر(11).

أسطورة فاوست تحكي قصة إنسان ممزق الوجدان, يسعى إلى تحقيق غايات حميدة, ولكن يرى نفسه مرغما على التحالف مع “قوى جهنمية”(12) والقيام بأعمال دنيئة ووضيعة. يقول برمان: “تكمن بطولة بطل غوته في تحرير طاقات بشرية هائلة كانت مكبوتة, ليس فقط في ذاته بل في جميع من يتصل بهم وبالتالي في المجتمع المحيط به ككل. غير أن التطورات التي يطلقها –على الأصعدة الفكرية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية- لا تلبث أن تتطلب أثمانا بشرية باهظة. ذلك هو معنى علاقة فاوست بالشيطان: لا يمكن تطوير القوى البشرية إلا عبر ما أطلق عليه ماركس اسم “قوى العالم السفلي” (القوى الجهنمية), تلك الطاقات الظلامية المرعبة التي قد تفلت بقواها الهائلة غير القابلة لأن تخضع لأية سيطرة إنسانية. تشكل مسرحية فاوست لغوته تراجديا التنمية الأولى ومازالت هي التراجيديا التنموية الأفضل حتى اليوم”(13) (*).

4 – الحداثة بين مكيافلي وتوماس مور:

مكيافلي وتوماس مور ينتميان إلى نفس الحقبة التاريخية, أي القرن السادس عشر, لكن اختلافهما الفكري يثير الاستغراب.

إذا كانت الواقعية السياسية لمكيافلي تكشف لنا عن فضاء سياسي رهيب ومخيف, فتوماس مور يحلق بنا في سماء اليوتوبيا ويتحدث لنا عن مدينة فاضلة, تسودها أسمى القيم الإنسانية. على أن عددا كبيرا من النقاد يجزمون بصفة قطعية أن تلك المدينة, وإن غدت الخيال السياسي, تبقى بعيدة عن الواقع, بل مفارقة له وغير قابلة للتحقيق الفعلي. هذا يسوقنا إلى تساءل آخر, مؤداه:

إذا كانت المدائن الفاضلة, كما تجلت في كتابات أفلاطون والفرابي وتوماس مور لا تعدو أن تكون تمثلات خيالية وحالمة, لا يمكنها التأثير على سيرة الإنسان, كيف يمكن تفسير تعلق الجماهير منذ أواسط القرن التاسع عشر بشعار الثورة, ومناداتها بالمجتمع الشيوعي, الذي سوف يعيد للبشرية, بمعنى من المعاني, عصرها الذهبي المفقود. لماذا يثير مكيافلي الإعجاب والانبهار ويثير توماس مور اللامبالاة والازدراء؟ هل تمثل الإنسانية ذاتها سلبا, في صور قاتمة, وترى أن عالم ميكيافلي, بقساوته ورذائله, هو أقرب إلى حقيقتها من عالم الحكمة والفضيلة لتوماس مور؟

وكلما تحدث إنسان عن عوالم أخرى, مغايرة, فاضلة, يقابل بالازدراء, إن لم يقابل بالاضطهاد والعنف؟

II – السمات الكبرى للحداثة:

1 – بروز الذاتية والرغبة في السيطرة:

إن الاكتشافات العلمية قادت إلى خلاصة مثيرة مفادها أن الحقيقة هي باطنية في الطبيعة ولم تبق تأملية ومتعالية كما كانت عليه في العصور القديمة(14).

وبفضل العقل يمكن الكشف عن القوانين الطبيعية والقوانين التاريخية والقوانين الاجتماعية, فالعقل ينفذ إلى خبايا الأشياء, ويدرك البنى الخفية. لكن, ما هي الأهداف المتوخاة من ذلك؟

إن الحقيقة التي ينشدها الإنسان في زمن الحداثة ليست عبثية أو اعتباطية, إنها حقيقة مسخرة للسيطرة على الطبيعة, وللتحكم في التاريخ ولضبط المجتمع. كان العقل عند أفلاطون يفيد الحكمة والفضيلة وكان عند الفرابي يفيد الخير والسعادة. أما العقل الحديث فصار يعني السيطرة على الأشياء ويقترن بالفعالية والذرائعية. إن العقل هو الأداة الضرورية للوصول إلى أهداف معينة. ومن ثمة, غدا العقل أداتيا وفي خدمة المصالح والمنافع(15).

والمنفعة تحول القيم السياسية إلى اختيارات استراتيجية, تتغير بتغير الأحوال والظروف. هذا التصور يأخذ في الدول النامية طابعا دراميا, حيث تبدو هذه الدول وكأنها في تأرجح دائم بين سياسات شبه ديمقراطية وسياسات سلطوية.

2 – حداثة الأخلاق: المنفعة.

ميز هنرى سيدويك في كتابه مناهج الأخلاق بين الأخلاق القديمة والأخلاق الحديثة, باعتبار أن الأولى كانت ترتكز على مفهوم الخير والثانية على مفهوم العدالة(16).

إن الفكر القيمي القديم كان يضفي على الأخلاق طابعا جذابا, أما الفكر الحديث فيضفي عليها طابعا إلزاميا وآمرا. فالخير عند القدامى يقوم على الفضيلة ويقود إلى الانسجام الروحي وإلى السعادة.

ويمكن القول أن كانط هو الذي وضع الصياغة النظرية لهذا التصور الحديث للأخلاق, لما اعتبر أن الخير والعدالة لا يمكن تحديدهما بصفة قبلية, ولكن بصفة بعدية, حسب ما ينص عليه القانون. ذلك أن السعادة في نظر كانط تحمل معاني متعددة, وتختلف باختلاف طبائع الناس, لذا, يرى أن الأخلاق يجب أن تقوم على الواجب, والواجب ينحدر من الوعي الأخلاقي المحايث للعقل البشري(17).

على أن اتجاهات أخرى في نظرية القيم أثبتت أنه لا يمكن إلزام الإنسان بالأخلاق إذا لم يكن يرى فيها منفعة أو مصلحة, لذا, يتحتم ربط الأخلاق بالمنفعة. ففي الكتابات الأخلاقية لدافيد هيوم وجريمي بنتهام, تفقد القيم قدسيتها, وتبدو وكأنها وليدة علاقات اجتماعية معينة, وتتحول إلى قيم شبه-اقتصادية(18). فالإنسان تقوده حسابات عقلانية وأنانية, ذلك أن الإنسان يبحث عن مصلحته الذاتية أساسا, ولما كانت مصلحة كل إنسان لا تتعارض بالضرورة مع مصلحة الآخرين, فتكون بالتالي في مصلحة الجميع.

فاختلاف المصالح يؤدي إلى التنافس بين الناس ويفضي في آخر المطاف إلى التقدم الاقتصادي. في خرافة النحل نصادف مادفيل (MANDEVILLE) وهو يماثل المجتمع البشري بالمجتمع الحيواني.

إن الغرائز نجدها سائدة ومتحكمة في كلا المجتمعين, فهي التي تحدد الأهداف والسلوكات. على أن هذه الغرائز هي في ترابط بينها, في انسجام تام بينها, مما يقود إلى حركية متواصلة ودائمة, نافعة ومنتجة(19).

3 – موجات الحداثة الثلاث وانحدار الفلسفة السياسية:

ذهب ليو ستووس إلى أن الحداثة الفكرية والسياسية, مرت بثلاث مراحل (= أو موجات) أساسية(20):

أ ـ الموجة الأولى تقترن باسم مكيافلي وهوبز:

سعى الفكر الإنساني في بدايات زمن الحداثة إلى تقريب الوجود من واجب الوجود, بمعنى آخر, إلى تقريب واجب الوجود (المثال), من الإنسان الواقعي بطبائعه وأهوائه.

كانت الطبيعة عند القدامى تحمل معاني ودلالات بالنسبة للإنسان, حيث أنها انسجام وتناغم وترابط, وكان الإنسان يسعى إلى محاكاة الطبيعة في حياته, في نظامه الاجتماعي والسياسي. وهذا المنحى في الفكر كان لا متناهيا, لا تحده حدود, لأن الطبيعة والكون يحيلان إلى مثال مطلق, فأفلاطون لما يتحدث عن الإنسان المطلق, فلا يعني به أوصافا معينة, بل يعني به الإنسان الواعي بأن إنسانيته ليست متناهية, ويمكن دوما تقريبها من مثال يبتعد كلما دنا منه.

كان الإنسان مقياس كل شيء, وكل تفكير في السياسة كان يوجب الانطلاق من المثال المطلق لإنسانية الإنسان ويفرض التقرب منه(21).

أما في العصر الحديث فلم تبق الطبيعة دالة على شيء بالنسبة للإنسان, وصارت تقترن بالفوضى واللامعنى, فغدا الإنسان يسعى إلى ضبطها والإمساك بها والسيطرة عليها. كانت الطبيعة قدوة يقتدى بها وأصبحت مادة مسخرة لأغراض الإنسان, ونلمس هنا مدى تأثير فلسفة هيدجر على ليوستروس الذي يرى أن الإنسان لم يعد مقياس كل شيء بل “سيد كل شيء”.

وصار التاريخ يقوم بدور الوسيط بين الوجود وواجب الوجود, ذلك أن مثال الوجود قد يتحقق بالفعل عن طريق انفعالات وأهواء البشر, بدون قصد منهم, وهنا تكمن “حيلة التاريخ”, إن أفعال الإنسان قد تبدو وضيعة, لكن يجب قبولها اضطرارا, وعدم التنديد بها لأنها في الواقع قد تكون في مصالح مسار التاريخ الإنساني.

هذه الرؤية التي أضفت على الأخلاق طابعا نفعيا وذرائعيا هي التي تجلت في كتابات مكيافلي وتوماس هوبز.

فمكيافلي ذهب إلى أن القضايا الإنسانية يجب إيجاد حلول لها بطرق سياسية واقعية وبراغماتية.

كان القدامى يعتبرون أن البحث عن النظام الأمثل يشكل عملا دؤوبا ومتواصلا، يصعب ضبطه والتحكم فيه, وتعترضه عوائق مختلفة, وقد تواكبه أحداث ووقائع ناتجة عن الصدفة.

أما ماكيافلي فيرى أنه لا داعي لترك مجال للصدفة, فالقوة السياسية يمكنها التحكم في كل شيء. وهذا يعني أن مكيافلي أبعد عن ذهنه الإشكال المرتبط بالنظام السياسي الأليق بالإنسان, فما يهمه هو ضبط المجتمع واحتواء الأزمات وتجاوز الانقسامية والتجزيئية في المجتمع. وصار للسياسة معنى أداتيا وتقنيا, حيث صارت تقترن بالضبط والسيطرة(22).

وذات الرؤية نصادفها عند هوبر الذي اهتم بالطرق والمسالك السياسية التي يمكن على أساسها تجاوز “حالة حرب الجميع ضد الجميع”.

وأفضت هذه النظريات إلى التاريخانية, إلى نفي الفلسفة السياسية, ولم تبق الفضيلة هي غاية السياسة, بل صارت في خدمة الجمهورية.

إن الجمهورية تستوجب الفضيلة, لأن الفضيلة ضرورية لبقائها واستمرارها, ولم يعد بالتالي ممكنا التفكير في الأخلاق في ذاتها وخارج المجتمع السياسي.

إن الأخلاق شرط من شروط الجمهورية ليس إلا, وهذا يعني أن الأمير يمكنه أن يتظاهر بالفضيلة دون أن يؤمن بها.

ب ـ الموجة الثانية تقترن باسم روسو:

انتقد روسو في البداية التوجهات الفكرية لموجة الحداثة الأولى, واعتبر أنه يجب العودة إلى القدامى وإحياء التراث القديم والمناداة بالقانون الطبيعي.

وفي الواقع, أضفى روسو طابعا راديكاليا على النزعة التاريخية التي لمسناها عند مكيافلي وتوماس هوبز. فهوبز ذهب إلى أنه لا يمكن إبعاد كليا القانون الطبيعي, بل يجب استحضاره ودراسته في الطور الطبيعي للإنسان. إن القانون الطبيعي كان يحيل قديما إلى المثل العليا, ويرمز إلى غايات الإنسان المثلى بعيدا عن كل واقع متعين, وصار يعنى عند هوبر الطور البدائي, ويحيل إلى المرحلة التاريخية الأولى للإنسان.

ويخلص هوبز إلى نتيجة مفادها أن القانون الطبيعي كشف عن حقيقة أساسية لدى الإنسان وهي: أن الإنسان في الحالة الطبيعية تغلب عليه الغرائز والأهواء. إن هوى الإنسان الأكثر تجدرا, بنظره, هو “خوفه من الموت العنيف بفعل الآخر”.

أما روسو وإن تظاهر بمعارضته لفكر هوبز, فهو أقر بمنطلقاته الأولى واعتبر أن القانون الطبيعي يشير إلى الحالة الطبيعية السابقة على الدولة: وهذا يعني أن روسو لم يكن يؤمن بمثالية القانون الطبيعي وبماهيته الغائية.

وذهب روسو إلى أن الإنسان في طوره الأول لم يكن له وعي أخلاقي, لم يكن يميز بين الرذيلة والفضيلة, كان إنسانا “متوحشا”, إنسانا يعيش بالفطرة. لذا نجد ليو ستروس يقول: “يكون الإنسان في الحالة الطبيعية أقل من الإنسان أو إنسانا ما قبل الإنسان”(23).

ذهب هوبز إلى أن الحالة الطبيعية تبين الحقوق التي كان يتمتع بها الإنسان سابقا والتي يتعين على الدولة صيانتها والحفاظ عليها, والأخلاق عند هوبز هي الواجبات التي يتعين على الإنسان احترامها, إذا رغب في السلام والطمأنينة.

سعى روسو إلى الابتعاد عن الطابع النفعي للأخلاق, كما تجلى في كتابات هوبز, فيعتبر أن الواجبات المرتبطة بالقانون تنحدر من الحقوق الأساسية, وتحديدا من الحرية, كيف ذلك؟

إن الإنسان البدائي, بما أنه أقل من الإنسان, فهو يكتسب إنسانيته, عن طريق التاريخ, بمعنى عن طريق المجتمع, فالتاريخية حلت محل طبيعانية القدامى. على أن التاريخ لا يمكن أن يكون أساسا ومعيارا لتقييم التقدم البشري. إذ, كيف يمكن القول أن الإنسان يسير في اتجاه إيجابي أو في اتجاه سلبي؟

وهذا ما دعا روسو إلى اللجوء إلى معيار خارج التاريخ, مستوحى من حالة طبيعية مفترضة, فالقانون الطبيعي الذي كان سائدا في الحالة الطبيعية السابقة على الدولة, هو المقياس الأعلى الذي يعطي معنى لمسار التاريخ.

وإن كان الإنسان يبدو “متوحشا” في طوره الطبيعي, فكان متحررا من كل القيود, كان ينعم بالاستقلال الذاتي, بالحرية, وتبعا لذلك, صارت الحرية المقياس الوحيد الذي يمكن على أساسه تقييم نظام اجتماعي أو سياسي. على أن الحرية تبقى عند روسو غير محددة وغير مضبوطة, وبالتالي, فما هي الغايات المتوخاة من الحرية, وكيف يمكن تمييزها عن الإباحية؟

يرى روسو أن الحرية قد تنبعث من جديد, وفي صورة أرقى, في مجتمع ينبني على الإرادة العامة, إن الإرادة العامة تعبر عن رغبات ومطامح الجميع, فهي تعبر عن الخير المشترك, فهي بالتالي ديمقراطية وعقلانية “ومعصومة من الخطأ”(24). ونتساءل: ما هو مقياس العقلانية عند روسو؟ إن العقلانية تقترن بنظره بالديمقراطية والمشاركة السياسية, حيث أنها تتجسد في قوانين تعبر عن الإرادة العامة, بمعنى أنها تعبر عن مصالح الجميع, بدون تمايز, وتفاضل؛ على أن العقلانية عند القدامى كانت مرتبطة بسعادة الإنسان, وكان يفكر فيها انطلاقا من المثال المطلق لإنسانية الإنسان.

إن أمثل القوانين عند روسو هي التي يشارك جميع المواطنين في وضعها, أما عند القدامى فهي القوانين التي تحاكي الطبيعة والتي تحمل أسمى القيم الإنسانية.

ويمكن القول بصفة عامة أن النظريات السياسية صارت ترتكز على تصورات أنثروبولوجية مستوحاة من طبائع الإنسان الواقعية أو المفترضة. في حين, كانت الأنثروبولوجية الفلسفية, عند القدامى, تنطلق من الإنسان المطلق المتحرر من شوائب الواقع.

ج ـ الموجة الثالثة تقترن باسم نيتشه:

إذا كان روسو يميل إلى الاعتقاد بأن الإرادة العامة ستقود المجتمع إلى التعايش في انسجام مع الطبيعة وستثير في الإنسان الإحساس بالطمأنينة والسكينة, فنيتشه يرى أن قضايا الإنسان لا يمكن حلها عن طريق السياسة. فالوجود يثير في الإنسان الإحساس بالقلق والخوف أكثر مما يثير فيه الإحساس بالطمأنينة. هذا القلق الوجداني يرتبط بمأساة الحياة. وهذا الإشكال هو لصيق بالإنسان بصفته إنسانا وليس هناك نظام سياسي كفيل بحله.

إن أغلب الفلاسفة انطلقوا من طبيعة الإنسان كما بدت لهم في عصرهم وسعوا إلى صياغة نظريات سياسية تتوخى العالمية والكونية, وفي الواقع, لم يدرك هؤلاء الفلاسفة أهمية التاريخ. على أن مائة سنة فصلت روسو عن نيتشه. وخلال هذه السنوات برز التاريخ بكل ما يحمله من معاني ودلالات في كتابات هيجل.

بالفعل, اعتبر هذا الأخير أن الصيرورة التاريخية تسير بصفة تكاد تكون حتمية نحو تقدم متواصل, ونحو “الدولة المطلقة”, التي تمثل في ذات الوقت نهاية التاريخ. إن الحداثة لدى هيجل أضفت طابعا زمنيا على المسيحية. على أن الفكر الذي ظهر بعد هيجل لم يقبل تصوراته؛ فنيتشه ذهب إلى أن التاريخ يبقى بدون معنى ولا يمكن في كل الأحوال التنبؤ بمساره. إن التاريخ لا يتقدم بصفة حتمية, إنه قد يتقدم بالفعل, ولكن انطلاقا من أفعال الإنسان ومن إرادته الواعية والحرة ومن إبداعاته ومشاريعه ومن المثل التي يؤمن بها. هذه المثل تبقى مرتبطة بثقافة الشعوب وبهويتها. وتاليا, لا يمكن الحديث عن مثل عالمية تنطبق على كافة الشعوب.

إن الحداثة بنظر نيتشه أضفت طابعا تجريديا على القيم الأخلاقية. إن القيم هي في الواقع لصيقة بحياة الإنسان وبوجدانه وهي وليدة المجتمع في لحظات من تاريخه, وهي مرتبطة بثقافته ومعتقداته؛ وبالتالي, فالقيم تتغير وتتبدل حسب ظروف الزمان والمكان. هذه الرؤية النسبية حيال القيم هي التي انتهت بنظر ليو ستروس إلى العدمية وقادت تاريخيا إلى إفراز الحركة النازية في ألمانيا(25).

وفي الختام يمكن القول أن طروحات ليو ستروس وإن كانت قابلة للنقد في بعض جوانبها(26), فهي تلتقي مع خلاصات فيلسوف ينتمي إلى اتجاه فكري مغاير تماما وهو يورغن هابرمس(27).

4 – الفصل بين السياسة والفلسفة:

في القرن العشرين وامتدادا “للفيزياء الاجتماعية” (AUGUSTE COMTE) التي ظهرت في القرن التاسع عشر, برزت نظريات تنادي بفصل السياسة عن الفلسفة وتنادي بربط المعرفة السياسية بمعايير في غاية من الصرامة العلمية, مستوحاة في غالبيتها من العلوم الطبيعية, وكتاب كارل بوبر المجتمع المفتوح ضد أعدائه يمثل هذا الاتجاه. كانت السياسة عند القدامى (أفلاطون, أرسطو, الفارابي, على سبيل المثال…) تعد امتدادا طبيعيا للفلسفة, بل ترتبط بها ارتباطا حميميا. بيد أن حداثة القرن العشرين دعت إلى التفريق بين السياسة والفلسفة وغدت السياسة مختزلة في الدولة والمؤسسات والأحزاب السياسية, وتم عزلها عن قضايا إنسانية في غاية من الأهمية. وصارت السياسة تحيل إلى مجتمع قائم بذاته (ما يسمى بالمجتمع السياسي), يختلف عن مجتمع آخر, لا سياسي (ما يسمى بالمجتمع المدني). مجتمعان إذن في مجتمع واحد. نسيان الوجود الذي تحدث عنه هيدجر لا يخص الفلسفة فقط بل يطال الفكر السياسي في أغلب مناحيه الحديثة.

ولما غدا الفكر السياسي يطمح إلى المعرفة الثابتة والعلمية ويسعى إلى محاكاة مناهج العلوم الطبيعية, صار يبحث عن المجالات القابلة للإختبارية, للبرهانية, والقابلة للإحصاءات والنماذج الرياضية, فابتعد عن العقل العملي. وصار البحث السياسي له طابع تجزيئي وقطاعي.

5 – انحسار السياسة وغيابها:

على مستوى الفكر أولا:

مما يلفت النظر أن عددا كبيرا من الفلاسفة في زمن الحداثة سعوا إلى التفكير في السياسة بطرق هندسية ورياضية. وهذا برز بكل وضوح وجلاء في نظريات هوبز ولا يبنز (LEIBNIZ) وكوندرسي (CONDORCET), ولم يكن هؤلاء واعين, على ما يبدو, بأن في هذا نسفا وتدميرا للسياسة. هذا التوجه ترسخ في النظريات التحليلية المعاصرة التي تعتمد على مناهج مستوحاة من “السبرنتيقا” (LA CYBERNETIQUE), كنظريات إستون (EASTON) وألموند (ALMOND) وبارسون (PARSONS).

على مستوى الواقع ثانيا:

إن السياسة التي تعني في عمقها التحاور والتداول والتواصل, ظهرت في أثينا الديمقراطية وفي روما الجمهورية ثم اختفت هذه السياسة, ولم تنجل ثانية إلا في المراحل الثورية وفي اللحظات التاريخية التي تعقبها. إن كتابات حنا أرنت في هذا المجال تعد في غاية من الأهمية. ذلك أنها ذهبت إلى أن جدلية الخفاء والتجلي صارت تحكم السياسة(28). إن نظام أثينا الذي افرز سياسة تواصلية وتفاعلية, لا تقيم تمييزا بين الحاكم والمحكوم, غدى المخيال السياسي لفلاسفة ينتمون إلى اتجاهات فكرية متباينة؛ كماركس وحنا أرنت وهابرماس.

إن تطور السياسة بمعناها المكيافلي (الدهاء والحيلة والعنف…) وامتداداتها المعاصرة عند كارل سميث وجليان فروند (الزعامة, القيادة, الطاعة, العنف…)(29), يعبر عن أزمة الفكر واختناقه وأزمة القيم واضطرابها, ويدل كذلك على اختفاء السياسة في ماهيتها الحقيقية.

فلما طغت الذاتية وهيمن العقل الأداتي, وسادت إرادة القوة, تحولت السياسة إلى تقنية, إلى تكنولوجيا للضبط الاجتماعي. مما أفضى إلى بروز مظاهر عنيفة في غاية من الخطورة فظهر ما أسمته حنا أرنت “بالشر المحض” أو “بالشر الراديكالي” (LE MAL RADICAL), والذي ترتب على النازية(30). إن حداثة العنف تتمثل في هذا الشر السياسي الذي لا مثيل له عبر التاريخ, حيث كان مخططا بشكل رهيب من طرف بروقراطية متحكمة وكليانية وتدعي “العلمية”.

إن الدولة النازية اعتمدت بهدف تبرير سياساتها إلى النظريات التطورية المستوحاة من كتابات داروين, والتي تنادي بالحفاظ على تفاوت الأجناس وعلى نقائها. إن “الإبادة العلمية” لليهود, بدت وكأنها طبيعية وعادية, بل مبتذلة, ولم تثر أي قلق وجداني عند القادة النازيين والمتواطئين معهم(31).

إن أسطورة فاوست تبدو متجاوزة في القرن العشرين لما امتزج العلم بالإيديولوجية وتجسد الحكم في بيوقراطيات تتنامى باضطراد, واغترب الإنسان واختفت السياسة.

في رواية “صمت عروسات البحر” (LE SILENCE DES SIRENES) لكافكا(32) نرى أوليس (ULYSSE) الذي يرمز إلى السياسة, حائرا وتائها بين أمواج البحر وعروسات البحر صامتة, لا ترغب في النشيد, غير مكثرتة به, ويتيه أوليس عن طريقه نهائيا ولا يتمكن من العودة إلى بلده. هذا هو مآل السياسة في زمن الحداثة عند كافكا إذ تحولت السياسة إلى طيف يحوم حول مجتمعات لا ترغب في وجوده. فهل صارت السياسة بدون وطن, بدون مكان, بدون فضاء؟

وإذا كان الأدباء والفلاسفة في أوربا يتحدثون عن اغتراب السياسة وعن غيابها في مجتمعاتهم الديمقراطية فما عسانا أن نقوله نحن عن السياسة في مجتمعاتنا العربية التي تعرف في معظمها أنظمة تسلطية؟

6 – العودة إلى أصول الحداثة؟

هل يجب نقض الحداثة وإبعادها كليا عن كل المجتمعات التي تطمح إلى التحرر والانعتاق, بعيدا عن زيف الإيديولوجيات المخادعة؟

يمكن أن نلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين إلى نقد الحداثة(33) وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة, انطلاقا من تجارب التاريخ. على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية في ذات الوقت (على سبيل المثال, الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا, الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا…)؛ إن صعود وتنامي الفاشيات في أوروبا ارتكز على طروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن.

إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها(34). ألا يجب بالأحرى أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذهب إليه هابرماس في هذا الموضوع, حيث أنه دعا إلى التفريق بين قيم الحداثة والتي لا يماري أحد في أهميتها والواقع التاريخي الذي يتحكم فيه التركيب الاجتماعي وطبيعة الطبقات السائدة(35)؟ n

المراجع:

1 – ARENDT, HANNAH, Eichman à Jerusalem. Rapport sur la banalité au mal , Gallimard, 1966

2 – ARENDT, HANNAH, La crise de la culture , Gallimard, 1972.

3 – BERLIN, ISAIAH, Le bois tordu de l’humanité Albin Michel, 1992.

4 – BERMAN, MARSHALL, All that is solid melts into air. The experience of modernity, Verso, 1983.

ترجم إلى اللغة العربية بهذا العنوان: حداثة التخلق. تجربة الحداثة, الترجمة لفاضل جتكر, مؤسسة عيبال, 1993.

5 – BIDET, JACQUES, Théorie de la modernité, PUF, 1990.

6 – BORELLA, FRANCOIS, Critique du savoir politique, PUF, 1990.

7 – DABEZIES, ANDRE, Le mythe de faust, Armand collin, 1990.

8 – CASTORIADIS, C., Les carrefours du Labyrinthe II, Seuil, 1989.

9 – CASSIRER, ERNST, La philosophie des lumières. FAYARD, 1986.

10 – DUCHET, MICHELE, Anthropologie et histoire au siècle des lumières, Albin Michel, 1995.

11 – FERRY, LUC, Philosophie politique, PUF, 1984, (Tome 1).

12 – FERRY, LUC, RENAUT ANDRE, Système et critique, Ousia, 1992.

13 – FREUND, JULIEN,  L’essence du politique, Sirey, 1965.

14 – GAUTIER, CLAUDE, L’invention de la société civile, PUF, 1993.

14 – GUTHRIE, W.C.K., Les sophistes, Payot, 1997.

15 – HABERMAS, JURGEN, Discours philosophique de la modernité, Gallimard, 1988.

16 – HABERMAS, JURGEN, La modernité un projet inachevé, Critique, 413, oct.1981.

17 – HABERMAS, JURGEN, Théorie et pratique, Payot, 1975 (Tome 1).

18 – HORKHEIMER MAX, THEODOR, W.ADORNO, La dialectique de la raison, Gallimard, 1974.

19 – KAFKA FRANZ, Oeuvres complétés, bibliothèque de la pleiade, 1980 (Tome 2)

20 – KERVEGAN, JEAN-FRANCOIS, Hegel et Carl Schmitt. La politique entre spéculation et positivité, PUF, 1993.

21 – LARMORE, CHARLES, Modernité et morale , PUF, 1993.

22 – LEFEBVRE, HENRI, Introduction à la modernité , Minuit, 1962.

23 – MACPHERSON, C.B, Théorie politique de l’individualisme possessif , Gallimard, 1971.

24 – MESHONNIC, HENRI,  Modernité, modernité, Verdier, 1988.

25 – ROSANVALLON, PIERRE, Le sacre du citoyen , Gallimard, 1992.

26 – ROVIELLO, ANNE MARIE, Sens commun et modernité chez Hannah Arendt, Ousia, 1987.

27 – SALA-MOLINS, LOUIS, Les misères des lumières, R.LAFFONT, 1992.

28 – STERNHELL, ZEEV, L’eternel retoure, Presses de la F.N.S.P., 1194.

29 – STRAUSS, LEO, Political philosophy, The Bobbsmeril company, indianapolis, New York, 1975.

30 – TOURAINE, ALAIN, Critique de la modernité, FAYARD, 1992.

31 – WEBER, MAX, Economie et société, Presses Pocket, Tome II, 1995.

32 – WIGGERSHAUS, ROLF, L’Ecole de Francfort, PUF, 1993.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى