أزمة الحداثة وعودة ديونيزوس، محمد مزوز
أمام دعاوي موت الإنسان، وانتهاء الفلسفة، وتفكيك العقل، والانتصار للاعقل، يلاحظ هابرماس، بنوع من الهدوء أنه “في العشر سنوات الأخيرة، أصبح النقد الراديكالي للعقل موضة”. هذه الموضة نفسها طالت حتى هوامش الحداثة، وخاصة في الآداب؛ حيث ساد التأثر بكتابات ديريدا المستندة على البنيوية واللسانيات. وبذلك دخلنا في علاقة وحيدة الجانب مع الحداثة، نستقبل ما هو جديد وفاتن ومغر!
أولا: من هو ديونيزوس؟
ديونيزوس Dionysos هو إله الخمر والسكارى في الميثولوجيا الإغريقية، وهو من بين أهم الآلهة عند اليونان. كانت ولادته غريبة، كما كانت حياته بئيسة. ولد في ظروف جد معقدة، فهو ابن للإله زيوس Zeus وسيميلي Sémélé (وهذه امرأة وليست إلهة)؛ لذا كانت الولادة من الأب وليس من الأم. أخرج زيوس من أحشائه ديونيزوس الصغير، واحتفظ به في فخده لمدة ثلاثة أشهر لكي تكتمل ولادته بشكل “طبيعي”. وقد أثارت ولادة ديونيزوس حقد وغيرة هيرا Hera (زوجة زيوس)، مما اضطر معه زيوس لتحويل ديونيزوس الصغير إلى بنت وسلمه إلى أثاماس Athamas وإينو Ino ليتعهداه بالرعاية والتربية. ولكن الإله الصغير لم يسلم من شر هيرا التي سلطت الجنون على أبويه بالتبني (أثاماس وإينو)، مما دفعه إلى الهجرة بعيدا حيث حوله زيوس إلى جدي –قصد التمويه على هيرا- وهناك تعهدته بعض الحوريات بالرعاية.
عندما وصل ديونيزوس إلى سن الرشد، لاحقته لعنة هيرا فأصيب هو بدوره بالجنون، وتاه في العالم. وكان عندما يدخل إلى بلد ما، يعلِّم الناسَ طرق غرس الكروم وكيفية صنع الخمور.. استمرت رحلة ديونيزوس التراجيدية في التنقل بين مصر وسوريا واليونان ببلاد تراس Thrace، بعد تحرره من الجنون وتعلمه لأسرار الإلهة سيبل Cybèle حيث أراد أن يدخل تعاليمه (زراعة الكروم وصنع الخمور)؛ ولكنه لقي معارضة من طرف الملك ليكورغ Lycurgue حاكم منطقة تراس. وقد تمكن ليكورغ من سجن الباخانيين Les bacchantes (أتباع ديونيزوس)، وأجبر ديونيزوس على الفرار واللجوء عند ثيتس Thétis. فيما بعد استطاع ديونيزوس أن يحرر الباخانيين، ويسلط الجنون على ليكورغ؛ وحول ثراس أرضا قاحلة.. هكذا راح ديونيزوس ينشر تعاليمه في كل بلد يمر به، حتى أصبحت بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط تدين بتعاليمه. بعد ذلك اتجه ديونيزوس إلى الهند في موكب من الباخانيين، والمتعاطفين مع تعاليمه. وأثناء عودته أظهر الكثير من القوة في البلدان التي فتحها، ودانت كثيرة من الشعوب لسلطته، وتدينت بديانته. قبل أن يصعد ديونيزوس إلى الأولمب لكي يستقبل من طرف الآلهة بعد أن استعاد كامل حقوقه، نزل إلى أعماق الجحيم ليخلص أمه سيملي من العذاب ويصعد بها إلى أعالي السماوات.
انتشرت تعاليم ديونيزوس في كل بلاد اليونان، وأصبح اسمه رمزا للقوة الحيوية التي تسري في حبات العنب وفي جميع النباتات، كما اعتبر في نفس الوقت إلها للحدائق والغابات، وكذا الماء كعنصر سائل ومصدر أولي للحياة. لقد اتخذ اسم ديونيزوس رمزا للحياة المرحة، والحفلات التي كان يحييها الباخانيون بالأهازيج؛ ونسبة إلى هؤلاء أطلق الرومان على ديونيزوس اسم: باخوس Bacchus. والأهم من هذا أن اليونان اعتبروا ديونيزوس هو الإله الحامي والمحافظ على الفنون الجميلة Les beaux-arts، وبالأخص التراجيديا والكوميديا المنحدرين من حفلاته التي كان يحييها الباخانيون.
كانت الأعمال الفنية Les œuvres d’art تعكس صورة لديونيزوس كإله شاب، يضع على رأسه إكليلا من أغصان الكروم وعناقيد العنب().
ديونيزوس هذا الإله الطريد، ساح في البلدان حاملا جنونه، ليعلم الناس كيفية الحفاظ على نسغ الحياة La sève de la vie التي ترمز إليها طريقة صنع الخمور. ومنذ بداية تشرده وهو صغير، دخلت آلهة اليونان في حياة مظلمة أو ما يسميه هولدرلين HöIderlin بـ”ليل الآلهة”. لأن الآلهة أصبحت كائنات عاقلة ومعقولة لا تقبل بالليالي الساهرة، وترفض نسغ الحياة، وبذلك قضت على الاندفاع الحيوي l’élan vital إذا استعملنا تعبير برغسون.
ديونيزوس الإله الشريد هو النقيض الآخر لكل الآلهة: إنه رمز للجنون واللاعقل، رمز للخمر الذي يغيب كل تفكير عقلاني ومعقلن. لهذا السبب هاجر ديونيزوس من بلاد اليونان –كرها ثم طوعا فيما بعد- ليحارب أنظمة العقل، ويحرر الشعوب المستعبدة من الولاء لقيم لا تخدم الحياة. ديونيزوس هو إله غر معترف به من طرف آلهة العقل، لأنه رمز للجنون والتهور، رمز لانحلال القيم السائدة (المثالية)، رمز للاندفاع الحيوي.. باختصار إنه رمز للحياة.
ثانيا: ما علاقة ديونيزوس بالحداثة؟
نيتشه Nietzsche هو الذي انتبه إلى هذا الوضع الذي كان يشغله ديونيزوس عند الإغريق، باعتباره ملهما للعبقرية اليونانية في مجال الإبداع الفني. وهو الذي انتبه أيضا إلى سيادة القيم الميتافيزيقية المضادة للحياة، والتي سيطرت على الفكر البشري لمدة طويلة تجاوزت الألفي سنة. هذه السيطرة لقيم “العقلانية” التي تعود جذورها إلى عصور سحيقة، تبدأ مع سقراط وأفلاطون، واستثمرتها المسيحية في العصور الوسطى الحديدية، حيث دخل الفكر الأوروبي في عقم نظري وسبات عميق.
بدخول أوربا إلى العصور الحديثة دشنت عقلانية جديدة وضع أسسها ديكارت على مستوى التفكير الفلسفي، وفرانسيس بيكون على مستوى التفكير العلمي، ومفكرو الأنوار على مستوى التفكير السياسي والاجتماعي. عصر الحداثة سيغير الإنسان الأوربي من كائن ديني (إنسان القرون الوسطى)، إلى كائن عقلاني (الإنسان الحديث). والحداثة هي هذه الرغبة العنيفة التي لا تعرف حدودا، إنها الرغبة في كشف السر الذي كان معقلا للإيمان: صراع الحداثة مع العصور الوسطى هو صراع العقل ضد الإيمان. لكن المعرفة التي كانت مستهدفة من قبل الحداثة لم تكن معرفة نظرية –كما كانت عند اليونان مثلا- بل كانت معرفة عملية هدفها السيطرة على الطبيعة، وتنصيب الإنسان سيدا بعد أن كان عبدا في العصور الوسطى؛ وهكذا تم التزاوج لأول مرة في تاريخ الفكر البشري بين المعرفة والسلطة. هذا الارتباط بين المعرفة والسلطة سيؤدي حتما إلى نتائج عملية، ستؤطر السلوك والوعي عند الإنسان الغربي، وذلك ابتداء من القرن السابع عشر. في هذا القرن سيظهر أعلام العقلانية الأوروبية، وعلى رأسهم ديكارت وبيكون.
ديكارت سيحدد معالم هذه العقلانية، ويضع لها منهجا عبارة عن خطوات يضمنها كتابه مقال في المنهج. في بداية الكتاب يعلن ديكارت أن “العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس”. وإذا كان الأمر كذلك فإن العقل سيصبح هو المعيار الوحيد للحقيقة. لذا أتت القاعدة الأولى على الصيغة التالية: “لا أقبل من أحكامي إلا ما ظهر لي في وضوح وتميز أنه لا يمكن الشك فيه”. ماذا يمكن أن نقرأ في هذه القاعدة؟
“لا أقبل…”! ديكارت هو أول من علم الأوربي أن يقول: لا. فيما قبل –أي في العصور الوسطى- كان الأوربي يقول: نعم، أي الخضوع للسلطة (سلطة الإقطاع/سلطة الكنيسة/سلطة القيم..). أتى ديكارت فقال: لا! وما المنهج الذي اصطنعه –الشك المنهجي- إلا رفضا للإرث الإقطاعي –الكنسي- المسيحية.
في نفس الفترة تقريبا ظهر في إنجلترا فرانسيس بيكون F.Bacon ليقول نفس الشيء، ولكن في مجال آخر هو مجال العلوم الطبيعية. لقد دعا بيكون إلى رفض الأوهام التي تمنع العقل من الوصول إلى الحقيقة، أي اكتشاف القوانين الفيزيائية التي تخضع لها الطبيعة والإنصات للطبيعة والخضوع لها من أجل فهمها، قصد السيطرة عليها فيما بعد حين نكتشف القوانين التي تخضع لها هي بدورها.
باختصار دخلت أوربا إلى العصور الحديثة مسلحة بالعقل وبالعلم. فما هي النتائج التي انتهت إليها؟
كانت العصور الحديثة تحمل بشرى تحرير الإنسان من الأوهام الوسطوية، ونصبته سيدا على الطبيعة، ورفعت شعارات: الحرية والمساواة والإخاء والعدالة…الخ. وهيمنت العقلانية على جميع الأصعدة، في العلم كما في السياسة والاقتصاد والاجتماع. وتم تحرير الإنسان من سلطة الإقطاع وسلطة الكنيسة. وتحققت الثورات السياسية، وأقيمت الأنظمة الديموقراطية. انتشرت مبادئ العلمانية، وطبقت نتائج العلم على الطبيعة فظهرت التقنية. فتحولت المادة الخام إلى بضاعة، وغزت السوق. ودارت الدورات الاقتصادية بقوة، وتراكم الرأسمال ففاضت القيمة. لم تتمكن الأسواق الداخلية من استيعاب هذه الدورات الهائلة والمتسارعة للرأسمال الأوروبي، فبدأ التفكير في البحث عن أسواق خارجية. وكانت الكشوفات الجغرافية وكذا اختراع البارود والمطبعة، قد ساهمت وسهلت هذا الاندفاع إلى الخارج بحثا عن أسباب الرواج الاقتصادي. برزت الظاهرة الاستعمارية واستعبدت شعوب أخرى من طرف الشعوب “المتحضرة” الحاملة لقيم العقلانية ومبادئ العلمانية، بل حصل النزاع الدموي والصراع العسكري بين شعوب “العقل” حول الاستحواذ والاستيلاء والنهب والاغتصاب والاحتلال. فكان الغالب والمغلوب، وكان القاهر والمقهور، ونتج عن ذلك ردود أفعال عن أزمات حادة خلفتها التطاحنات على أرض العلمانية، فبرزت الفاشية والنازية فوق أرض الحضارة، وتهاوت “قلعة العقلانية”.
لم تنس أوروبا بعد الحربين جراحها الداخلية الناتجة عن صراع أنظمتها من أجل فرض الهيمنة الوحيدة، كما لم تنس أيضا جراحها الخارجية، الناتجة عن سيل الاستقلالات الجارفة التي فرضتها حركات التحرر الوطني في المستعمرات. لهذا راحت الأنظمة تتحصن بترسانة عسكرية، وأنشأت القواعد في كل مكان، وزرعت المفاعلات النووية على طول الخارطة الأوروبية وعرضها، تحسبا للحرب في كل لحظة، وأهبة للدفاع أو الهجوم. ومع بروز المعسكر الشرقي كخصم عنيد وقوة منافسة، أصبح النظام الرأسمالي مهددا.
أمام هذا المآل الذي وصل إليه المجتمع الغربي، برز مفكرون جدد يشككون في قيم العقلانية، ويضعونها موضع تساؤل. رأى هؤلاء المفكرون أن المآسي التي وصل إليها المجتمع الحديث نتجت عن التزاوج الذي حصل بين العقلانية والعلمانية، أي حين تم تشييد العلم على مبادئ العقل الحديث، وحين طلب من العلم أن يقدم نتائج كشوفاته هدية للتقنية والتصنيع. لقد استغل النظام الرأسمالي لمدة ثلاثة قرون نتائج العلم من أجل خدمة حركة التصنيع وإنتاج البضاعة، وأصبح الهدف الوحيد هو تسريع دورات الإنتاج، وكانت الطبقة العاملة هي كبش الفداء. لقد انعكست النتائج ضدا على المقدمات، فبدل أن يتحرر الإنسان ويصبح سيدا ظهر سيد جديد ليستعبد الإنسان، وهذا السيد الجديد هو الرأسمال. إن الرأسمالي ليس إنسانا بل هو رأسمال مشخص. هكذا قال صاحب كتاب الرأسمال.
لم تفلح الأزمات في القضاء على النظام الرأسمالي، وكلما نزل مؤشر الرسوم البيانية إلى الحضيض منذرا بنهاية الرأسمالية وقربها من نقطة اللاعودة، بدت بوادر الانتعاش لائـحة في الأفق. كلما تعمقت الأزمة، وحصل التضخم، وتصاعدت أرقام البطالة، إلا وظهرت إصلاحات أو مشاريع للنهوض بالاقتصاد، وتقلصت أرقام البطالة، وصعد التراكم والربح من جديد. وهذه الحالة التي تميز الاقتصاد الرأسمالي، سبق أن وصفها لينين بكونها مجرد مسمار ينضاف إلى “نعش الرأسمالية”.
وبفضل السقوط والنهوض، والمراوحة والثبات، ظل اقتصاد التقنية والربح دينصورا يفرض هيبته على الجميع. حيث أصبح الإنسان بضاعة تسري عليه قوانين الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وفقد إنسانيته لينضاف كسلعة جديدة إلى سوق البيع والشراء؛ ويتحول بذلك إلى وظيفة وإلى رقم يعرف به في سوق السلع. وبحكم تراتبية السلطة أصبح خاضعا للمراقبة، منفذا للقرارات، زرا يضغط عليه لكي يرن.
إن هذا الوضع الحديث للاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة عموما، خلق تمزقا مأساويا لدى الإنسان. حيث أصبح مفروضا عليه أن يتهافت وراء المتع (جمع متعة) التي تعرضها التقنية في كل مكان، وتمارس عليه عمليات إغراء شعورية أو لا شعورية. كل شيء يقدم على أنه متعة أولا، قبل أن يكون ضرورة: السيارة متعة، علبة السجائر متعة، القميص المعروض على الواجهة متعة، الأزهار المصففة بعناية متعة، صورة المرأة متعة.. هناك فائض في المتع! وبالمقابل هناك ندرة في الزمان، خصوصا إذا حذفنا زمان العمل، وزمان الاسترخاء، وزمان تناول الوجبات. إن الإنسان الحديث الذي وجد نفسه –بغير إرادته- أمام فائض في المتعة وندرة في الزمان، اضطر إلى تقسيم الزمان الضئيل المتبقي لديه إلى وحدات بسيطة تعد بالدقائق والثواني لكي يستغله إلى أقصى الحدود لجلب هذه المتع. لقد وجد الإنسان الحديث نفسه معرضا للإغراء من طرف المتع كقيم خلقها اقتصاد التقنية، فلم يفلح في التوفيق بين إشباعها من جهة وبين الزمان الضروري لذلك الإشباع، ما دام هو نفسه مجرد سلعة من سلع السوق.
إن الوعي بالزمان عند الإنسان الحديث ناتج عن إغراقه بالمتع مع فقدانه لوسيلة اقتنائها، أعني الوقت الكافي لإشباع كل متعة على حدة. وأمام التعدد اللامتناهي لأنواع هذه المتع –والتي لا يتورع اقتصاد التقنية في تغيير ملامحها وأشكالها مع ابتكار أنواع جديدة- أصبح الإنسان الحديث يتهافت وراء الزيادة في العمل والاشتغال إلى أقصى حد ولو خارج عمله الرسمي من أجل ملاحقة السيل الجارف للمتع. وربما يكون هذا هو السبب في تباطؤ الزمان عندنا نحن الذين نعيش خارج الحداثة أو على هامشها، أعني أننا نعاني من فائض في الزمان مع ندرة في اقتناء المتع.
إن ضياع الإنسان وفقدانه لإنسانيته وتحويله إلى بضاعة، حيث ينظر إليه كآلة منتجة أو مستهلكة من طرف اقتصاد الربح هو ما دفع لوكاتش إلى الحكم على الإنسان الحديث بأنه تحول إلى شيء، أي أن العلاقات الرأسمالية أسقطته في حالة التشيؤ Réification(). وحين أصبح الإنسان شيئا سقط من مستوى الكائن الاجتماعي إلى مستوى الكائن المتوحد، المنفرد()، إذ تجمدت العلاقات الاجتماعية وغاب الوجود البشري.
أمام غياب الشرط الإنساني من العلاقات الحديثة، استشعر مفكرو ما بعد الحداثة La post-modernité ضرورة البحث عن الإنسان، ومحاولة استرجاع شرطه المفقود. وهذه الخطوة يلزم القيام بها خارج القيم السائدة –أعني خارج قيم الإنتاج والاستهلاك- وذلك من أجل الصراع ضد سلطة هذه القيم التي أضمرت إنسانية الإنسان. إمكانية استعادة الإنسان المفقود تنبني على محاربة اقتصاد الربح Economie de profit، وإقامة اقتصاد الخسارة Economie de perte؛ واستنفاذ الطاقة Consumation بدل استهلاك البضاعة Consommation. هذه هي دعوة جورج باطاي G.Bataille في ممارسة “التجربة الباطنية”. إن محاربة الربح بالخسارة، والاستهلاك بالاستنفاذ، هي الطريق التي ستفضي بنا إلى اكتشاف الإنسان في “تجربته الباطنية”. أعني استنفاذ المخزون الغريزي عند الإنسان، وتصريف كل الطاقات المشحونة في الجسد، وذلك بممارسة الشبقية Erotisme والسكر Ivresse والشعر والموسيقى والفن عموما.. إن التجربة الباطنية هي التي ستكشف عن جوهر الإنسان الذي توارى خلف ترسبات التشيؤ، وهذه التجربة هي التي ستكشف أيضا عن الوجود وممكنات الإنسان التي أحبطها اقتصاد الربح والاستهلاك. لذا فاستعادة الإنسان لهويته تتم بـ”السفر إلى أقصى ممكناته” «Voyage au bout des possibles de l’homme». وعند هذه الأبعاد القصوى للتجربة الداخلية ينكشف الوجود، لأن الوجود ليس في مكان ما بل ينكشف بالتجربة. إلا أن هذه التجربة ليست تجربة صوفية ولا تلتقي بها في أية نقطة بل تعارضها تماما، إذا نظرنا إلى منطق اشتغالها. فالتجربة الصوفية تقوم على اقتصاد الطاقة والحفاظ على توتر الغريزة في عمق الذات، في حين تقوم التجربة الشبقية على تصريف الطاقة واستنفاذها بطرق شتى: بالشعر، بالموسيقى، بالفن.. باختصار إن التجربة الباطنية هي دعوة إلى اعتناق تعاليم ديونزوس: ديونيزوس هو القادر على تحرير الطاقات التي أحبطها اقتصاد الربح، ونشر تعاليمه هي التي ستقف ضد العقلانية والعلمانية اللتان حولتا الإنسان إلى “ماهية ميتافيزيقية” منقطعة الصلة بالوجود.
ثالثا: جذور الحداثة.
هذا الانشقاق الذي فجر الإنسان إلى ماهية أو جوهر روحي من جهة وإلى جسد محتقر من جهة ثانية، يعود إلى المشروع العقلاني والعلماني الذي تأسست عليه عصور الحداثة. إن فلسفات الذات هي التي أحدثت هذا الشرخ العنيف في الإنسان، وذلك حين تشكل الوعي الحديث طبقا لمقتضيات الأنساق التي “تقول” الحقيقة وتحتويها. فالإنسان أصبح جوهرا ميتافيزيقيا أي “كوجيطو” يتقوقع داخل نسق مغلق على نفسه ولا تربطه أية علاقة بالعالم أو بالآخر. وقد يكون هذا الوعي الماهوي هو الذي خلق شعورا بالانكفاء على الذات وإيثار العزلة، التي يعاني منها إنسان الحداثة. إنها “كارثة ميتافيزيقية” تتمثل في الفصل الحاد بين الأنا والآخر، بين الذات والعالم، بين النفس والبدن، بين عالم المقدس وعالم الطبيعة. وقد أتت العلمانية لتعمق هذه الكارثة الميتافيزيقية، عندما اعتبرت هذا الفصل بين الذات والموضوع ضرورة منهجية للوصول إلى الحقيقة. إن الموضوعية هي معيار إنتاج الحقيقة في مجال العلوم الطبيعية، كما أراد لها الرواد الأوائل لهذه العلوم. وهذه الموضوعية لا تتحقق إلا إذا تم الفصل بين الذات الدراسة وموضوع الدراسة، أي عندما تستقل الطبيعة نهائيا عن الأنا. لقد تواطأت العقلانية مع العلمانية لإنتاج كائن مبتور عن العالم، وكان الإنسان هو هذه الضحية.
إن إعادة النظر في المسلمات الكبرى التي قامت عليها العلمانية، وتأسس عليها العقل الحديث؛ هي التي ستظهر هذا المسار الذي اتخذته العلوم. كما أنها ستبين توافق النتائج التقنية مع المقدمات التي انبنى عليها العقل العلمي الحديث. تفكيك العقل الغربي الحديث وبيان أغراضه ومقاصده العامة منذ تأسيسه ابتداء من القرن السابع عشر، هي المهمة التي انفرد لها كل من هوركهايمر وأدورنو في كتاب مشترك لهما يقع تحت عنوان جدل العقل().
ينقل هوركهايمر وأدورنو عن فرانسيس بيكون –أب العلم الحديث- قوله الذي يلخص المشروع الجديد: “إن تفوق الإنسان يكمن في المعرفة، هذا ما لا يقبل الشك”. وهذه المعرفة لا تتجلى قيمتها في الحقيقة التي تصل إليها، ولا في الحجج الدامغة التي تنبني عليها “بل في الممارسة والعمل، وفي الكشف عن التفاصيل المجهولة سابقا، والتي تسمح بالتحكم في الوجود”(). إذن، فهدف المعرفة الجديدة ليس نظريا بل هو عملي، أي السيطرة على الوجود وإخضاعه: “المعرفة والسلطة مترادفتان”.
تحرير العالم من السحر والأسطورة: هذا هو مشروع عصر الأنوار. ومن ثم كان الرفض العنيف من طرف العلم الحديث لكل شيء لا يقبل التحديد: “كل ما لا يقبل القسمة على عدد ما –وفي الأخير على الواحد- فهو بالنسبة للعقل ليس إلا وهما”(). الكشف عن التفاصيل المجهولة، نبذ السر، استبعاد الأسطورة؛ وبالمقابل التكميم والقياس: هذا هو المسار الذي دشنه العقل العلمي الجديد بالنسبة لتاريخ الفكر البشري. ولكن تحليل هوركهايمر وأدرونو يذهب إلى أبعد من تقرير هذه الوقائع، إذ يكشف عن كون العقل العلمي الذي قضى على الأسطورة انتهى إلى إنتاجها من جديد. “إن الأساطير التي كانت ضحايا التنوير، هي نتاج لهذا الأخير أيضا”. ذلك أن الأسطورة إذا كانت تتحدث عن أصل العالم بواسطة الحكي، فإنها تفسر وتثبت وتتمثل هذا العالم. وإذا كان الإله هو الذي خلق العالم، فإن الإنسان هو الذي خلفه لتحمل المسؤولية الكبرى تجاه هذا العالم، وذلك بهداية من عقله الموهوب! إن دور الإنسان في هذا العالم يشبه دور الإله، ما دام الإنسان يريد السيطرة والتحكم في العالم. هكذا يخلص هوركهايمر وأدورنو إلى التأكيد على أن “الأسطورة أصبحت في العقل”، هذا العقل الذي أصبح “ديكتاتوريا تجاه الأشياء”. فرجل العلم لا يعترف بالأشياء إلا عندما تصبح قابلة للقياس، ومن ثم قابلة للمعرفة الدقيقة التي تسهل التحكم في هذه الأشياء وتحويلها لخدمة الإنسان/السيد. والتقنية هي الوسيط الذي أنجز هذه المهمة، أعني تحويل الشيء إلى بضاعة قابلة لأن تصبح قيمة تبادلية في سوق السلع.
إن تفكيك العقل العلمي يظهر أن النتائج المرعبة والمروعة التي انتهت إليها العلوم، كانت متضمنة في الأسس التي قامت عليها هذه العلوم. فالمعرفة العلمية لم تعد نظرية، ولم يعد هدفها هو تفسير الوجود الطبيعي أو البشري، بل هدفها هو السيطرة على الأشياء. بينما كان هدف التفكير الأسطوري هو الكشف عن تناغم الأشياء، ومحاولة إيجاد نقطة تواصل بين مصير الإنسان ومصير الكون.
وكرد فعل تجاه الحداثة قام الفيلسوف الألماني هيدجر Heidegger بتفكيك عام للميتافيزيقا الغربية، متمما بذلك مشروع نيتشه في أحد أبعاده. لأن تاريخ الميتافيزيقا الغربية هو تاريخ العقل الغربي نفسه، يعود هيدجر إلى الجذور السحيقة والموغلة في القدم؛ بحثا عن الأساس الذي انبنى عليه هذا العقل. فالكشف عن هذا الأساس هو وحده السبيل الذي سيمكننا من زحزحته. من هذا المنطلق يرى هيدجر أن العقل الغربي تأسس على الصيغة المنطقية-الصورية منذ زمان أرسطو، بل قبله بقليل مع أفلاطون وسقراط. كما أن التمييز بين موضوع المعرفة والذات العارفة، تحدد أونطولوجيا آنذاك. في حين أن الفترة السابقة على سقراط كانت تتأسس على قاعدة مغايرة، وتتحرك ضمن مجال مخالف. كان الحكماء الطبيعيون الأوائل يحاولون تفسير الفيزيس (الطبيعة)، التي لم تكن تعني لديهم ما نفهمه منها نحن اليوم. الفيزيس Physis عند هؤلاء كانت تعني “الكل” الذي يجمع بين الآلة والبشر والكائنات الحية والجامدة… السماء والأرض وما بينهما، وكذا الفكر والروح والأخلاق… كل هذا كان يسمى عندهم: الفيزيس. وحينما نبحث عن الجذور الميتافيزيقية للعقل في تلك الفترة البعيدة، نجد أن دلالته تحيل على شيء آخر ليس هو ما نعرفه اليوم من مصطلح”عقل”.
إن مصطلح العقل يقابله “اللوغوس” Logos في اللغة اليونانية، وهو يتكون من جذر لغوي هو فعل “ليغين” Legein. هذا الفعل كان يعني في زمان أفلاطون وأرسطو: يتكلم أو يخاطب، ومنه تم اشتقاق المصدر: كلام وخطاب. فاللوغوس إذن هو الكلام أو الخطاب الذي يوجه تفكير الإنسان توجيها سويا، من أجل الكشف عن الحقيقة. وقد اجتهد أرسطو كثيرا لصياغة القوانين العامة التي تجعل من الكلام أو الخطاب “آلة تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ”. إن الأورغانون Organon الأرسطي يعني تحويل الخطاب إلى منطق، أي تحويل Logos إلى Logique. بينما كان فعل “ليغين” عند الحكماء السابقين على سقراط يعني: يجمع أو يضم، ومنه تم اشتقاق المصدر: الجمع. لقد كان اللوغوس يعني لدى هؤلاء “الجمع” وليس الخطاب أو المنطق. وهذا الأمر يعود إلى سبب رئيسي هو أن الفيزيس كان معناها: الكل أو الكلية Totalité، التي تجمع الكائنات بغض النظر عن طبيعتها وأنواعها().
لقد تشكل العقل الغربي عندما تأسس على المنطق. ولكن “في أية لحظة بدأ يتكون المنطق؟ في تلك الفترة التي بدأت الفلسفة اليونانية تقترب من نهايتها عندما أصبحت مسألة مدرسية، أي مسألة تنظيم وتقنين”(). لم يظهر المنطق عند اليونان إلا عندما حدث الانشقاق بين الوجود والفكر، هذا الانشقاق الذي دشنه أفلاطون وأكمله أرسطو. هنا تقعد المنطق، وتأسس الفكر على القياس، وظهر العقل الغربي، منذ بداية هذا التقعيد النظري للفكر، لن يسمح للحقيقة باستيطان أي مكان آخر غيره. لقد انتقلت الحقيقة من الوجود إلى القول، من الفيزيس إلى المنطق؛ وأصبحت القضية المنطقية هي مأوى الحقيقة، ومجالها هو الفكر: الفكر هو مصدر الحقيقة. هكذا ظهرت الفلسفات المثالية، حيث تم سجن الحقيقة داخل أنساق محكمة لا يجوز أن تتجول خارج أسوارها. بل أكثر من هذا أصبح الإنسان ماهية فكرية، وذاتا ميتافيزيقية هي هذا الجوهر المفكر: إنه الكوجيطو (أنا أفكر).
ديكارت Descartes زعيم المذهب العقلاني في الفلسفة الحديثة، هو الذي أسس الكوجيطو، واعتبره بمثابة أرضية صلبة يقوم عليها اليقين. فاليقين الأول هو الأنا-أفكر: Le moi-pensant، وعليه تتأسس كل أنواع اليقين الأخرى. الإنسان انفجر إلى نفس وبدن، حيث سجنت النفس داخل النسق بينما ألقي بالبدن خارج اليقين أي خارج النسق.
توالت فلسفات الذات بعد ديكارت لكي تعدل من قسوة النسق، وتحاول ردم الهوة بين الذات والموضوع، بين النفس والبدن، بين الفكر والوجود… ولكن بدون جدوى! لهذا يرى هيدجر أن هناك سبيلا وحيدا للخروج من فلسفة تفكيك الأنساق المثالية التي سجنت الإنسان داخلها.
رابعا: في أفق تجاوز الحداثة
إخراج الإنسان من النسق الذي حوله إلى ماهية ميتافيزيقية، يمكن أن يتحقق خارج لغة المنطق ولغة العقل. وذلك بالعودة إلى الفن ولغة الشعر، هنا يمكن أن يتجلى البعد الوجودي للإنسان. إن الحكماء السابقين على سقراط لم يكونوا يتكلمون بلغة “المنطق الصوري” للتعبير عن الإنسان وعن الوجود، بل كانوا يعبرون بواسطة القصائد الشعرية وبلغة الرمز. لكن عندما جاء أرسطو صنف الشعر في أدنى مراتب القول، لأن الشعر لا يتحرك في مجال الحقيقة وإنما يتحرك في مجال المجاز. ركبت الفلسفة بعد أرسطو لغة المنطق، وحولت الإنسان إلى قضية منطقية تتكون من موضوع ومحمول. لذا، فتحرير الإنسان لا يمكن أن يتحقق إلا إذا غيرنا الطريق الذي أوصله إلى العبودية، أي أن نستبدل القول المنطقي بالقول الفني: هنا يطل علينا ديونيزوس (إله الفنون الجميلة).
لم يعمل جاك ديريدا J.Derrida فيما بعد سوى تطوير مشروع هيدجر، كما أن ميشيل فوكو M.Foucault لم يعمل بدوره إلا على تطوير مشروع جورج باطاي، كما يرى ذلك هابرماس J.Habermas. أما فوكو فقد أراد أن ينشئ نظرية عن السلطة le pouvoir، وحاول أن يبين تمفصلات السلطة في علاقتها بالجنون la folie. لأن الجنون هو خطاب اللاعقل، إنه الخصم العنيد للنظام الذي ينبني عليه العقل. أراد فوكو أن يعيد للجنون حق التعبير وحق الكلام، ضدا على الخطاب العقلي الذي يصنف الجنون في إطار ما هو مرضي Pathologique. إعادة الاعتبار للجنون في علاقته بالإنتاج، تبين إلى أي مدى عمل النظام الرأسمالي على خلق قيم السواء والشذوذ للنظر إلى الجنون. إذ بعد نزع صفة القداسة عن الجنون (لم يعد ديونيزوس المجنون إلها)، أدخل النظام الرأسمالي المجنون إلى الملاجئ والمعازل والمستشفيات ليكون موضوعا للطب العقلي La psychiatrie. إن المجنون، كمريض قدمته الشرطة (بعد إلقاء القبض عليه) إلى الطبيب، أصبح موضوعا لعلم جديد. لذا فالعلم الجديد لم يكتشف موضوعه طبقا لشروط إبستمولوجية معينة، بل قدمته له السلطة كقضية/كملف/مرقم/كمرفوض… لقد أظهر فوكو أن السلطة تعاقب من يخرج عن طاعتها وتهمشه باعتباره شاذا، باعتباره آخر، أي أن كل من يخرج عن منطق “العقل الاجتماعي” القائم على قيم الإنتاج، سوف يلقى به في دائرة الشذوذ.
جاك ديريدا سار في الطريق الميتافيزيقي الذي دشنه هيدجر، أعني تفكيك العقل الغربي اعتمادا على تمظهراته السامية (المجردة). لهذا كانت المهمة التي وجد ديريدا نفسه ملزما بإنجازها هي تكسير الأنساق الميتافيزيقية التي شيدها العقل المحض، وإلغاء الحواجز بين الأنواع التي تميز الخطاب. إذ ليس هناك فارق نوعي بين الخطاب الفلسفي والخطاب الأدبي مثلا، بل نحن أمام نص عام Texte général. والنص له قانون يخضع له هو قانون الكتابة، بغض النظر عن كاتبه. لذا فأهم شيء يجب أن ننتبه إليه ليس هو القائل (الذات)، بل هو المقول (المكتوب/المنطوق) لاستخلاص قواعده العامة. إن قواعد الكتابة La grammatologie هي التي يلزم أن تخلق قواعد اللغة La grammaire، وذلك من أجل القضاء على سلطة الذات وتفكيك النسق. وبدراستنا للأثر La trace، سنتجنب الوقوع في الأخطاء الميتافيزيقية التي يستتبعها إعطاء الأولوية للذات المفكرة أو الأنا على النص المكتوب. والاختلاف Différance() (وليس différence)، هو هذا الأثر الذي يقوم مقام الذات، والذي تخلقه الكتابة. كما أن الممارسة أيضا نوع من الكتابة التي تترك أثرا، فالثورة الروسية هي أثر، والثورة الفرنسية هي أثر، وهذا القلم الذي أكتب به هو أثر.. ليس في العالم سوى الآثار.
إن هم القضاء على الذات (العاقلة أو القائلة)، هو الذي دفع كلا من فوكو وديريدا إلى اعتناق البنيوية بنوع من الخجل. وسواء كانت الذات عاقلة تمارس الرقابة على الجنون، أو كانت قائلة تمارس السلطة على الأثر، فإنها في كلتا الحالتين ذات فاعلة تلوث المعنى وتخفيه. لهذا كان إعلان “موت الإنسان” ضروريا من أجل الخروج من فلسفة الذات، وتحرير المعنى: ليس هاهنا فاعل، ولا ذات تفعل نسقا أو تقول حقيقة.
الطريق الميتافيزيقي الذي سار فيه ديريدا مقتفيا “آثار” هيدجر، وطريق الجنون الذي سار فيه فوكو مقتفيا آثار باطاي، لهما جذر واحد ينحدران منه هو نيتشه: كل الطرق البديلة تؤدي إلى نيتشه! ذلك أننا إذا تتبعنا طريق الجنون واكتشاف الأبعاد الأنطولوجية للإنسان بواسطة التجربة الباطنية، فإننا سنصل إلى “زرادشت” و”مجنون الساحة العمومية”، والموسيقى، والشعر، والفن. بمعنى أننا إذا تتبعنا نظرية السلطة عند فوكو، فإننا سنصل إلى “إرادة القوة” عند نيتشه، مارين على مفهوم “السيادة” La souveraineté عند باطاي. أما إذا سرنا على الطريق الميتافيزقي مبتدئين بتحطيم الفروقات النوعية بين الأجناس الأدبية عند ديريدا، مارين عبر الصراع الهيدجري ضد كبار الفلاسفة (أصحاب الأنساق)، فإننا سنصل إلى محاربة نيتشه لسقراط وأفلاطون وأرسطو… وتابعيهم. هذا يعني أن خطاب ما بعد الحداثة هو خطاب يتخذ لنفسه طريقا واحدا رغم تعدد الاجتهادات، هو الطريق الأنطو-ميتافيزيقي الذي يجد في نيتشه مصدره الأساسي.
خامسا: في أفق تجاوز التجاوز
هابرماس J.Habermas هو الذي يخرج عن هذا الإجماع، إذ يحاول تأسيس طريق آخر كبديل لأزمة الحداثة، وكحل ممكن للخروج من فلسفة الذات. وهذا الطريق الذي يريد أن يدشنه ناتج عن المأزق الذي آلت إليه الطرق البديلة ذوات الجذر النيتشوي. لأن المآل الذي وصلت إليه هذه الطرق –حسب هابرماس- هو مآل أسوأ من الأزمة التي انتهت إليها الحداثة. ذلك أن رد الفعل العنيف تجاه العقلانية الحديثة التي تزاوجت مع العلمانية، أدى بأصحابه إلى السقوط في الاتجاه المضاد، أي في الطرف الأقصى للحداثة وهو اللاعقل. كما أن محاربة النسق أدى إلى تدمير الذات المسجونة فيه، مما جعل الإنسان يغيب من مشاريع ما بعد الحداثة. لم ينتبه هؤلاء إلى أن سحقهم للأنساق، جرف معه انسحاق الإنسان أيضا: إنهم ألقوا بالطفل والماء معا!
لهذا يرى هابرماس أن البديل الممكن للعقل الحديث ليس هو اللاعقل، بل هو “العقل التواصلي: La raison communicationnelle” أي يلزم البحث عن بديل لنوعية العقل، وليس إلغاء العقل كليا. فالعقل الخالص الذي حول الإنسان إلى ذرة روحية أو ماهية ميتافيزيقية، يمكن أن نقارنه بعقل آخر قادر على الربط بين هذه الذرات المنعزلة، وهذه الماهيات الراقدة وراء الوجود. إذن فالقضية ليست هي: كيف نسحق النسق؟ بل هي: كيف نحرر الذات من سجن النسق؟
إن فشل خطاب ما بعد الحداثة ليس دليلا على فشل الخطاب الفلسفي، بل هو دليل على فشل فلسفة الذات. هذا الفشل الذي لاحق العلوم الإنسانية بدورها، لأنها أرادت أن تنتج معرفة “علمية” عن الذات. وهوس معرفة الذات هو الذي أدى إلى فشل الخطاب المعرفي، وأدى أيضا إلى معرفة الذات. لقد انتهت فلسفات الذات إلى سجن الإنسان داخل نسق ميتافيزقي وعزله عن العالم، وسلبت منه الوجود. أما العلوم الإنسانية فقد انتهت إلى استعباد الإنسان –بعد أن كان الهدف هو تحريره- عندما وفرت نتائجها إمكانية إحكام القبضة على الإنسان، وبذلك سهلت عمل السلطة لتتحكم في الرقاب.
العقل التواصلي –كحل آخر للخروج من فلسفة الذات- لا يهدف إلى إنتاج معرفة علمية عن الموضوع أو عن الذات، بل هدفه هو إقامة أرضية صالحة للتفاهم بين الذوات وإخراجها من عزلتها. هدف العقل التواصلي هو إقامة الجسور القادرة على الربط بين الأنا والآخر، والبحث عن الوسائل الممكنة لتحقيق هذه المهمة(). وذلك بإنشاء وتقوية فضاء المتخيل عند الإنسان، هذا المتخيل الذي تتأسس عليه العلاقات الاجتماعية أو هو الذي يجعل العلاقات الاجتماعية ممكنة بين فرد وآخر. ولهذا يعود هابرماس إلى مرجعية أخرى في الثقافة الغربية تجد في هيجل Heggel منبعها الرئيسي، لأن هيجل هو الذي حاول إقامة التواصل بين الأنا والآخر بواسطة الجدل. فالذات القابعة في عمق النسق يمكن أن تتحول –بفضل المنهج الجدلي- إلى نقيضها أي إلى الموضوع، وبذلك تتمكن من تحقيق حريتها. إلا أن هيجل عندما أوقف حركية الجدل، انغلق النسق من جديد؛ وهذا ما انتبه إليه ماركس Marx فيما بعد حينما اعتبر الجدل الهيجلي مقلوبا يسير على رأسه بدل رجليه. إذ يرى ماركس أن الأفراد قادرون على التحول إلى كائنات تواصلية بواسطة العمل، ومن ثم يتحول الإنسان من ماهية إلى ممارسة، ويتحول العقل إلى تاريخ. هكذا نفهم لماذا كانت المادية تجد لنفسها مأوى في الجدل، لأن الجدل هو القادر على تحرير الذات من النسق بتحويلها إلى نقيضها. وهذا ما يفسر لنا أيضا لماذا يقف أصحاب الخطاب البديل للحداثة عند نيتشه ولا يعودون إلى هيجل، رغم أننا نعثر عنده على نظرية السلطة والسيادة في “جدل العبد والسيد”. كما أننا نفهم أيضا لماذا لا يعودون إلى كانط بصدد نقدهم للعقل، لأن كانط هو أول من انتقد العقل الخالص. لقد حاول كانط أن يضع حدودا للعقل لا ينبغي له أن يتجاوزها، وكان ذلك يعني وضع حدود لفلسفة الأنوار التي اندفعت بشكل متهور إلى استخدام العقل في جميع المجالات بدون تمييز بين الإيمان والعلم. لم يعد هؤلاء إلى كانط، لأن هذا الأخير قدم نقدا للعقل بواسطة مفاهيم عقلية أي أنه كان واقفا على أرضية العقل وليس على أرضية اللاعقل.
أمام دعاوي موت الإنسان، وانتهاء الفلسفة، وتفكيك العقل، والانتصار للاعقل، يلاحظ هابرماس، بنوع من الهدود أنه “في العشر سنوات الأخيرة، أصبح النقد الراديكالي للعقل موضة”(). هذه الموضة نفسها طالت حتى هوامش الحداثة، وخاصة في الآداب؛ حيث ساد التأثر بكتابات ديريدا المستندة على البنيوية واللسانيات. وبذلك دخلنا في علاقة وحيدة الجانب مع الحداثة، نستقبل ما هو جديد وفاتن ومغرٍ!