قضايا فكرية و فلسفية

مسألة التأريخ للفلسفة اليونانية بين المحلي والكوني عبد الرحمن بدوي نموذجا

تمهيد :

لازال الفكر اليوناني يشكل اهتماما خاصا لدى المفكرين بمختلف المجالات المعرفية، على الرغم من الحشد من النظريات الفلسفية والسياسية التي أنتجتها الفلسفة الحديثة، ورغم تغير البنيات على صعيد الإنتاج المادي وأدوات هذا الإنتاج فلا زالت الإنتاجات النظرية حاضرة بقوة في تاريخ الفكر، ولازالت “نصوص القرن الخامس قبل الميلاد، تسائلنا، ولا يمكن لأي فيلسوف في أيامنا أن يدعي بأنه يفكر أفضل من أفلاطون، (1) فالفكر، حسب نيتشه، لا يخضع لقوانين “الموضة” ولا يفقد مع مرور الزمن قيمته.

وإذا كان هذا الأمر يسري على كل فكر، فإن الفكر اليوناني اختص بنصيب أكبر من البقاء والفعل والتأثير. يقول نيتشه في حديثه عن عوامل تشكل الفكر الفلسفي اليوناني في مرحلة ما قبل سقراط : ” أنهم ابتكروا في الواقع الأنساق الكبرى للفكر الفلسفي، ولم يبق لمجمل الأجيال اللاحقة أن تبتكر شيئا جوهريا يمكن أن يضاف إليها … لقد كانوا جميعا، في وحدتهم المهيبة، الوحيدين الذين عاشوا حينذاك للمعرفة فقط، وهي تقوم على إيجاد شكلهم الخاص، وعلى مواصلة اكتماله، بفضل التحول، في أدق تفاصيله وفي أرحب اتساعه. إنهم لم يستعينوا بأي زي شائع كان يمكن أن يسهل مهمتهم. وبذلك هم يشكلون جميعا، ما أطلق عليه شوبنهاور- بالتعارض مع جمهورية العلماء- اسم جمهورية العباقرة” (2)
لم يقتصر الاهتمام بالإنتاجات الفكرية للإغريق على التيارات الغربية في اختلاف مناهجها وتباين مستويات نقدها، بل طال أيضا وبالخصوص الفكر العربي وبات حضور الإرث اليوناني في الفكر العربي مسألة لم ينكرها إلا التيارات المتشبثة بأصالة الفكر العربي و رفضها لكل تأثير براني.
لقد تناول الفكر العربي جل مناحي الميراث اليوناني، ترجمة ونقدا، واستعمله استعمالا يتناسب ومقاصده الذاتية. يقول حسين حرب، في حديثه عن أهمية الفلسفة السياسية بالنسبة لرهانات واقع العالم العربي : “أما إنجازات عقلهم السياسي فتستوقفنا- نحن العرب- أكثر من غيرنا. كيف لا ونحن لا نزال، في الربع الأخير من القرن العشرين، نطالب بالديمقراطية والمشاركة في صنع القرار السياسي وغير ذلك من الشعارات التي حققت واقعا سياسيا عند اليوناني –الإثيني- في تلك الحقبة من تاريخه. لقد أتيح لجميع الأثينيين الأحرار المشاركة الفعلية، بشكل أو بآخر في حكم مدينتهم(3)

ظهر الفكر اليوناني، إذن، كنموذج للحضارة العربية في تطورها عبر التاريخ، فلقد أعطى الفكر اليوناني لغة مفتوحة ُيمكن بواسطتها عقد حوار بين المفكرين، بدل اللغة المغلقة لغة العقائد التي لا تحتمل التغيير أو التبديل في معانيها، كما كانت لغة عقلية محضة، واضحة بذاتها، يمكن فهمها من مضمونها الخاص، في مقابل استعمال لغة عقائدية مسلم بها بدءا، واستعمال اللغة العقلية كان من شأنه استعمال العقل أيضا. فقد صاحب العقل اللغة، في حين أن اللغة العقائدية القديمة كانت تمنع من استعمال العقل. كانت لغة مثالية تفهمها الأجيال في عصر النهضة أو في العصور الحديثة، لغة تجعل الحقيقة في الفكر، وتجعل جوهر الإنسان النطق، في حين أن اللغة القديمة كانت أبعد ما تكون مثالية، بل كانت حسية شيئية تاريخية، ترفض حتى الإعتراف باستقلال الإنسان ووعيه. وأخيرا كانت لغة إنسانية، مرتبطة أشد الإرتباط بالإنسان في عقله وحريته وسلوكه.(4)

1. مراحل التشكل التاريخي للفلسفة اليونانية

من بين المشاريع التي راودها الإهتمام بالتراث اليوناني، (تأريخا ونقدا وترجمة…) كأحد مصادر الفكر العربي والغربي قديما وحديثا، نذكر مساهمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، والتي غطت كتاباته جل الميادين المعرفية والتي صنفت إلى مبتكرات، دراسات فلسفية تضم المنطق والشعر والترجمات، وخلاصات الفكر الأوربي التي تشمل دراسة أعلام الفلسفة الحديثة مثل نيتشه واشبنجلر وشوبهاور وشلنج، أو الفلسفة اليونانية مثل أفلاطون وأرسطو (باعتبارهما صيف الفكر اليوناني)، مع ربيع الفكر اليوناني ( البداية) وخريف الفكر اليوناني (النهاية) وفلسفة العصور الوسطى مع الدراسات الإسلامية وتشمل التحقيق والترجمات العربية القديمة لأرسطو وأفلاطون وأفلوطين لنقل التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية. فعبد الرحمن بدوي، إذا، ُيعتبر مؤرخا وناقدا لتراث الإنسانية في العصر اليوناني إلى العصر الحاضر.

ولعل ما قدمه د.بدوي، من كتابات إنما يؤسس ليس فقط للدراسات الفلسفية وإنما لخلق وعي عربي معاصر أو ما يسميه بإيحاء من نيتشه ب “ثورة روحية معاصرة” تواكب الثورة السياسية. ونحن اليوم نحيى في عالم يعيش تناقضات واختلال التوازنات السياسية وهيمنة واستبداد القوى العظمى وتحكمها في قوى ووسائل الإنتاج..، ما أحوجنا إلى “ثورة روحية” للوعي بمسؤولياتنا الراهنة والتأكيد على دور الفلسفة في تأسيس الوعي القومي والحضاري التي يمكنها خلق حياة جديدة تسعى إلى توفير الشروط اللازمة للرقي بالقيم الحضارية والوقوف ضد كل أشكال التسلط والإحتلال.
أهمية ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدوي تكمن في تأكيده الدائم على دور الفلسفة في ربط علاقة تأسيسية بالمواضيع من تفكيك وإعادة تركيب من أجل التحرر من نسق اليقينيات والانتهاء إلى خلق حياة جديدة ونظرة جديدة للكون والحياة والتاريخ. ولعل هذا المسعى قد غطى جل اهتماماته في الفكر الغربي القديم والمعاصر، والتراث العربي الإسلامي، وإبداعه الفلسفي تأليفا وتحقيقا وترجمة، مما شكل إحدى المصادر الهامة بالنسبة للباحثين في مختلف الميادين المعرفية.
تأتي اهتمامات عبد الرحمن بدوي، ضمن مشروعه في مختلف فروع الفلسفة وتاريخها القديم والحديث والمعاصر، ولعل الوقوف على إنتاجا ته في تعددها وتباينها، ُيبين أن هناك اهتمام خاص للتأريخ للفلسفة الغربية عموما، وللفلسفة اليونانية خصوصا، باعتبارها أصل التفكير الغربي خاصة والفكر الفلسفي العالمي بصفة عامة.
صنف د. بدوي الفلسفة اليونانية إلى ثلاث مراحل : مرحلة التعريف بأصول الفلسفة اليونانية والتعريف بمفاهيمها حيث يماثلها بفصول السنة، الربيع والصيف والخريف والشتاء وقد قدم تأريخا للفلسفة اليونانية وفقا لهذا التحقيب حيث يعود إلى ينابيع الفكر اليوناني معتبرا أن ربيع الفكر اليوناني يشكل مرحلة ما قبل أفلاطون ويشكل الصيف أفلاطون وأرسطو والخريف المدارس الأخلاقية بعد أرسطو، ويتضمن الشتاء نهاية الفلسفة اليونانية في الأفلاطونية المحدثة.
يتناول عبد الرحمن بدوي الفلسفة اليونانية ضمن طرحه لإشكاليات تتعلق بكيفية قراءة تاريخ الفلسفة وماهي الأسس التي تنبني عليها كتابة هذا التاريخ ثم ماهو المنهج والقوانين التي يجب على مؤرخ الفلسفة أن يسير عليها لبحثه في التاريخ ؟
يعالج د. بدوي هذه الإشكاليات المتعلقة بالتأريخ للفلسفة ويحصرها في ثلاث مشاكل رئيسة
الأولى تتعلق بمشكلة نشأة الفلسفة، بمعنى “ماهو التاريخ الذي نستطيع أن نقول عنده أن الفلسفة قد وجدت بالفعل، ومنه نستطيع بعدئذ أن نبدأ البحث في تاريخ الفلسفة”.
الثانية ترمي إلى استشكال حدود الفلسفة ومعرفة إلى أي حد يمكن أن نقول أن هناك تاريخا للفلسفة، ونعتبر أن هذا التاريخ مستقل عن بقية العلوم الروحية. أي ما هي الفلسفة أولا، وثانيا ماهي الصلة بين الفلسفة وبين بقية العلوم الأخرى وهل يمكن للفلسفة أن تفهم مستقلة عن بقية مرافق الحياة الروحية ؟
الثالثة تتساءل عن ما إذا كان هناك قانون خاص تسير عليه المذاهب الفلسفية في تطورها ؟ ما طبيعته وما تجلياته عبر التاريخ ؟ وهل المذاهب الفلسفية تنحل كلها إلى مذهب واحد، وكل المذاهب التالية ما هي إلا إعادة إنتاج للمذهب الأول ؟ (6)

1.1-المشكلة الأولى : أين يبدأ تاريخ الفلسفة

في محاولة للإجابة على التساؤل الأول المتعلق بنشأة الفلسفة، يعتبر د. بدوي، أن اكتشاف الإنسان لذاته وبزوغ الضمير الإنساني بدأ مع اليونان، مؤيدا بذلك التيارات التي تعتبر أن نقطة بداية الفلسفة هي القرن السادس قبل الميلاد على يد طاليس الملطي، معارضا بذلك كل المحاولات التي تسعى إلى اعتبار الفكر الشرقي مرجعا للفكر الفلسفي اليوناني. من بين الدلائل التي قدمها للدفاع عن أطروحته، تمييزه بين العلم لدى الشرقيين القدامى والعلم اليوناني، معتبرا أن العلم عند الشرقيين من بابليين ومصريين كان تجريبيا، بينما عند اليونان كان نظريا صرفا, فاليونان وضعوا المقدمات والشرقيين أخذوا بالنتائج : ” أجل إن الرياضيات كانت عند المصريين مماثلة في كثير من نتائجها للرياضيات عند اليونان والمصريين. فالرياضيات كانت عند المصريين والأشوريين، تجريبية صرفة، أي أنهم حينما كانوا يريدون مثلا أن يضربوا عددا ما في العدد 3، كانوا يضيفون الضارب إلى الضعف المضروب فيه , فلم يكونوا يعرفون إذا نظرية الضرب، بل كانوا يستخلصون النتائج بطريقة عملية دون أن يعرفوا الأساس النظري التي تقوم عليه عملية حسابية ما ” (7)
واضح، إذا، أن نظرة عبد الرحمان بدوي لبداية الفلسفة تقع ضمن النظريات، سواء الغربية منها أو العربية، التي تنفي وجود فلسفة عربية وتشكك بمشروعيتها وأصالتها. هذه النظرة تنطلق من بعض المسلمات التي مفادها أن الفلسفة العربية لم تكن في يوم من الأيام لتستلهم روح النقد والتعليل اللازم لكي تؤسس مشروعا فلسفيا أصيلا. (8)
أما الموقف السائد لدى مؤرخي الفلسفة اليوم فهو الاعتراف بالفلسفة الإسلامية وبخصوصية تميزها عن الفلسفة اليونانية، فمنذ السبعينيات بدأ التفكير في إعادة قراءة تاريخ الفلسفة من أجل إبراز الطابع الخاص للفلسفة الإسلامية والفكر العربي باعتبار الإسهامات المتعددة في التطور الثقافي للإنسانية.
بدأ الاعتماد بالخصوص بآليات ومناهج العلوم الإنسانية (سواء المتعلقة بالتطور الفيلولوجي أوالدراسات البنيوية أوالمنهج المقارن…) وذلك من أجل ملامسة الشروط التي حكمت طبيعة العلاقات وفق اشتراطات مناهج العلوم الإنسانية الحديثة. وتبين آنذاك أن التقابل بين الفلسفة الإسلامية والعلم اليوناني هو في الأساس تقابل بين حضارتين مختلفتين على مستوى البنيات السياسية والفكرية وكذا على مستوى السلطات المرجعية التي تستمدها كل حضارة من تاريخها، إلا أنه، بفعل تراكم التجارب والمعلومات وانتقالها عبر الزمان والمكان، حصل نوع من التفاعل بين الثقافتين، وخصص الفلاسفة العرب جل اهتماماتهم لقراءة وتأويل الإرث الثقافي اليوناني في مختلف مشاربه.

1.2-المشكلة الثانية : حدود الفلسفة

يتساءل، د. بدوي، عن حدود الفلسفة في ما إذا كانت حكرا على الغرب أم تمت مكانا للفكر الشرقي ؟ رغم إقراره بعدة صلات بين اليونانيين والشرقيين، ابتداء من حكم الاسكندر حتى نهاية الحروب الصليبية، إلا أنه لا يمكن إثبات مصدر التأثير والتأثر بين اليونان و الشرق، بل الأدهى من ذلك أن ظهور الفلسفة في الشرق كانت صورة مشوهة للفلسفة اليونانية، معتبرا أن الاهتمام بها هو مسألة اضطرارية، “باعتبارنا شرقيين تقريبا ومسلمين غالبا” . ويتمن د, بدوي، هذه الأطروحة في موضع آخر بقوله أن الحضارة الإسلامية لا تأخذ من الحضارة اليونانية إلا ما ليس بمقوم جوهري لهذه الحضارة، تأخذ منها العلوم التي هي قدر مشترك بين الناس جميعا ولا تأخذ منها الفنون والعلوم الروحية، وما أخذته الحضارة الإسلامية عن الحضارة اليونانية هو ما كان دخيلا على هذه الروح، فهي تأخذ تلك العناصر الشرقية التي امتزجت بالعناصر اليونانية، ولم تأخذ شيئا مما يميز الروح اليونانية وفي ذلك تعليل واضح للنجاح الذي لقيته الأفلاطونية الجديدة في العالم الإسلامي، أما أرسطو اليوناني فلم تستطع الروح الإسلامية أن تهضمه، واستعانت على هضمه بالأفلاطونية المحدثة . (10)

1.3-المشكلة الثالثة : علاقة الفلسفة بالعلوم

ينفي د. بدوي ، وجود حدود ثابتة بين الفلسفة والعلم، أو بينها وبين الدين والسياسة ، وإنما هي حدود مختلطة، تارة تضيق وتارة تتسع، فبعد ما كان العلم داخلا ضمن نطاق الفلسفة في العصر اليوناني، بدأ العلم ينفصل عن الفلسفة وكاد الانفصال أن يكون تاما في العصر الأخير من عصور الفلسفة اليونانية، ثم بدأت صلة جديدة بين الفلسفة والدين في العصر الوسيط، حيث أصبحت الفلسفة خاضعة للدين خضوعا تاما. ثم جاء العصر الحديث فانفصل العلم عن الفلسفة نهائيا وانفصت الفلسفة عن الدين كذلك، وفي أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين لم يعد للفلسفة وجود إلا داخل العلم. وبعد الحرب الأولى الكبرى استقلت الفلسفة عن العلم من جديد، وأصبح لها وجود ذاتي، وصار تاريخها مستقلا قائما بذاته. لا يمكن للفلسفة أن تنفصل عن الأشخاص الذين أنتجوها ولا عن روح العصر الذي ظهرت فيه، كما أنه لا يمكن رسم حدود قارة بينها وبين العلم ، أو بين الفلسفة والدين، أو بينها وبين الفن والسياسة، لابد أن ننظر إلى هذه الحدود على أنها متغيرة حسب الزمان والمكان، وحسب الملابسات الخاصة بكل فيلسوف على حدة. (11)
انتقل عبد الرحمن بدوي، بعد ذلك إلى الحديث عن تاريخ تأريخ الفلسفة، متسائلا في البداية عن القانون الذي من شأنه أن يفسر التطور والصلات الضرورية بين المذاهب، حيث بدأ في استعراض آراء المؤرخين منذ فلوطرخس الذي كتب كتابا عن “أقوال الفلاسفة” وذيوجان اللائرثي صاحب كتاب “حياة الفلاسفة” الذي شكل مرجعا رئيسيا لتاريخ الفلسفة ..، ومرورا بمساهمات الفلسفة في عصر النهضة مركزا بذلك على منهج هيجل واسبنجلر، فتاريخ الفلسفة مع هيجل، خلاصته أن كل موضوع أو فكرة مرتبطة أشد الارتباط وبدون انفصال، عن الموضوع أو الفكرة المناقضة له، ولا بد من أن يرفع التناقض الموجود بين الشيء ونقيضه لكي نصل إلى مركب يعلو على الإثنين ويرفع التناقض الموجود بين كلا الشيئين المتناقضين ليصل في النهاية إلى شيء ثالث هو التركيب، فتاريخ الفلسفة بهذا المعنى ليس إلا الروح المطلقة الكلية التي تتطور انطلاقا من منهج ديالكتيكي ، فالفلسفات السابقة لا تلغي اللاحقة بل تتضمنها وترتفع على التناقض لكي تصل إلى التركيب، وهي نفس الفكرة التي تنطبق على العلاقة بين المذاهب، فالإختلاف بينهما لا يعني اختلاف في الجوهر وإنما كل مذهب يتضمن المذهب السابق ويعلو عليه، والنتيجة هي أنه كلما تأخر المذهب كان أكثر تقدما لأنه يحتوي كل السابقة.
ينتقد د. بدوي، هذه النظرة الهيجلية التي تعتبر أن التاريخ قد تحدد منحاه مسبقا وأنه يستند على صورة إجمالية توجد وجودا جوهريا في طبيعة العقل الإنساني، مبينا أن البحث العلمي لا يمكنه أن يقر بهذه الأطروحة. بعد عرضه للتيارات المعارضة للتصور الهيجيلي والتي ظهرت في النصف الثاني من القرن 19 مع نوفييه، الذي يعتبر أن الاختلاف بين المذاهب هو اختلاف جوهري، اختلاف في طبيعة العقل البشري، المتسمة بالتناقض والتعارض, ارتضى أخيرا أن يستعرض، بكثير من الاهتمام، موقف سبنجلر، باعتباره محاولة جديدة كل الجدة : ” هذه المحاولة هي التي قام بها فيلسوف نعده أكبر فلاسفة الحضارة ونعني به أوزفلد اسبنجلر” (12)

2. خصائص الفلسفة اليونانية في العصر الأول : ربيع الفكر اليوناني
يقسم د. عبد الرحمن بدوي، العصر الأول إلى مرحلتين، الأولى تبدأ مع طاليس وتنتهي مع المدرسة الأيلية، وتبدأ المرحلة الثانية مع هيرقليطس وتنتهي مع أناساغوراس. ويحدد خصائص الفلسفة اليونانية في عصرها الأول معتبرا أنها فلسفة طبيعية، فهي تتجه مباشرة نحو الظواهر الطبيعية التي تصدر إليها من الخارج. ويطرح في هذا الإطار إشكالية تتساءل عن مدى نجاعة تقسيم الفلسفة اليونانية إلى فلسفة واقعية وفلسفة مثالية وذلك بجعل الفلسفة الأيونية فلسفة واقعية بينما الفلسفة الفيتاغورية والفلسفة الأيلية فلسفتان مثاليتان. هذا التقسيم، في تقدير د.بدوي، يفترض مقدما أن هناك فصلا بين الجسمي والروحي أو بين المادي والروحي. هذا الفصل لا يمكن أن يستقيم بصفة قطعية، فالفلسفة الفيتاغورية أقل تجريدا من الفلسفة الأيلية، وأن هذه الأخيرة أقرب إلى المثالية من الأولى ولا يمكن وضع الإثنين في مرتبة واحدة وعلينا أن نقول، إذا بأن تمت تلاث فلسفات : فلسفة واقعية وفلسفة ومثالية وفلسفة بين بين.
انطلاقا من هذا التحديد، يرسم د. بدوي، خصائص الفلسفة في عصرها الأول محددا إياها في ثلاث هي : الإتجاه نحو الطبيعة الخارجية، وعدم البحث في الطبيعة الداخلية، وعدم التوفيق بين الروحي والمادي. يعتبر بأن كل حضارة تقوم على أساس العلاقة بين الإنسان والطبيعة والإنسجام التام بين العالم الخارجي والعلم الباطني، بين العالم الأكبر والعالم الأصغر ونتيجة لهذه الروح لم تعن الفلسفة اليونانية في بداية نشأتها بالأخلاق الفردية، وإنما ظهرت في دور المدينة، حين ادى التمييز بين الذات الفردية، وبين الواقع الخارجي، أي بعد أن تخطت دور الحضارة إلى دور المدنية.
وبذلك يعود، بدوي، مرة أخرى للحديث عن موضوع نشأة الفلسفة اليونانية ليؤكد رأيه السابق عن المعجزة اليونانية حيث يقول : ” أما المشكلة الأولى (نشأة الفلسفة) فقد تعرضنا لها من قبل …، وقلنا رأينا النهائي فيها وهو أن الفلسفة اليونانية لم تنشأ متأثرة بأفكار شرقية ” (13)
وفي غياب أي تأثير شرقي على الفلسفة اليونانية، فالمصادر التي تشكل مرجعية لها ، في تقدير د.بدوي، لا يمكن إلا أن تكون يونانية صرفة، ويحددها كالتالي :
أولا – المصدر الصوفي : يرجع د. بدوي، في ذلك، إلى تأويلات فلسفة القرن التاسع عشر ، وخاصة في نصفه الأخير، مع نيتشه ليُرجع نشأة الفلسفة اليونانية إلى التصوف، فبعدما كانت الروح اليونانية تتصور الأشياء الخارجية، معزولة عن الذات، جاء طاليس ليعطي تفسيرا موحدا للطبيعة وقال إن الكل هو الماء وبالتالي بفناء الذات في الموضوع، لم يصل طاليس إلى هذه النظرة عن طريق المشاهدة والملاحظة بل عن طريق نظرة وجدانية في الوجود أو بعبارة أخرى بنظرة صوفية
ثانيا- التفكير السياسي : يرجع عهده إلى مرحلة ما قبل سقراط، حيث ظهر مع رجال عرفوا بالحكمة والسياسة قبل القرن السادس الميلادي، ولم يفرقوا بين الأخلاق الفردية وألأخلاق السياسية، وكان الواجب نحو الدولة أسبق من الواجب نحو الذات.
تالثا – التفكير الأخلاقي : ظهر التفكير الأخلاقي عند اليونان في القصائد الهومرية ، وكان نتيجة انتقال الإنسان من الإنفعالات التي لا ضابط لها إلى الحكمة. أي الإنتقال من الأخلاق الفردية التي يسودها الهوى إلى الإعتراف بقانون كلي هو الذي يجب أن تسير عليه الحياة الإنسانية (14)
يلاحظ، الدكتور مصطفى النشار، أن هناك تناقضا بين حديث المؤلف عن مصادر نشأة الفلسفة وحديثة عن خصائص الفلسفة اليونانية في عصرها الأول، إذ كيف يتسق قوله بأن من خصائص هذا العصر الإتجاه نحو الطبيعة الخارجية وعدم البحث في الطبيعة الداخلية مع قوله بأن مصدر هذا العصر الفكري هو التصوف أو الدين من ناحية والتفكير والأخلاق من ناحية أخرى. إنه لا يخفى على أحد أن التصوف والأخلاق ناتج عن البحث في الطبيعة الداخلية وليس الخارجية كما أن بحث الفلاسفة الأوائل كان ، حسب د بدوي، منصب على الطبيعة الخارجية. (15)

3. خصائص الفلسفة اليونانية في عصرها الثاني : صيف الفكر اليوناني
وينتقل بنا المؤلف بعد ذلك في تأريخه للفلسفة اليونانية من الربيع إلى الصيف،معتبرا أن ” سقراط وأفلاطون وأرسطو يمثلون صيف الحضار اليونانية، أي أوجها وأعلى ما بلغته من سمو حضاري، وهم من أجل هذا يكونون ثالوثا عضويا متحد الأقانيم : الأب فيه سقراط، والإبن أرسطو، والروح القدس أفلاطون. عرفت الفلسفة اليونانية، في عصرها الثاني، بتقدير د, بدوي، طريقا مخالفا لسابقتها في العصر الأول أي أنها بدأت بالإهتمام بالإنسان لتصل إلى الطبيعة وموضوع العلم كان هو الإنسان في كل مظاهره، ومن أجل هذا سيكون للأخلاق المقام الأول. أما الطبيعيات فعلى الرغم من العناية بها، فإنها ستأتي في مكان ثانوي، وسيكون للأخلاق مكانة خاصة عند سقراط الذي لم يبحث في شيء غير التصورات والماهيات والفضائل، على غرار ما فعله أفلاطون وأرسطو الذين أجمعوا على الإهتمام بالإنسان وكانت فلسفتهم أخلاقية تهتم بالماهيات في نظرية المعرفة وبوجود الماهيات بوصفه الوجود الحقيقي. وانطلاقا من هذا التحديد سيصف هذه الفلسفة بالمثالية على الرغم من كل الإختلافات الجزئية التي نشهدها لدى هؤلاء الفلاسفة الثلاثة : ” فأرسطو لا يقل مثالية عن أفلاطون لأن الوجود الحقيقي عنده هو أيضا ليس وجود المادة بل وجود الصورة وكل ما هناك من خلاف بينه وبين أفلاطون في هذا الصدد هو أن أفلاطون جعل الصور مفارقة، أما أرسطو فقد جعل الصورة والهيولى توجدان معا غير منفصلتين، بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول : إن هذا يؤدن بأن أرسطو كان مثاليا مغاليا، لأنه لم يقل إن وجود الصورة يجب أن يكون ملازما لوجود الهيولى إلا لأنه يريد أن يجعل الوجود الحقيقي دائما هو وجود الصورة أو الماهيات، إذ سيكون كل وجود في هذه الحالة، مرتبطا بوجود الماهية مما يضفي على الماهية قوة أعظم في الوجود ” (16)
نقف هنا مع د. بدوي، على تأويل غريب لنظرية المعرفة لدى أرسطو، حيث اعتبر أن هذا الأخير كان مثاليا وبذلك سنكون أمام إقرار لتماثل بين أفلاطون وأرسطو في نظرية المعرفة باعتبار المفارقة بين الماهية والوجود. يكفي الرجوع إلى مؤلف الميتافيزيقا وأيضا مؤلف المقولات ضمن مجموعة الأرغانون الأرسطي، للوقوف على خصوصية نظرية المعرفة عند أرسطو في تعارضها مع نظيرتها عند أفلاطون  (17)
الميزة الثانية التي طبعت الفلسفة اليونانية في العصر الثاني ، هو الإهتمام بالأخلاق والسياسة بصفة متلازمة ولم يعد الفلاسفة يفرقون بين الأخلاق والسياسة، فأفلاطون يعنى كثيرا ببيان الصلة بين الأخلاق الفردية وواجبات الدولة، وأرسطو يكرس جزءا كبيرا من بحوثه للسياسة ويجعلها مرتبطة بالأخلاق تمام الإرتباط. ومن هنا يخلص ، دبدوي، إلى القول بأن خصائص الروح اليونانية ظاهرة كل الظهور في العصر الثاني، وإن كانت تلك الخصائص بدأت تضمحل شيئا فشيئا في هذا العصر نفسه(18) . وبذلك تكون الفلسفة قد بلغت أعلى درجاتها مع أرسطو وأفلاطون، فالفلسفة الطبيعية قامت على قواعد ميتافيزيقية وأصبحت تكون نظرة شاملة في الوجود ولم يقتصر النظر على الناحية المادية من الطبيعة، بل اعتُرف بوجود ثنائية مطلقة لا سييل للقضاء عليها في داخل نظام الوجود، وهي الثنائية بين الروح والمادة، أو بين الهيولى والصورة. وأصبحت الفلسفة الأخلاقية ذات أساس ثابت بالنسبة لهذه الحضارة اليونانية، وارتُبط ما بينها وبين السياسة ولم يعد للواحد وجود دون الآخر. وعرفت نظرية المعرفة وضعها الصحيح وأضيف إليها -خصوصا مع أرسطو- تحديد دقيق لمعاني الألفاظ وبذكل بلغت الفلسفة اليونانية أعلى درجة في هذه الحضارة.

4. خصائص الفلسفة اليوناني في العصر الثالث : خريف الفكر اليوناني
بعد أن تعرض، دبدوي، لتأريخ الفكر اليوماني في العصر الثالث، حيث عرفت تحولا جاء نتيجة التير الذي عرفته الحياة السياسية بعد موقعة كيرونيا سنة 338، حيث فقد اليونان استقلالهم وفقدوا معه حريتهم الفردية وامتزجوا بالثقافات البرانية ومن بينها الثقافة الشرقية، على إثرهها حدث نوع مما يسميه سبنجلر باسم “التكل الكاذب” وحصل فساد وانحطاط في الثقافة اليونانية حيث غزتها الحضارة الشرقية بما فيها من تهاويل وأمور تنحل بالخوارق والسحر، وما فيها من أديان- بالمعنى السحري الصوفي- فخضعت الثقافة اليونانية لهذه العناصر الأجنبية السحرية، ومن ثم أخدت في الإضمحلال حتى أتت على نهايتها. ونتيجة لتغير الوضع السياسي، خاصة بعد فتح الإسكندر الأكبر بلاد الشرق، تحولت النظرة من الوجود ومن الفكر إلى السلوك والعمل، لم يعد المفكر ينشد من وراء تفكيره أن يدرك مظاهر الوجود، وأن يتبين ما فيه من قوى وأن يفسر ما تخضع له الطبيعة من قوانين وإنما أصبح كل همه أن يجد لنفسه قواعد للسلوك والإنعكاف على ذاتع ومحاولته إيجاد طمأنينة سلبية، وانصرف عن السياسة وأصبح يفرق بين السياسة والأخلاق. ومن هنا انصرف الإتجاه في التفكير من النظر إلى العمل، مثل المذاهب التي ظهرت بعد أرسطو من رواقية وأبيقورية وشكية، كلها انصرفت عن النظر الفلسفي الصرف وعن التفكير المجرد إلى الأخلاق العملية والسلوك.

5. خصائص الفلسفة اليونانية في العصر الثالث : شتاء الفكر اليوناني
ينتقل، د. بدوي في تأريخه للمرحلة الأخيرة، وهي المسماة بشتاء الفكر اليوناني، من تطور الفكر اليوناني والمستندة إلى المنهج الحضاري في التأريخ للفلسفة، متناولا إياها عبر محورين : محور فيلون ومحور الأفلاطونية المحدثة. في البداية، يعتبر أن فيلون هو أول من حاول تناول الحقيقة الدينية من وجهة نظر فلسفية، وبالتالي شكل ملتقى بين الثقافة اليونانية والتفكير اليهودي في تمازجهما لا في تناقدهما، من خلال إعماله لمنهج التفسير الرمزي، وذلك من أجل التأكيد على حضور اليهودية في الفلسف اليونانية بطريقة واضحة ومفصلة.
وبعد ذلك انتقل إلى عرض فلسفة أفلوطين وكيفية تأكيده على العودة من العالم المحسوس إلى العالم المعقول، وتطرق لنظريته في النفس التي تقول بمفهوم حيلولة الناسوت في اللاهوت حيث يخرج الإنسان من ذاته ليتحد بالذات الإلهية. ولم يتوان، بدوي في التأكيد على الطابع الشرقي لفلسفة أفلوطين والتي لا يجب أن نعتقد أن فيها روحا يونانية. (19)

خلاصة عامة
يتبين مما سبق أن أهم ملامح تأريخ الدكتور البدوي ، للفلسفة اليونانية ،عبر فصولها الأربعة، وتأويله لها بروح نقدية تسعى إلى استبدال قيمه الثابتة بقيم متحركة جديدة بالوقوف عليها واستشراف مواطن القوة والحياة ومكامن النزعة الإنسانية والكونية فيه. فالتاريخ فعل متحرك يخضع حينا لمجموعة من الشروط التي تنتج فكرا متميزا تتحقق بموجبه، إبداعات فكرية وأدبية وفنية فريدة، وحينا آخر تخضع لما يسميه سبنجلر “ظاهرة التشكل الكاذب” التي ُتعتبر عامل سلب وعقم فكري وفلسفي، حيث تأخذ الصورة وتمنع الإبداع، تتبنى الشكل وتخنق الروح. فالفكر اليوناني، إذا، يتطور وفق جدلية تامة بين التبات والحركة، بين المحلي والكوني لخلق حياة إنسانية أفضل.
إلا أن هذا التطور حكمته “بداية” هي النشأة الوحيدة للفلسفة، بحيث لا مجال للقول بالتماثل بين الإنجازات المهمة للفلسفة الشرقية قبل القرن السادس ق.م، ونتيجة لذلك، تم ابتسار الفكر اليوناني في إحدى لحظاته (الربيع والصيف) دون المراحل الأخرى (الخريف والشتاء).
لم تحكم مسألة التأريخ للفلسفة اليونانية، لدى د. بدوي، شروط التفاعل بين الفلسفة اليونانية والثقافات المعصرة لها، بل اعتبر، في كثير من الإحيان، أن العناصر الدخيلة هي التي شكلت عامل سلب على التطور “التأصيلي” للفكر اليوناني من النشأة إلى الخفوت. وبذلك ُيغفل فيلسوفنا، أن التأثير بالفلسفات السابقة هو فعل طبيعي في السيرورة الطبيعية لتاريخ الفلسفة، وأن صفة التأثر لا تعني المماثلة والإتباع ولا تتناقض تماما مع فعل الإبداع والجدة ؛ ففعل الإبداع لا يعني الخلق من عدم بقدر ما هو فعل تحول من القوة إلى الفعل، كما عبر عن ذلك أرسطو . وبهذا المعنى يمكن القول أن كل فلسفة لا يمكن أن تتجدد بقراءة تاريخها الخاص ولكن بتفاعلها مع ثقافات عصرها واستلهامها لروح الماضي بروح نقدية، حتى يتسنى لها إعادة قراءة تاريخ الفلسفة قراءة تعيد لمختلف الفترات التاريخية قدرها من الإسهام في هذا التاريخ معيدة النظر في علاقة الذات بالأخر و المحلي بالكوني في التشكل التاريخي للحضارات.

—————————————–

1 – DEBRAY, Régis. Critique de la raison politique. Ed Gallimar. Paris 1981, p.55
2 – نيتشه. الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي, ترجمة الدكتور سهيل القش. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1981 ص 41
3 – .” حسين حرب، الفكر اليوناني قبل أفلاطون” دار الفكر اللبناني 1990. ص 9
 4 – . “حسن حنفي قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر ، دار التنوير للطباعة والنشر 1982 ص 17-18
5 – انظر تصنيف الدكتور حسن حنفي لمؤلفات عبد الرحم بدوي في مقالة ” بدوي الفيلسوف الشامل” : دراسات عربية حول عبد الرحمن بدوي، دار المدار الإسلامي 2002 ص 20-29
 – د. عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الرابعة 1969 ص 7-
– عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، ص 9

– هذا الموقف نجده معبرا عنه في مواضع مختلفة من القراءات الإستشراقية، يقول ديبور : << لم يكن للعقل السامي قبل اتصاله بالفلسفة اليونانية ثمرات في الفلسفة وراء الأحاجي والأمثال الحكيمة، وكان هذا التفكير السامي يقوم على نظرات في شؤون الطبيعة، مفترقة لا رباط بينها ويقوم على وجه خاص على النظر في حياة الإنسان وفي مصيره. وإذا عرض للفكر السامي ما يعجز عن إدراكه، لم يشق عليه أن يرده إلى إرادة الله التي لا يعجزها شيء والتي لا تدرك مداها ولا أسرارها >> . ووفقا لذلك، يعبر ديبور، عن دونية الفكر السامي ومن ضمنه الفكر العربي. وأن هذا الفكر لم يقو على بناء وتشكيل الأسس الفلسفية إلا بعد أن وقع تلقيحه بالفكر اليوناني في مرحلة من مراحل تطوره ” . هذا الموقف ناشئ بكيفية طبيعية عن إيديولوجية أوربية مرتبطة بعهد الاستعمار فيما بين القرنين 19 و20، وهي إيديولوجية كان من المستحيل معها النظر بموضوعية وتجرد، حتى في الأوساط الجامعية، إلى تاريخ العرب وحضارتهم. ومن بين المفكرين الغربيين الذين ساهموا في صياغة هذه الإيديولوجية، نذكر رينان Ernest Renan الذي أنكر على الجنس السامي القدرة على الابتكار الواسع في ميدان الفكر، وأكد في كتابه عن ابن رشد بأنه لا ينبغي أن ننتظر أي جديد على الإطلاق في مجال الفلسفة أو العلوم العقلية من العرب ومن الحضارات الشرقية على العموم لأن مجال إبداع هذه الحضارات هو الدين.
لم تقتصر هذه النظرة على مستوى الدراسات الغربية بل أن الأمر طال مجموعة من الدراسات العربية التي رسخت لنفس الرؤية، من منطلقات وخلفيات مغايرة، ومن بينها نذكر رسالة الدكتور إبراهيم بيومي مذكورعن “تأثير منطق أرسطو في العالم العربي” حيث يقول : << هل يصح لنا أن نتحدث عن منطق من ابتكار العرب وحدهم، أو عن منطق خاص بالمشارقة، كما يدعوه ابن سينا ؟ في نهاية هذه الدراسة لا نتردد في الجواب بالنفي، إن المنطق العربي في تنظيمه ومشاكله ماهو إلا صورة طبق الأصل لمنطق أرسطو. ولم يستطع ابن سينا ولا غيره من فلاسفة المسلمين أن يقدموا مذهبا في المنطق يكون جديرا بكل معنى الكلمة, إنهم اغترفوا كلهم من كتاب المنطق الأرسطي وعلى منواله نسجوا >>
ويلاحظ د. محمد زنيبر أن بيومي مدكور، قد راجع هذا الموقف في كتابه “في الفلسفة الإسلامية” مؤكدا عكس ما قاله في النص المذكور سلفا، حيث يقول << غير أنا نخطئ إن ذهبنا أن هذه التلمذة كانت مجرد تقليد ومحاكاة وأن الفلسفة الإسلامية ليست إلا نسخة منقولة عن أرسطو كما زعم رينان Ernest Renan، أو عن الأفلاطونية الحديثة كما دعى دوهيم. ذلك لأن الثقافة الإسلامية نفدت إليها تيارات متعددة اجتمعت فيها وتفاعلت وفي هذا الإجماع والتفاعل ما يولد أفكارا جديدة>>
 9- عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، ص 11 . يعتقد د. مصطفى النشار، في مقال بعنوان :” بدوي مؤرخا للفلسفة اليونانية” أن هذا الرأي الغريب من د. بدوي، والذي كتبه في مطلع الأربعينيات من هذا القرن، قد تغير الآن بعد الدراسات الواسعة له في الفلسفة الإسلامية، وإن كانت هذه الدراسات قد اتخذت في الأغلب الأعم شكل تحقيقات لنصوص بعض الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة. ” : دراسات عربية حول عبد الرحمن بدوي، دار المدار الإسلامي 2002 ص 361
10- أنظر مقال د. أميرة حلمي مطر في : دراسات عربية حول عبد الرحمن بدوي, ص 226-227
11- د. عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، ص 13- 14
 – – د. عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، ص 30
12- يعتبر اسبنجلر أن التاريخ ينقسم إلى عدة حضارات تخضع في تطورها لقانون واحد ثابت وتنقسم إلى أدوار كالفصول الأربعة بالنسبة للسنة : فهي تبدأ بالربيع، وتعلو وتصل إلى القمة في وقت هو صيفها، ثم تبدأ في الإنحلال ويكون لها عضر اضمحلال يناظر الخريف بالنسبة إلى السنة، ثم يأتي الشتاء فتفنى الحضارة وتموت. فهناك إذا أربعة أقسام إلا أن كل قسمين يكونان شيئا واحدا. ولذا تنقسم الحضارات بمعناها العام إلى قسم أول هو الحضارة وقسم ثان هو المدنية.
فروح الحضارة، بهذا المعنى، تنتقل من الطور الأول الذي تنكشف فيه الحياة ويظهر فيه الخلق والإبداع، في الصيف والربيع، إلى الطور الثاني وهو طور الإستهلاك، حيث تصبح الحياة موضوعا ويصبح التفكير عمليا قائما على أساس العاطفة والمنفعة العملية، وينكر كل ما للعقل من قيمة في الخلق والإبداع.
ويبدو أن د. عبد الرحمان بدوي قد تبنى المنهج الحضاري لسبنجلر لقراءة تاريخ الفلسفة اليونانية وفقا للمراحل الأربعة التي تميز بها تطور الحضارات ويعود إلى ينابيع الفكر الفلسفي عند اليونان في رباعية مثل فصول السنة، الربيع والصيف والخريف والشتاء. الربيع ما قبل أفلاطون، الصيف أفلاطون وأرسطو والخريف بالنسبة للمدارس الأخلاقية بعد أرسطو ويتضمن الشتاء نهاية الفلسفة اليونانية في الأفلاطونية المحدثة، وليس المقصود هو مجرد صرد لتاريخ الفلسف اليونانية، بل إعادة قراءة الفلسفة الأوربية الحديثة من خلال المنهج الحضاري لسبنجلر.
 13- نفس المرجع، ص 84
14- نفس المرجع، ص 90
15- مصطفى النشار ” بدوي مؤرخا للفلسفة اليونانية” : دراسات عربية حول عبد الرحمن بدوي، دار المدار الإسلامي 2002 ص 365
 16- عبد الربحمن بدوي : أفلاطون ، وكالة المطبوعت الكويت/ دار القلم بيروت 1979 ص 6
17- يبدأ أرسطو نظريته في المعرفة بالتخلص من الموقف الأفلاطوني. فالعلم لا يتطلب وجود أشباه هذه “المثل” التي تعلو على نطاق التجربة الحسية حسبما وصفها أفلاطون. إن هذه “المثل” لا تزيد, في رأي أرسطو أن تكون مجرد مجازات شعرية”. إن ما يتطلبه العلم ليس أن يكون هناك “واحد فوق المتعدد” (أي المثال, ويقصد التصورات العقلية الخالصة التي لا تتجسد في عالم الإدراك الحسي الواقع, كما وصفها أفلاطون), وإنما هو يتطلب وحسب أن يكون من الممكن أن يحمل حد على حدود أخرى كثيرة على نحو كلي. ويعني هذا بذاته أن “الكلي” ينظر إليه عند أرسطو على أنه محصلة للخصائص المتواجدة في كل عضو من أعضاء المجموعة, وهو يستخرج بوسيلة التجريد, أي بترك الخصائص التي تخص بعضا من المجموع دون بعض واستبقاء تلك الخصائص فقط التي تكون مشتركة بين كل أعضاء المجموعة.
18- عبد الربحمن بدوي : أفلاطون. ص 8
 19- عبد الرحمن بدوي : خريف الفكر اليوناني ص 150

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى