قلب الأفلاطونية – جيل دولوز
ماذا يعني “قلب الأفلاطونية”. يحدد نيتشه على هذا النحو مهمة الفلسفة عنده، أو مهمة فلسفة المستقبل بصفة أعم. يظهر أن العبارة تعني القضاء على الماهيات، وكذا على عالم المظاهر. إلا أن المشروع لا يخص نيتشه وحده. فالإقصاء المزدوج للماهيات والمظاهر يرجع إلى هيجل، بل إلى كنط. ومن المشكوك فيه أن يعني نيتشه ما يعنيه هذان الفيلسوفان. وفضلا عن ذلك، فإن صيغـة القلب هاته تشكو من كونـها صيغة مجردة. وهـي لا تسلط الأضواء على الدافع المحرك للأفلاطونية. هذا في حين أن قلب الأفلاطونية ينبغي أن يبرز، على العكس من ذلك، هذا الدافع، وأن “يترصّده” كما يترصد أفلاطون السفسطائي.
بصيغة شديدة التعميم، نقول إن الدافع الكامن وراء نظرية المثل ينبغي أن يبحث عنه جهة رغبة في الانتقاء والاصطفاء. يتعلق الأمر بإقامة الاختلاف، والتمييز بين “الشيء” ذاته وصوره، بين الأصل والنسخة، بين النموذج والسيمولاكر.[…]
ننطلق من تحديد أولي للدافع الأفلاطوني : إنه التمييز بين الماهية والمظهر، بين المعقول والمحسوس، بين المثال والصورة، بين الأصل والنسخـة، بين النموذج والسيمولاكر. إلا أننا سرعان ما نتبين أن هاته العبارات لا تعني الشيء ذاته. لينـزاح التمييز إلى التفرقة بين نوعين من الصور: النسخ التي يقوم ادعاؤها على أسس متينة، ضامنها في ذلك الشبـه، ثم السيمولاكرات التي لا أساس لادعائها، والتي تقوم على اللاتشابه والخلل، وعلى انحراف جوهري. بهذا المعنى يوزع أفلاطون مجال الصور ـ النماذج إلى قسمين : فمن جهة النسخ ـ الأيقونات، ومن جهة أخرى السيمولاكرات والاستيهامات. بإمكاننا حينئذ أن نحدد الدافع الأفلاطوني في مجموعه : يتعلق الأمر بانتقاء المدعين الزاعمين، والتمييز فيهـم بين النسخ الجيدة والنسخ الرديئة، أو بالأولى، بين النسخ القائمة على أساس وبين السيمولاكرات الساقطة في هاوية اللاتشابه. يتعلق الأمر بضمان انتصار النسخ على السيمولاكرات, وقمع هاته الأخيرة وضبطها وطمسها وتركها تحت القيود، والحيلولة بينها وبين أن تطفو على السطح لتفرض نفسها في كل الأنحاء.
وما وجود الثنائي الظاهر : المثال والنسخة، إلا من أجل هاته الغاية، وهي ضمان التمييز والتمايز الكامن بين نوعي النسخ، وتوفير معيـار عيني. ذلك أن الأيقونات إن كانت نسخا جيدة قائمة على أساس متين، فلأنـها تتمتع بالتشابه. لكن التشابه لا ينبغي أن يفهم كعلاقة خارجية : إنه لا ينتقل من شيء إلى شيء آخر، بقدر ما ينتقل من شيء إلى مثال، مادام المثال هو الذي يشمل العلائق والنسب المكونة للماهية الباطنية. إن التشابه، بما هو باطني وروحي فهو معيار الادعاء : إن النسخة لا تشابه شيئـا حق الشبه إلا بمقدار ما تشبه مثال الشيء. لا يوافق صاحب الادعـاء الموضوع إلا بقدر ما يُـقَـدّ على المثال. وهو لا يستحق الصفـة إلا بمقـدار ما يتأسس على الماهية. والخلاصة، فإن تطابق المثال وهويته العليا هي التي تؤسس الادعاء الجيد للنسخ وتدعم زعمها، وتؤسسها على تشابـه باطني.
لننظر الآن إلى النوع الآخر من النسخ، أي إلى السيمولاكرات : إن ما تدعيه هاته النسخ وما تزعمه، أي الموضوع أو الصفة إلخ..، تدعيه بطريقة ملتوية ومن أجل عدوان وتحريض وحث وخلخلة “ضد الأب”، ودون مشورة المثال. إنه ادعاء وزعم لا يقومان على أساس، وينطويان علـى لا تشابه واختلال داخلي.
وإذا ما اكتفينا بالقول إن السيمولاكر نسخة عن نسخة، وإنه أيقونة متدهورة وتشابه ممحوّ، فإننا نظل بعيدين عن الصواب، ولن ندرك الاختلاف في الطبيعة بين السيمولاكر والأيقونة، وكونـهما يشكلان نصفي قسمة واحدة. الأيقونة نسخة تتمتع بالتشابه، أما السيمولاكر فهو نسخة بلا تشابه. ولقد جعلتنا العقيدة المسيحية، التي طالما استلهمت الأفلاطونية، جعلتنا في ألفة مع هذا المفهوم. إن الإله خلق الإنسان على صورته وشبهـه. لكن الإنسان، بفعل الخطيئة، فقد الشبه محتفظا بالصـورة. إنه غدا سيمولاكر وفقد الوجود الأخلاقي ليقتحم الوجود الجمالي. فضيلـة هاته المقارنة أنـها تكشف عن الجانب الشيطاني في السيمولاكر. صحيح أنه يولد مفعول تشابه، بيد أنه مفعول المجموع، مفعول خارجي، تنتجه وسائل مخالفة أشد المخالفة لتلك التي تعمل في النموذج. يتشكل السيمولاكر على أرضيـة من التشتت وعلى الاختلاف. إنـه ينطوي على لا تشابه. لذا فإننا نعجز عن تحديده نسبة للنموذج الذي يفرض نفسه على النسخ، نموذج الهوية الذي تتولد عنه تشابـهات النسخ. إذا كان للسيمولاكر نموذج، فهو نموذج آخر، نموذج الآخر.[…]
على هذا النحو، فإن الأفلاطونية تقيم أسس الميدان الذي ستعترف الفلسفة بأنه ميدانها: أي ميدان التمثل الذي يعج بالنسخ الأيقونات، والذي يتحدد، لا عن طريق علاقة خارجية مع الموضوع، وإنما عن طريق علاقة داخلية صميمية مع النموذج أو الأساس.[…]
يعني قلب الأفلاطونية، والحالة هاته، الإعلاء من السيمولاكرات، والاعتراف لـها بحقها بين الأيقولات. لن يتعلق الأمر بعدئذ بالتمييز بين الماهية والمظهر، أو بين النموذج والنسخة، إن هذا التمييز يتم بأكمله داخـل عالم التمثل، يتعلق الأمر بمد الخلل إلى أن يبلغ عالم التمثـل. أي ب “أفول الأصنام”. ليس السيمولاكر نسخة محرفة. إنه ينطوي على قوة إيجابية تنفـي الأصل والنسخة، والنموذج والاستنساخ. فبـين السلسلتين المختلفتين اللتين ينطوي عليهما السيمولاكر على الأقل ، ليس منها ما هو أصل، وليس منهـا ما هو نسخة. ولا يكفي أن نستغيث بنموذج الآخر، لأنـه لا نموذج يقف أمام دوار السيمولاكر. فلا وجود لوجهـة نظر متميزة، كمـا لا وجود لموضع مشترك بين وجهات النظر جميعها. لا مكان للتفاضل، فلا ثاني ولا ثالث… إن التشابه يظل قائما، لكنه تشابه يتولد عن السيمولاكر كمفعول خارجي، من حيث إنه يتشكـل حول السلسـلات المختلفة ويدفعها إلى العمل. إن الهوية تظل قائمة، لكنها منتوج يتولد، إنـها القانون الذي يهيمن علـى السلسـلات. في قلب الأفلاطونية يطلق التشابه على الاختلاف المستبطـن، وتطلق الهوية على المخالف، كقوة أولى. لا ماهية للذاتي والمشابه إلا كونـهما يتشبَّهـان، أي أنـهما يعبران عن عمل السيمولاكر.[…]
إن كون الذاتي والمشابه وليدي تشبّه لا يعني أنـهما مجرد مظاهر وأوهام. إن التشبه يدل على قوة توليد مفعول. لا بالمعنى العلي، مادام من شأن العلة أن تظل فرضية غير محددة إن لم تتدخل دلالات أخرى. بـل بمعنى “الدليل والعلامة”، ذلك الدليل المتولد عن عملية الدلالة ؟ وأيضـا بمعنى “اللباس” أو بالأولى القنـاع، الذي يعبر عن حركة تقنّع واختفاء حيث يوجـد خلف كل قناع قناع آخر وهكذا… إن التشبّه، مفهومـا على هذا النحو، لا ينفصل عن العود الأبدي ؛ ذلك لأن قلب الأيقونات وخلخلة عالم التمثل يتمان في العود الأبدي. فهنا يتم الأمر كما لو أن مضمونا كامنا يتعارض مع محتوى ظاهر. إن المحتوى الظاهر للعود الأبدي يمكن أن يحدد بالنسبة للأفلاطونية بصفة عامة : إنه يمثل الكيفية التي ينتظم بـها الكاووس نتيجة تدخل الصانع، ووفق نموذج المثال الذي يفرض عليـه الـهوية والشبه. بـهذا المعنى الأفلاطوني فإن العود الأبدي هو الصيرورة الحمقاء وقد ضبطت وشُـدّت إلى مركز واحد، وحكم عليها بأن تستنسخ الأبدي. وهـذا هو النحو الذي يظهر به في الأسطورة المؤسسة. إنه يقيم النسخة في الصورة، ويجعل الصورة تابعة للتشابه. ولكن، بعيدا عن أن يمثل هذا المحتوى الظاهرُ حقيقةَ العود الأبدي، فإنه يدل بالأحرى على استعماله وبقاياه الأسطورية داخل إيديولوجية لم تعد تقوى عليه وتتحمله. ولا بأس أن نذكر هنا كم كان الفكر الإغريقي بصفة عامة، والأفلاطونية على الخصوص، ينفران من المضمون الكامن للعود الأبدي. كما ينبغي تصديـق نيتشه عندما يعتبر أن فكرة العود الأبدي فكرته هو، وهي فكرة تتغذى على المنابع الديونوزسية والباطنية التي تجاهلتها الأفلاطونية وكبتتها.[…]
إن سر العود الأبدي، هو أنه لا يعبر قط عن نظام يعارض الكاووس ويخضعه. إنه على العكس من ذلك، ليس إلا الكاووس، إنه القدرة على إثبات الكاووس. […] عوض انسجام التمثل يضع العود الأبدي شيئا آخر، إنه يضع تيهه الخاص. ذلك لأن بين العود الأبدي والسيمولاكر رابطة عميقة بحيث إن أحدهما لا يفهم إلا عن طريق الآخر. فما يعود هو السلسلات المختلفة بما هي مختلفة، أعني كل واحدة منها بما هي تغير موقع اختلافها مع كل ما تبقى، وهي جميعا بما هي تشدد من اختلافها في الكاووس الذي لا بداية ولا نـهاية له. إن دائرة العود الأبدي هي دوما دائرة ذات مركز خارجي. لم يحد كلوسوفسكي عن الصواب في قوله عـن العود الأبدي “إنه سيمولاكر عقيدة” :إنه الوجود، ولكن فقط حين يغدو الموجود سيمولاكر.[…] إن العود الأبدي هو الذاتي والشبيه، ولكن كوليد للتشبّه، وكمتولد عن السيمولاكر، (إرادة القوة). بـهذا المعنى هو يقلب التمثل ويقوض الأيقونات : إنه لا يفترض الذاتي والشبيه، وإنـما على العكس من ذلك، هو الذي يشكل الـهوية الوحيدة لما هو مخـالف، والشبه الوحيد لما هو غير مشابه. إنه الاستبهام الوحيد لكـل السيمولاكرات (وجود كل الموجودات). إنه قدرة على إثبات التنوع والخلخلة. وهو يجعـل منها موضوع إثبات سام. إنه يعيد ما هو موجود تحت هيمنة الادعاء. لذا فهو لا يعيد كل شيء. إنه ينتقي، ويقيم الاختلاف. لكـن ليس مطلقا على نحو ما يفعله أفلاطون.[…]
تُـحدَّد الحداثة بقوة السيمولاكر. يتعين على الفلسفة لا أن تكون حديثة بالرغم من كل شيء، ولا أن تكون مستقلة عن الزمان، وإنـما أن تبرز في الحداثة شيئا كان نيتشه يحدده كشيء ضد الزمان، أي شيء ينتمي إلى الحداثة، ولكنه في الوقت ذاته ينبغي أن ينقلب ضدها “لصـالح زمان مستقبل”. إن الفلسفة لا تنشأ في الغابات والدروب، وإنما في المدن والأزقـة بما فيها من أشياء مفتعلة. يقوم اللازماني بالنسبة إلى الماضـي السحيق في قلب الأفلاطونية، وبالنسبة إلى الحاضر في السيمولاكر، من حيث إنه قمة هاته الحداثة النقدية، وبالنسبة إلى المستقبل في استيهام العود الأبدي كايمان بالمستقبل. ليس المفتعل هو السيمولاكر. بل إنـهما يتعارضان. إن المفتعل هو دوما نسخة عن نسخة، إنه نسخة ينبغي أن يدفع بـها إلى أن تغير من طبيعتها فتنقلب سيمولاكر. يتعارض المفتعل والسيمولاكر في عمـق الحداثة مثلما يتعارض نمطان من التقويض : أي نوعين من العدمية. ذلك لأن هناك فرقا كبيرا بين التقويض من أجل المحافظـة على النظام القائـم للتمثلات والنماذج والنسخ وجعله يستمر ويمتد ؛ وبين تقويض النماذج والنسخ لإقامة الكاووس الذي يبدع، والـذي يحرك السيمولاكر ويرفع الاستيهـام. ذاك هو أكثر أشكال التقويض براءة، إنه تقويض الأفلاطونية.
– نشر هذا المقال أولا في مجلة Revue de Métaphysique et de Morale سنة 1967 ثم أعيد نشره منقحا وتحت عنوان “أفلاطون والسيمولاكر” ضميمة لكتاب : Logique du sens, minuit, coll 10/18, 1969, pp.347-361.