هيربرت مركيوز | في خصائص الواقع الثقافي الغربي | الإنسان ذو البعد الواحد
د. الطيب بوعزة
يعد كتاب هربرت مركيوز «الإنسان ذو البعد الأحادي» من أعمق الأبحاث النقدية التي أُنجزت حول واقع الثقافة الغربية المعاصرة، وفيه يسعى “مركيوز” إلى تأكيد تصوره حول أحادية ونمطية المجتمع الحداثي الغربي؛ حيث يرى أن النمط الفكري السائد داخل هذا المجتمع هو نمط يرفض التعددية والمغايرة، ويستهدف تنميط الناس والعالم أجمع بنموذجه الثقافي.
فعلى عكس شعارات التعددية والقبول بالاختلاف التي يرفعها هو، في العمق مجتمع يسعى إلى التنميط والنمذجة بتعميم أسلوبه في التفكير والسلوك، ومعاييره وقيمه، ومؤسساته المجتمعية على مساحة العالم ومحو الثقافات الأخرى.
والمأزق الخطير الذي ينبهنا إليه مركيوز هو أن بنية المجتمع الغربي بمنطقها الأحادي تختزل الحلم والأمل في الواقع السائد؛ فتلغي بذلك حتى إمكانية التفكير في نموذج مجتمعي بديل.
لكن كيف خلص المجتمع الأوروبي والغربي عامة إلى السقوط في منزلق الأحادية؟ يستحضر مركيوز صيرورة تطور الثقافة الأوروبية، فيلاحظ أنه منذ الأفلاطونية أُقيم العقل بوصفه كيانا مفارقا للواقع، والفكرة بوصفها متعالية عليه، فالمثل الأفلاطونية طرحت كعالم مفارق يعلو ويفضل ما هو سائد، الأمر الذي كان يؤسس ضمنيا لإمكانية وجود تفكير نقدي للواقع، واستهجان استمراره، والمناداة الدائمة بالارتقاء به، غير أن المجتمع الحداثي الصناعي السائد أصبح فيه الواقع يساوي المعقول، وكل فكرة مغايرة لما هو متداول هي ليست فقط فكرة لا واقعية، بل هي فكرة لا معقولة وهذا إفلاس خطير يفقر الوعي الغربي المعاصر ويسيج أفقه الإبداعي.
فإذا كانت الفلسفة تؤكد أن وظيفة الفكر هي بحق كما حددها هيجل- «القدرة على النفي» والرفض لما هو سائد، فذلك لأنها مسكونة دوما بفكرة عالم متعدد الأبعاد، أي لا أحادي، لكن هذا الحس الفلسفي الذي يضرب بجذوره في التراث الأفلاطوني أصبح مستبعدا من ثقافة المجتمع الحداثي. لكن كيف تمت خيانة هذا الإرث الأفلاطوني؟
هنا نرى مركيوز يقف إلى جانب أفلاطون ضد أرسطو؛ حيث يرى أن المنطق اليوناني الأرسطي حمل بداخله بذور إفراز الفكر الحداثي أحادي البعد، لأنه منطق صوري غالى في التجريد والصورية ومراعاة الانسجام، واستهجان التناقض، فأسس بذلك لنفي الرؤية النقدية للواقع؛ فهذا المنطق هو منطق الهوية والذاتية لا منطق التناقض، وهذا ما خلص به في سياق صيرورة المجتمع الحداثي إلى الاستواء كمنطق يسعى إلى تركيز الأحادية ونفي المعارضة ومحو المخالف.فمع صيرورة التاريخ سينتهي الفكر الحداثي الغربي إلى تثبيت فلسفة وضعية كونتية، فلسفة تحبذ الانسجام والاستمرارية، إلى درجة أنها أفرغت الممارسة الفلسفية من دورها ووظيفتها النقدية، بل حاربت حتى وجودها.
ألم يقل فتجنشطين: إن «الفلسفة تترك كل شيء كما هو» لقد استحالت الوضعية في تطوراتها اللاحقة مع فتجنشطين وأوستين ورايل إلى فكر يطمح إلى تطهير اللغة من كل الألفاظ التي ينعتها هؤلاء بالميتافيزيقية، واستبقاء الألفاظ التي لها مقابل في الواقع. إنها في مشروعها هذا تعبير عن منطق هذا المجتمع الصناعي الأحادي البعد، النازع إلى نفي واستبعاد كل ما لا ينسجم ويتطابق مع الواقع السائد.
وينتقد مركيوز الفلسفة التحليلية في منزعها هذا ويعده منزعا ساذجا في النظر إلى اللغة، بل يتساءل مركيوز هل بالإمكان تحقيق ما يطلبه الوضعيون المنطقيون؟ هل بإمكاننا استخدام ألفاظ الفلسفة (الحقيقة، الفكر، التجربة، العالم) مثلما تُستخدم ألفاظ اللغة العادية كالطاولة والكرسي والجدار؟
إن مثل هذا الاستخدام غير ممكن حسب مركيوز، لأن العبارة الفلسفية لا تلتصق بالواقع وتقف عنده، بل تتجاوزه وتتخطاه، فعبارة مثل «الإنسان المستلب» إذ تشير إلى واقع الإنسان الحالي فإنها في الوقت ذاته تشير إلى ضرورة تجاوز هذا الواقع بتحرير الإنسان من استلابه.
إن الوضعية المنطقية نموذج يكشف عن فقر الوعي داخل المجتمع الحداثي الصناعي، فحتى اللغة يراد لها أن تصبح لغة أحادية البعد؛ حيث إن عبارات نقدية مثل «فلان لا قلب له»، أو «هذا ليس عدلا»، هي عبارات لو عرضناها على الفلسفة التحليلية المنطقية لأنكرتها بدعوى أن مفهوم العدل غامض وليس له مقابل واقعي، ومن ثم فهو لفظ لغو ينبغي تنقية المعجم منه، أما العبارة الأولى «فلان لا قلب له» التي يراد منها دلالة نقدية للشخصية، بالإشارة إلى كونها تفتقر إلى الحس الإنساني، فهي أيضا مرفوضة من قبل الوضعية المنطقية، وتبريرها لهذا الرفض يكشف سذاجة هذه الفلسفة؛ حيث تحكم على العبارة بكونها خاطئة لأن كل إنسان له عضو بيولوجي يسمى قلباً.
إن الوضعية بذلك تعزل اللغة عن القيم الأخلاقية والسياسية للمجتمع، وتنظر إليها كلغة متخشبة مفصولة عن سياقها الإنساني والمجتمعي، ولذا يؤكد مركيوز ضرورة إعادة الاعتبار للغة الفلسفية، لأن صيغها الكلية العامة لها دور مهم جدا في إثارة الوعي وتحريك الفعل نحو التغيير. ومن ثم ينبغي إعادة الاعتبار إليها ضد هذا الإفقار الممنهج الذي مارسته عليها الفلسفة التحليلية، التي لم تدرك قيمة كلية المفاهيم الفلسفية، وبعدها الوظيفي المهم في ثقافة الإنسان.
فعندما نتحدث عن الحرية ونصف مجتمعا ما بأن فيه حرية، فهذا لا يعني أنه قد جسد الحرية كاملة، بل يبقى دائما بعيدا عن مثال الحرية، وهذه المثالية التي تسم المفهوم الفلسفي ذات قيمة مهمة؛ إذ بتعاليه وتخطيه للمعطى السائد، يقدم هذا المفهوم إمكانية الانفتاح على مستقبل وأفق جديد، ومن ثم لا ينبغي النظر إلى تعالي المفهوم واللغة الفلسفية بوصفه نقصا ينبغي إزالته واستبعاده، بل هي قيمة ينبغي الحفاظ عليها، ذلك لأن الفلسفة بمنظورها هذا تمكننا من قراءة الواقع من خلال الممكن والمغاير، وبلورة مشروع بديل، وهذا ما يسعى المجتمع الحداثي إلى نفيه واستبعاده.
د. الطيب بوعزة