المحور الثاني (2) الشخص بوصفه قيمة | مفهوم الشخص | مجزوءة الوضع البشري
من أين يستمد الشخص قيمته؟ هل من ذاته أم مجال التعايش الإجتماعي؟
تحيل قضية الشخص بوصفه قيمة أو قيمة الشخص على مجموع الاعتبارات والخصائص الفكرية والأخلاقية والاجتماعية، التي تجعل النظر إلى الشخص بوصفه ذاتا تستوجب الاعتبار والتقدير والاحترام وتحتل مرتبة عليا وقيمة سامية في الوجود.
التأطير الإشكالي | الشخص بوصفه قيمة
على خلاف الموجودات الأخرى كالمواضيع والأشياء التي تعتبر ذات قيمة نفعية واستعمالية، يحضى الشخص بقيمة سامية في الوجود، تمنحه إياها، طبيعتُه الإنسانية والأخلاقية، وما يحوزه من خصائص ومقومات جوهرية، عقلية ووجدانية (عقل، وعي، إرادة، حرية، كرامة…) الشيء الذي يُكسبه وعيا أخلاقيا باعتباره ذاتا وليس موضوعا. وبما أن الشخص أيضا كائن اجتماعي، فهو لا يستمد قيمته من ذاته الفردية المنعزلة وفقط، بل يستمدها أيضا من علاقته بالمجتمع الذي يوجد فيه وانخراطه فيه، وهكذا يكون الشخص حاملا لقيمة أخلاقية واجتماعية، يبدو من جهة أنه يستمدها من خصائصه ومقوماته الذاتية، ويبدو من ناحية ثانية أنه يكتسبها في إطار الحياة الاجتماعية المشتركة، ومن مدى تعاونه ومشاركته وانفتاحه على الغير والآخرين.
هكذا نكون أمام إشكالية فلسفية يمكن التعبير عنها وصياغتها من خلال التساؤلات الفلسفية الآتية:
ما الشخص؟ وما طبيعة قيمته؟ ومن أين يستمدها؟ هل يستمد الشخص قيمته من ذاته الأخلاقية المنعزلة، أم من مجال التعايش المشترك والمجتمع الذي يوجد فيه؟ وهل قيمة الشخص مطلقة أم نسبية ومشروطة؟
تحليل نص “إمانويل كانط” كتاب منار الفلسفة ص 14
يعتبر الإنسان داخل نظام الطبيعة (كظاهرة من ظواهر الطبيعة وكحيوان عاقل) غير ذي أهمية قصوى : إذ أنه يمتلك مع مجموع الحيوانات الأخرى – بوصفها منتوجات للارض – قيمة مبتذلة. لكن ما جعله – إضافة إلى امتلاكه ملكة الفهم – يسمو على جميع الكائنات الأخرى هو كونه قادرا على تحديد غايات لنفسه ...
خطاطة توضيحية لفهم نص كانط “الشخص قيمة مطلقة”
أنظر شرح مضامين الخطاطة من هنا
في سياق الفلسفة العقلانية عامة، يُنظر إلى الإنسان الشخص باعتباره ذاتا خاضعة لثنائية النفس والجسد؛ حيث النفس جوهر مفكر من طبيعة روحية، أما الجسد فهو امتداد أو معطى مادي
وارتباطا لهذا بموضوع قيمة الشخص، نجد أن الانسان في التصورات العقلانية عامة، يستمد قيمته من خصائصه الماهوية لا المادية، أي من مقوماته الجوهرية المحددة لوجوده الفردي الذاتي، أي؛ من عقله ووعيه وإرادته وحريته وأخلاقه وكرامته وشعوره بإنسانيته … أي من صفاته وخصائصه الانسانية وبالتالي فقيمته معطى قبلي وأولي محدد بخصائصه الوجودية، الفردية والذاتية.
وفي هذا الإطار يرى كانط ان الشخص لا يستمد قيمته من الجسد كمعطى طبيعي مادي، مثلا كأن نمنح الأشخاص قيمتهم بناء على اعتبارات جسمانية كالجمال أو القوة الجسدية، لأن هذه الخصائص المادية متغيرة ونسبية، يمكن ان تزيد وتنقص، ويمكن أن يفقدها الانسان نسبيا دون فقدانه لقيمته، فالأشياء والمواضيع وحدها ما تزيد قيمتها وتنقص… في حين قيمة الشخص مطلقة لا تتغير، لمجرد أنه إنسان وكائن عاقل، فهو يحتل قيمة ومرتبة سامية في الوجود، لا تتأثر بكل المتغيرات التي يمكن ان تطاله، كاللون والجنس والثقافة والانتماء الجغرافي والوضع الطبقي…
إذن نفهم مما سبق قوله أعلاه، بأن قيمة الانسان تنبع من الخصائص العامة والمشتركة بين البشر لا من المعطيات العرضية الزائلة والمتغيرة… ومن أهم هذه الخصائص وأسماها ، يذكر كانط الأخلاق والكرامة…
فالانسان مهاب بعقل أخلاقي عملي هو مصدر الوعي الأخلاقي ويحكمه مبدأ الواجب، به يميز الانسان بين الخير والشر ، وبين الصالح والطالح، والفضيلة والرذيلة ، وللعقل الأخلاقي اتصال مباشر بكرامة الانسان ، فحين يتعرض شخص للإهانة او الاضطهاد او الاحتقار وكل مظاهر التعامل اللاأخلاقي، فهو يشعر بذلك عن طريق الوعي الأخلاقي الذي يفرضه العقل العملي. لكن هنا نتساءل: إذا كان كانط يميز في العقل بين مستويين ، العقل النظري (ملكة الفهم) والعقل العملي (مصدر الوعي الأخلاقي والشعور بالكرامة) فلماذا لا يستمد الشخص قيمته من عقله النظري (ملكة الفهم)؟
الجواب هو أن العقل النظري باعتباره المسؤول عن المعرفة والتفكير والتخطيط والذكاء، من الممكن أن يوظفه الانسان في الشر أو الحرب او الظلم أو النصب والاحتيال، وهذه المظاهر من السلوك يعج بها الواقع والتاريخ الإنساني…
مثال آخر: في مجال المقاولة وسوق الشغل يمكن المفاضلة بين الأشخاص بناء على اعتبارات فكرية وعقلية خالصة، كالمعرفة والذكاء والقدرات العقلية عامة ، إذا كان ذلك مفيدا من الناحية الاستثمارية او الاقتصادية، . وهنا يتم تفضيل شخص على حساب آخر استحضارا لاعتبارات عقلية.
مفاهيم نص كانط
- قيمة مبتذلة: قيمة استعمالية مشروطة بالمنفعة، كالتي نضفيها على المواضيع والأشياء.
- القيمة: قيمة الشيء في اللغة قدره، وقيمة المتاع ثمنه، وتطلق على كل ما هو جدير باهتمام المرء وعنايته لاعتبارات اقتصادية أو سيكولوجية أو اجتماعية او أخلاقية أو جمالية.
- ملكة الفهم: (1)حسب سياق النص، إحالة على قدرات الذهن المعرفية التي يقوم بها العقل النظري، كربط المحسوسات بالمعقولات. بعبارة أخرى، (2)وظيفة الذهن التي تتلخص في ربط المحسوسات بعضها ببعض بواسطة المقولات.
- العقل العملي: حسب كانط هو العقل الأخلاقي للذات الانسانية، يحكمه مبدأ الواجب كمصدر للمبادئ والقواعد الأخلاقية القبلية الموجهة للسلوك الانساني بما ينسجم ومبدأ الخير الأسمى.
- الكرامة: هي جوهر الذات الأخلاقية ومصدر شعورها بكونها ذات متميزة تستوجب التقدير والاحترام بوصفها غاية في ذاتها وليس وسيلة.
الأفكار الجزئية لنص كانط
- الإنسان باعتباره ظاهرة من ظواهر الطبيعة (الخصائص الجسمانية كالقوة والجمال) أوكحيوان عاقل ( لفظ حيوان مرادف للكائن الحي)، ليست له إلا قيمة مبتذلة (نفعية)؛
- إذا كان الإنسان ككائن عاقل، يسمو على جميع الكائنات الأخرى، وقادرا على تحديد غايات لنفسه، فهو مع ذلك لا يكتسب إلا قيمة خارجية نفعية مادام قابلا للمفاضلة والتقييم بسعر، أو يتخذ كوسيلة لتحقيق غايات الآخرين؛
- إذا اعتبرنا الانسان ذاتا لعقل أخلاقي عملي، سنجده يتجاوز كل سعر، وسنقدره باعتباره غاية في ذاته، مادام يمتلك كرامة الشيء الذي يرغم كل الكائنات الآخرى على احترام ذاته، ويتبادل معها الاحترام ذاته على أساس المساواة.
- لا ينبغي للشخص ان يبحث عن غايته بطريقة منحطة، ولا ينبغي عليه ان يتخلى عن كرامته، بل يجب عليه أن يحافظ على الخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي (يملك كرامة تستوجب معاملته كغاية في ذاته…)
أطروحة إمانويل كانط : للشخص قيمة مطلقة يستمدها من ذاته
يمتلك الشخص قيمة مطلقة يستمدها من ذاته الأخلاقية وعقله العملي وكرامته، فهو ذات وليس موضوع، وغاية في ذاته وليس وسيلة. هذا ما يفرض النظر إلى الشخص كذات واجبة التقدير والاحترام، والتعامل معه بنظرة أخلاقية تراعي جانبه الانساني وكرامته كقيمة مطلقة.
«تنظر الفلسفة الأخلاقية الكانطية إلى الشخص باعتباره كائن عاقل وأخلاقي، يحتل مكانة سامية ومرتبة عليا في الوجود. وعلى خلاف مواضيع الطبيعة التي لا تملك إلا قيمة نسبية مشروطة بالمنفعة، يمتلك الشخص قيمة مطلقة يستمدها من ذاته الأخلاقية وعقله العملي وكرامته، فهو ذات وليس موضوع، وغاية في ذاته وليس وسيلة. هذا ما يفرض النظر إلى الشخص كذات واجبة التقدير والاحترام، والتعامل معه بنظرة أخلاقية تراعي جانبه الانساني وكرامته كقيمة مطلقة. يقول “كانط” : “تصرف على نحو تعامل معه الانسانية في شخصك، كما في شخص غيرك، دائما وأبدا، كغاية وليس مجرد وسيلة” »
مناقشة قضية الشخص بوصفه قيمة
أطروحة جورج غوسدورف | قيمة الشخص في انفتاحه وتضامنه مع الآخرين
يربط غوسدورف قيمة الشخص بالواقع، ويرى أن الشخص يستمد قيمته من أشكال التضامن الانساني والمشاركة الاجتماعية والانفتاح على الغير، وهكذا فقيمة الشخص تنبع من خارج الذات، ومشروطة بالمشاركة مع الآخرين في إطار الحياة الاجتماعية كمجال للتعبير عن الأخلاق الفعلية للشخص.
خلافا للتصور الكانطي المثالي الذي يحصر قيمة الشخص في ذاته وعقله الأخلاقي، سعى غوسدورف إلى ربط هذه القيمة بالواقع، حيث يرى أن قيمته لا تتحدد في مجال الوجود الفردي المنغلق على الذات والمعزول عن المجتمع، بل يستمدها من أشكال التضامن الانساني والمشاركة الاجتماعية والانفتاح على الغير، ولذلك فإن الأخلاق الملموسة هي التي تجعل الشخص يخرج من ذاته اتجاه العالم والآخرين، يشترك معهم ويتضامن، ومنه فقيمته لا تتحدد إلا بالانفتاح على الآخرين والمشاركة معهم، حيث يؤمن بأن الحياة منح وعطاء بقدر ما هي أخذ. وهكذا فقيمة الشخص تنبع من خارج الذات، ومشروطة بالمشاركة مع الآخرين في اطار الحياة الاجتماعية كمجال للتعبير عن الأخلاق الفعلية للشخص.
نص جون راولز John Rawls | قيمة الشخص في انفتاحه وتعاونه والتزامه
«إن نظرية العدالة كإنصاف، تنطلق من فكرة وجوب النظر إلى المجتمع كنظام للتعاون المنصف، وتتبنى تصورا للشخص ينسجم مع هذه الفكرة. فمنذ اليونان، فهم الشخص باعتباره ذلك الكائن القادر على المشاركة في الحياة الاجتماعية، أو على لعب دور معين، ومن ثم توفره على قدرة التأثير واحترام مختلف الحقوق والواجبات. وبهذا المعنى نقول إن الشخص مواطن، أي أنه عضو اجتماعي كامل النشاط عبر كل حياته …...
« يرى جون راولز من منطلق “نظرية العدالة كإنصاف”، بأن الشخص كائن عاقل، اجتماعي، أخلاقي وحر، وهو مواطن له حقوق وعليه واجبات، قادر على المشاركة في الحياة الاجتماعية، وعلى لعب دور معين، ويتوفر على قدرة التأثير والتأثر، ومنه فقيمة الشخص تتأسس على كفاءاته العقلية والأخلاقية التي تجعله كامل العضوية داخل المجتمع كنظام للتعاون المنصف، تلك الكفاءات التي يُفعلها ويشارك بها في الحياة الاجتماعية بما يضمن التعاون مع الآخرين وفق مبدأ الخير لذاته، إذن فقيمة الشخص، في انفتاحه وتعاونه والتزامه».
أما راولز فهو من “منطلق نظرية العدالة كإنصاف”، يرى أن الشخص يستمد قيمته من المجتمع الذي يوجد فيه، وتحديدا المجتمع الديموقراطي كنظام للتعاون المنصف، باعتباره عضوا اجتماعيا كامل النشاط عبر كل حياته، ومواطن حر، ذو كفاءات عقلية وأخلاقية، يجسد قيم التعاون والمشاركة الاجتماعية بلعب دور معين، واحترام مختلف الحقوق والواجبات، وتملك حس للعدالة وتصور معين للخير. إذن فقيمة الشخص، في انفتاحه وتعاونه والتزامه.
أطروحة إضافية بصيغة أخرى (…)
يرى “جون راولز” من منطلق نظرية العدالة كإنصاف، بأن الشخص مواطن له حقوق وعليه واجبات، قادر على المشاركة في الحياة الاجتماعية ولعب دور معين، ومنه فقيمته تتأسس على كفاءاته المعرفية والأخلاقية التي تجعله كامل العضوية داخل المجتمع كنظام للتعاون المنصف، تلك الكفاءات التي يفعلها ويشارك بها في الحياة الاجتماعية بما يضمن التعاون مع الآخرين وفق مبدأ الخير لذاته.
أطروحة إمانويل مونيي E.Mounier قيمة الشخص في وعيه وكرامته وحريته
«في نفس سياق التصور الكانطي ينظر “إمانويل مونيي” إلى الانسان من حيث هو شخص، لا من حيث هو موضوع، فإذا كان الانسان يشترك في الكينونة ( أي الوجود) مع الأشياء والحيوانات، فهو يتميز عنها بالشخصنة (اكتساب مزايا شخصية بشكل مستمر) أي بكونه شخصا، والشخص لا يكون كذلك إلا إذا تميز بالوعي والإرادة والتجاوز، أي تجاوز مستوى الوجود المادي الحيواني، فهو ليس وسيلة أو أداة بل هو قيمة مطلقة يتطلع إلى ذاته عن طريق إبداع شروط وجود متميز باعتباره وعي وكرامة وحرية»
أطروحة هيجل Hegel قيمة الشخص في انخراطه في روح شعبه
« إن الشخص كما حدده كانط بالرغم من قيمته الأخلاقية، يظل سجين نظرة تجريدية لا تأخذ بعين الاعتبار الشروط الواقعية التي يعيشها الشخص، من هنا يرى هيجل أن الشخص يكتسب قيمته الأخلاقية من انفتاحه على الآخرين، ومن ضرورة امتثاله للواجب وانخراطه في روح شعبه من خلال تبني قيمه الحضارية وأخلاقياته العامة. فكل شخص وحسب المكانة التي يحتلها في المجتمع، مطالب بالمشاركة والمساهمة في الروح العامة للشعب، وبالقيام بدوره والمهام التي أسندت إليه، وبفعل هذا الانخراط تذوب ذاتية الفرد لكي يصبح وجوده تشاركيا »
تركيب قيمة الشخص:
وفي سياق تناول الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية لطبيعة قيمة الشخص، يتبين من جهة أن الانسان يوجد كذات أخلاقية حاملة لقواعد وقيم ومبادئ أخلاقية تعتبر مصدرا لقيمة الشخص، وهو الأمر الذي يمنح الانسان قيمة مطلقة بغض النظر عن كل اختلافاته (الجنس، اللون، العرق، الانتماء الطبقي والجغرافي والديني…) . كما يتبين من ناحية أخرى ان الانسان يوجد أيضا كذات اجتماعية تشارك في الحياة الاجتماعية بتجسيد قيم التعاون والتضامن والغيرية والانفتاح على الواقع المعيش والمشترك بشكل فعلي ملموس، مما يعني أن قيمة الانسان تتحدد بالوضع الاجتماعي والواقعي.