قضايا فكرية و فلسفية

  • مقالة في نقد النظرية الماركسية

    أولًا: نقد الماركسية من حيث هي نظرية علميةفي نقد وتقويم النظرية الماركسية نجدُ أن أول ما يَلفت النظر فيها دونًا عن سواها من نظريات اشتراكية، هو الزعم بأنها نظرية علمية.فقد جاء ماركس في عصره الذي بلغ حد الثَّمَل والدوار في الانتشاء بالعلم، وطرح نظريته بوصفها نظرية علمية، وسوف نرى أنها ليست علمية ولا يُمكِن أن تكون هكذا، أو أنها على أوسع الفروض تُحاوِل أن تتمسَّح بالعلم وأن يكون لها الشكل العلمي، ولكنها في حقيقة الأمر ليست من العلم في شيء.فأولًا: منهج ماركس مُضطرِب غامض مُبهَم، حتمي وتنبُّؤي وقطعي وجدلي في الوقت نفسه. لقد صارَح بأنه يعتمد على الجدل؛ والمنهج الجدلي والمنهج العلمي مُتضادَّان لا يُمكِن أن يلتقيا؛ فالجدل يحذف قانون عدم التناقُض وينتقل من الفكرة إلى نقيضها إلى مُركَّب يجمع بينهما أي يُقِر بهما معًا، والعلم لا يسمح بهذا، ومن غير المعقول البتة أن ننتظر من كل قضايا العلم أن تكون جدلية. السمة المُميِّزة للمنهج العلمي هي حذف القضية التي ثبت خطؤها وإحلالها بأخرى أكثر منها صوابًا، بغير مُبرِّر للبحث عن نقيضها فضلًا عن مُركَّب من القضية ونقيضها، ثم إن عالَم العلم كمي، والكمية مُجرَّد عناصر موجودة معًا، أي أنها نقيض الوحدة الجدلية. العلم لا يعنيه البتة الانتقال من الكم إلى الكيف، كما يُؤكِّد الجدل.وفضلًا عن هذا نجدُ أن مِصداق الخَلل المنهجي قد أتى من الوقائع التاريخية التي حدثت فكذَّبت كل تنبُّؤات ماركس تقريبًا، مما يعني أن النظرية ذاتها كاذبة؛ وبالتالي ليست الشيوعية حتمًا مَقضيًّا كما وعدتنا:(أ) تنبَّأ ماركس بأن طبقة البروليتاريا سوف تزداد زيادة غير محدودة، وتنكمش طبقة أصحاب رءوس المال انكماشًا غير محدود، وهذا لم يحدث أبدًا؛ فقد تعقَّد اتجاه الصناعة وتغيَّر في حالات كثيرة، وأصبحت تعتمد على الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات والكومبيوتر أكثر من اعتمادها على العُمال. زادت أهمية المَهارة الكيفية للعامل عن أهمية العدد الكمي للعُمال، وبدلًا من أن تزداد البروليتاريا، ظهرت طبقة ثالثة لم يَلتفت إليها ماركس بحكم طبيعة عصره، وهي طبقة المهندسين والعلميين والفنيين والمحاسبين والإداريين … ودورها في عملية الإنتاج أهم من دور البرجوازية ومن دور البروليتاريا.ب)كذبتْ أيضًا نبوءة ماركس القائلة إن الطبقات سوف تُختصر إلى طبقتَي البرجوازية والبروليتاريا؛ لم يحدث هذا وليس من المُحتمَل أن يحدث، ومهما تقدَّمت الصناعة لن تختفي طبقة المُزارِعين بالذات، ولن تنضم إلى البروليتاريا، وتظل الحياة الريفية مُتميِّزة بطابعها المُعيَّن. ويُمكِن القول إن تاريخ الاشتراكية في أواخر القرن العشرين هو في أحد جوانبه تاريخ الصراع بين الحركة البروليتارية وبين طبقة الفلاحين. لقد عالج ماركس الإنتاج الزراعي بسطحية بالغة، الأمر الذي كلَّف خمسة ملايين من الفلاحين الروس أن يموتوا أو يُرحَّلوا حتى يتحقَّق نظامه.(جـ)تنبَّأ ماركس بأن انتصار البروليتاريا ومَجيء الشيوعية سوف يتبعه حتمًا المجتمع اللاطبقي، وليس هذا محتومًا، لا نظريًّا ولا تطبيقيًّا؛ نظريًّا، سوف يتَّحد البروليتاريون ليُواجِهوا البرجوازيين، ولنفترض أنهم انتصروا وابتلعت البروليتاريا البرجوازية، فلن يعود أمامها خطر تخشاه وتتَّحد لتُواجِهه، بل الأدنى إلى المعقول أن الصراعات والمشاكل الخاصة بالبروليتاريا ستنشأ داخلها فتُقسِّمها إلى طبقات من جديد، ثم إنه في حالة انتصارها سوف يقفز إلى السُّلطة قادة الحركة الثورية ويُشكِّلون طبقة الحُكام الجُدد في المجتمع الجديد. إنه مُجرَّد نوع جديد من الأرستقراطية والبيروقراطية. هذا ما تحقَّق في المجتمعات الشيوعية، ولُوحِظ البَون الشاسع بين طبقة الحُكام وطبقة المحكومين.(د)تنبَّأ ماركس بأن تراكُم فائض القيمة سوف يُؤدِّي إلى زيادة بؤس العُمال، زيادة في شدته أي في شدة بؤس العامل الواحد، وزيادة في مَداه أي بؤس عدد أكبر من العُمال؛ وأكَّد ماركس أن البؤس مادي وأيضًا معنوي، فاستغراق العامل في عمله الشاق الذي يغترب عنه من شأنه أن يزيد من بلاهة العامل ومن تشويه قُواه العقلية.فهل حدث هذا؟ وهل زادت بلاهة العمال؟ كلا بالطبع، بل العكس تمامًا هو الذي حدث؛ جزء من فائض القيمة الآن يُستغل في إقامة مجتمعات سكنية ونوادٍ اجتماعية ورياضية وأنشطة ترفيهية للعمال. تطوَّرت النُّظم التربوية الحديثة، وأصبح التعليم حقًّا لكل مُواطِن، برجوازي أو بروليتاري. وتفجَّرت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تشُد الطبقات كلها في اللحظة نفسها للمادة الإعلامية الواحدة، ثم أتت ثورة المعلومات العظمى وثورة الإنترنت التي جعلتها مُتاحة للجميع بكبسة زر.هـ)تنبَّأ ماركس بأن الشيوعية ستبدأ في أكبر الدُّوَل المُتقدِّمة تكنولوجيًّا، وبالذات إنجلترا وألمانيا، والذي حدث هو عكس هذا تمامًا؛ فقد تحقَّق أول انقلاب شيوعي في دولة كانت مُتخلِّفة تكنولوجيًّا، هي روسيا التي استبعدها ماركس تمامًا على الرغم من علاقته بالمُفكِّر باكونين (١٨١٤–١٨٧٦م) مُمثِّل الفكر الاشتراكي في البرجوازية الروسية، وأعقبت روسيا دولة أكثر تخلُّفًا هي الصين. وفي الربع الثالث من القرن العشرين توالت انقلابات شيوعية في دولة مُتخلِّفة كاليمن الشمالية وأفغانستان.(و)تنبَّأ ماركس باضمحلال الرأسمالية وبالتالي مَجيء الشيوعية لتحُل مَحلها، ولكن الرأسمالية التي عرفها ماركس وحلَّلها هي رأسمالية عدم التدخُّل، أي الرأسمالية الحرة حريةً مُطلَقة والتي لا تسمح بأي تدخُّل أو فرض قيود؛ فحتى لو تدخَّلت الدولة فهي — تبعًا لنظرية ماركس — أداة البرجوازية ولن تتدخَّل إلا لحمايتها والإبقاء عليها. والأمر الواقع الذي كذَّب نبوءة ماركس هو أن مثل هذه الرأسمالية اختفت تمامًا فعلًا، ولكن لم تكُن الاشتراكية هي البديل الوحيد الذي حل مَحلها دائمًا. في مُعظَم البلدان حل نظام الرأسمالية الخاصة المُقيَّدة، أو نظام مُختلَط يجمع بين المِلكية الخاصة والمِلكية العامة، وحتى في أكثر الدُّوَل رأسماليةً تتدخَّل الحكومات بإرشاد والتوجيه والتخطيط والتحريم والإلزام، ومنح التسهيلات ورفع الجمارك والضرائب، وحماية حقوق العُمال وشملهم بالضمانات والتأمينات الاجتماعية والمَعاشات والتأمين ضد البطالة، بل أصبح للعُمال حق الإضراب عن العمل وإجبار أصحاب رءوس المال على رفع أجورهم.ثانيًا: نقد الماركسية من حيث هي نظرية فلسفيةانتهينا من نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية، أي بوصفها نظرية ذات مضمون معرفي ومُحتوًى إخباري عن الواقع، يُمكِننا من التنبُّؤ بمُقبِل أحداثه، واتَّضح أنها حاولت أن تكون علمية ففشلت، وعلينا الآن أن نُناقِشها على الأرض التي بقيت لها، أي من حيث هي نظرية فلسفية.إذا كان النقاش أو بالأحرى الاختبار العلمي التجريبي يعتمد أساسًا على الواقع والوقائع، فإن النقاش الفلسفي لا يُعوِّل كثيرًا على هذا. ليس يحُط من قدر النظرية الفلسفية أنها لا تنطبق على هذا العالم الفَج المُضطرِم؛ فالفلسفة سوف تُعنى دائمًا بتصوُّر ما ينبغي أن يكون، وربما تترك ما هو كائن للعلم.لكن ما هو إذن مِعيار النقاش الفلسفي والحكم على مَنازل النظريات الفلسفية؟ المِعيار الفلسفي يتكوَّن عادةً من شقَّين؛ الأول هو الاتِّساق أي اتِّساق النظريات مع نفسها ومُسلَّماتها وقواعد منهجها، ومع مقولات المَنطِق ومقولات التفكير بعامة. أما الشق الثاني فهو قوة البرهنة والتدليل، فليس يجوز في الفلسفة إلقاء القول على أعِنته وفرض الفروض جزافًا، ولا يحِق البتة للفيلسوف أن يطرح قضية ليست بديهية واضحة بذاتها ويطلب منا التسليم بها، ما لم يكُن قد أتى بالمُسوِّغات الكافية والبراهين المُثبِتة لها. وحين نُناقِش الماركسية من هذا المنظور سنجدُ أنها وقعت في تناقُضات كثيرة وزلَّت قدمها في مَواطن عدة.فأولًا: تعتمد الماركسية على الزعم بالحتمية التاريخية، أي القول إن التاريخ يسير في مَسار محتوم يُمكِن قَولبته في مَراحل أو أنماط أو إيقاعات — هي مع ماركس مَراحل جدلية — ومن ثَم يُمكِن التنبُّؤ به؛ وهذه فكرة قديمة وعتيقة، معروفة منذ أيام هيزيود وهيراقليطس وأفلاطون وفكرة اليهود عن مَآل شعب الله المُختار، ولم تنقطع أبدًا من تاريخ الفلسفة، وظلَّت مُستمِرة حتى يومنا هذا، مع فيكو وبوسويه وكوندرسيه وهيجل وشبنجلر وتوينبي … وغيرهم؛ وعلى الرغم من هذا ومن مرور عشرات القرون من عمر البشرية، لم نجدْ لها دليلًا واحدًا مُؤيِّدًا أو برهانًا مُثبِتًا، فضلًا عن انهيار دعاوى الحتمية تحت مَعاول العلم المعاصر، مَعاول النسبية والكوانتم، فلماذا يتصوَّر ماركس أن العلم الاجتماعي بالذات هو القادر على تحقيق حلم العهود القديمة بالكشف عما يُخبِّئه لنا المستقبل؟ وأن يحُل مَحل الكهنوت وإنجيل العهد القديم في التنبُّؤ بمَسار التاريخ ومَآل البشر؟ ولما كانت نبوءات ماركس لم تتحقَّق، كان هو إذن نبيًّا زائفًا.ثم إنها — أي حتمية ماركس التاريخية — جعلته يتناقض مع نفسه ومع قوله الشهير: مَهمَّة الفيلسوف تغيير العالم لا فهمه. فإذا كان التاريخ مُحدَّدًا سلفًا بحتمية قاطعة، فكيف يُمكِن التغيير؟إن التغيير سوف يقتصر على التعجيل بمَجيء المجتمع الشيوعي الآتي حتمًا، وليس هذا تغييرًا حقيقيًّا؛ كل ما فعله ماركس أن وضع أمامنا بديلَين؛ إما أن يبقى العالم طويلًا في فوضى ونزاع وصراع، وإما أن يتَّحد العُمال ليُقيموا ثورة دموية تُعجِّل بمَجيء الشيوعية، وبالطبع ليس من المعقول أن يختار أحد الاحتمال الأول، هذا بالإضافة إلى الوسائل الدعائية الإعلامية اللاعقلانية لدرجة تمجيد العنف الذي أحاط بها ماركس الاحتمال الثاني. لقد كان ماركس مُتناقِضًا مع نفسه بوصفه فيلسوفًا عقلانيًّا حين مجَّد العنف والحرب الأهلية التي قد تُؤدِّي إلى دمار وخراب شامل، وإلى التضحية بجيل الثورة من أجل أجيال لم تأتِ بعد، بل ومن أدرانا أن العنف سوف يتمخَّض عن صالح هذه الأجيال المُقبِلة؟! الأدنى إلى المعقول أن يُؤدِّي إلى ضياع الحرية وإلى حكم لا يُسايِر العقل، حكم الرجال الأقوياء قادة الثورة الناجحين. ثم إن قهر الطغيان بالعنف يُؤدِّي إلى طغيان آخر، كما بيَّنت الانقلابات التي كانت تحدث كل يوم في البلدان النامية.ولما كانت الحتمية تُلغي أي دور للإرادة الإنسانية، كانت حتمية ماركس تجعله يتناقض أيضًا مع نفسه من زاوية أخرى، مع قوله الشهير: «يا عُمال العالم اتَّحِدوا!» لكي يُخطِّطوا للثورة؛ فاتِّحاد البروليتاريا من أهم المُقدِّمات الأساسية التي استنبط منه حتمية مَجيء الشيوعية.غير أن الحتمية التاريخية — كما هو معلوم بعامة وكما يُؤكِّد ماركس بخاصة — تعني أن مَسار التاريخ مُستقِل عن إرادة الإنسان؛ فهو محكوم فقط بعلاقات الإنتاج، ولكن ليس هناك اتِّحاد وتخطيط من دون تدخُّل عنصر الإرادة المُوجِّهة، فضلًا عن أن الاتِّحاد يعني العقل والصحوة، والعقل المُخطِّط المُدبِّر؛ وإذا تذكَّرنا أن هذا سيأتي نتيجة لتفاقُم بؤس العُمال وازدياد بلاهتهم وتشويه قُواهم العقلية، أدركنا كيف تناقَض ماركس في تنظيره للثورة الاجتماعية.ثم إنه رأى أن أية ثورة اجتماعية ستُؤدِّي بالضرورة إلى الشيوعية أو بالأحرى تُعجِّل بها، وليس هذا صحيحًا، فمثلًا ثورة إيران لم تُؤدِّ إلى الشيوعية.وماركس له نظرية أخلاقية، خلاصتها أن ثَمة نمَطَين للأخلاق، أحدهما في صالح البرجوازية يُؤدِّي إلى حفاظ على الوضع القائم عن طريق تمجيد المِلكية والتفاوت الطبقي (الأخلاق اليمينية)، والنمط الأخلاقي الآخر في صالح البروليتاريا يُمجِّد التقارب الطبقي وساعات العمل القليلة لمَزيد من الحرية ونبذ المِلكية وتراكُم فائض القيمة (الأخلاق اليسارية). ويُؤكِّد ماركس على قضية مَفادها أن كل بورجوازي يعتنق القيَم البرجوازية اليمينية، وكل بروليتاري يعتنق القيَم البروليتارية اليسارية، وليس هذا صحيحًا دائمًا، وماركس نفسه برجوازي لكنه يعتنق القيَم الاشتراكية مثله في هذا مثل كثير من أنصار الاشتراكية نظريًّا وتطبيقيًّا. وهذا الحكم الماركسي تعميم بغير مُبرِّر لتأثير الوضع الاجتماعي على قيَم الإنسان، والإنسان ليس نتاجًا لطبقته فقط كما يزعم ماركس؛ فثَمة مُؤثِّرات عديدة تُشكِّل شخصية الإنسان وقيَمه.إن التفسيرات الماركسية دائمًا تعميم لجانب واحد وإغفال لبقية الجوانب؛ فكيف يُتصوَّر أن الاقتصاد هو المُؤثِّر الوحيد على حركة التاريخ؟! والواقع أن هناك عوامل أخرى لها تأثير أقوى، كالدِّين الذي ظل العامل الأساسي لنشأة الحضارات وازدهارها وأُفولها وقيام الإمبراطوريات وسقوطها طَوال العصور الوسطى، وكالعلم وهو السبب الأساسي للثورة الصناعية التي أدَّت إلى بؤس العُمال وأيضًا إلى الاستعمار.وكما أوضح كارل بوبر، العلاقات مُتداخِلة بين الظروف الاقتصادية وبين المعرفة، ويستحيل أن نرجع الأولى ( الظروف الاقتصادية) ببساطة إلى الثانية ( المعرفة). وإن كان يُمكِن أن نُرجِّح كِفة الأولى على الثانية؛ فلو تحطَّمت كل وسائل الإنتاج وبالتالي انتهت علاقاته، وبقيَت لدينا المعرفة، لأمكنَنا أن نُقيم الحياة الاقتصادية ثانيةً. أما لو اختفَت المعرفة تمامًا وجاءت قبيلة بدائية بكل احتياجاتها المادية والاقتصادية، فلن تستطيع أن تُقيم حياة اقتصادية كتلك التي كانت في كنَف معرفة مُتقدِّمة. المعرفة إذن — وليس الاقتصاد — هي العامل الأكثر حسمًا وهي البناء التحتي للحياة الاجتماعية.وبكل هذا الركام من الأخطاء يُشكِّل ماركس أيديولوجية صارمة لمجتمع مُغلَق، أيديولوجيًّا تحدَّد سلفًا أسلوب حل كل المشاكل ومُواجَهة كل المَواقف، فلا يقبل المجتمع أية ديمقراطية ولا تبادُل آراء ولا حتى مُحاوَلة التوصُّل لحل أصيل مرِن لمُشكِلة طارئة.إن الماركسية نظرة كلية، تفترض أنها بضربة واحدة — هي الثورة الدموية — ستقلب التطوُّر التاريخي إلى المرحلة اليوتوبية الشيوعية، التي يتصوَّر ماركس أنها نهاية التاريخ وخاتمة العالم.وعلى هذا نتفهَّم سر دعوى «نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما التي تردَّدت وعلا صِيتها في العقد الأخير من القرن العشرين، فقد كان الاتحاد السوفيتي أقوى وأمضى تمثيل لتطبيق النظرية الماركسية، وتمثيلًا عينيًّا للسير في طريقها؛ وشهد النصف الثاني من القرن العشرين استِعار أُوار الحرب الباردة بين اليمين وتُمثِّله رأسمالية وليبرالية الولايات المتحدة الأمريكية والسائرون في فلكها، واليسار وقد انبرى له الاتحاد السوفيتي والسائرون في فلكه، الزاعمون أن المستقبل ملك لهم، أوَليست الشيوعية آتية لا ريب فيها؟! وعلى حين غِرة انهار الاتحاد السوفيتي، فخرج فرنسيس فوكوياما — المُفكِّر الأمريكي اليميني المُتشدِّد ذو الأصول اليابانية — ليُعلِن أن هذا هو النصر المُؤزَّر لليمين الليبرالي والقضاء المُبرَم على غريمه اليسار الاشتراكي، مما يعني أن نهاية التاريخ لن تكون الشيوعية كما زعم ماركس بل هو تلك الليبرالية والرأسمالية التي تُجدِّد نفسها، والإصلاحات المتوالية.لسنا الآن بصدد مُناقَشة فوكوياما الذي تُثير رؤيته حفيظة العُقلاء؛ لأن التاريخ ببساطة لم ينتهِ بعد، غير أن الإصلاح مثل النقد من الأفضل أن يكون على مَراحل وقائمًا على أساسِ هندسة اجتماعية جزئية تتعامل مع المُؤسَّسات الاجتماعية كلٌّ على حِدة، بالأسلوب الذي يُناسِبها، وليس بأسلوب مُحدَّد سلفًا. الاتجاهات الكلية التي تُريد الإصلاح بضربة واحدة قاصمة فاصلة قد لا تُصلِح شيئًا، وقد تُؤدِّي إلى خراب أو فساد شامل، ثم إن النزعة الكلية الاجتماعية مُستحيلة منطقيًّا، فكل تحكُّم جديد في العلاقات الاجتماعية من شأنه أن يخلق مجموعة جديدة من العلاقات الاجتماعية التي تحتاج هي الأخرى إلى التحكُّم فيها، وهكذا في سلسلة بغير نهاية؛ لذلك أعلن فلاديمير إيلتش لينين القائد السوفيتي المُبرِّز أن الحزب الشيوعي السوفيتي بمُجرَّد أن تولَّى السُّلطة لم يجِد في النظرية الماركسية أية تكنولوجيا اجتماعية أو خُطط للإصلاح الاجتماعي، فكل بحوث ماركس كانت مُكرَّسة لخدمة نبوءاته التاريخية التي فشلت.✍️ ركائز في فلسفة السياسة بقلم يمنى طريف الخولي#نبيل_الجزائري

  • ماهو التنوير؟ إيمانويل كنط

    في عدد شهر دجنبر 1783 من “مجلة برلين الشهرية” نشر راهب من برلين اسمه تسولنر Johann Friedrich Zöllner (1753-1804) ردًّا على مقال سبق أن نشرته نفس المجلة في عدد شتنبر من نفس السنة يدافع فيه كاتب لم يفصح عن اسمه عن الزواج المدني. خصص تسولنر مقاله لانتقاد الزواج المدني والدفاع عن عقد الزواج في الكنيسة، معتبرا أن ذلك من مصلحة الدولة ذاتها؛ إلا أنه في نفس الوقت هاجم الخلط الذي نشأ في أذهان الناس وقلوبهم بصدد مفهوم التنوير. وقد ألحق بمقاله هامشا مستفزا كتب فيه : “ما هو التنوير؟ هذا السؤال الذي يعادل تقريبا في أهميته السؤال: ما هي الحقيقة، يجب الإجابة عنه قبل البدء في التنوير! ومع ذلك فإنني لم أعثر في أي موضع على جواب عنه!”
    هذا السؤال المندس في هامش مقال كتبه راهب بروتستانتي مجهول نسبيا عن قانون الزواج سيكون مثمرا بالنسبة لتاريخ الفلسفة. وهكذا سينشر أولا موسى مندلسزون Moses Mendelssohn (1729-1786) مقالا بعنوان: “حول السؤال: ما معنى التنوير؟” في عدد شتنبر 1784 من نفس المجلة. بعد ذلك سيظهر في عدد دجنبر من نفس السنة مقال كنط الذي يتضمن تعريفه المشهور للتنوير. يتبين من ملاحظة كنط في نهاية المقال أنه لم يكن حين كتابته على علم بمضمون مقال مندلسزون، وإن كان علم بصدور مقال له حول هذا الموضوع من خلال قراءته لجريدة أسبوعية نشرت إعلانا يتضمن محتويات عدد شتنبر 1784 من “مجلة برلين الشهرية”.
    نقدم فيما يلي ترجمة لمقال كنط كما نشر في المجلد 11 من مجموعة مؤلفاته التي نشرتـها دار Surkamp تحت إشراف Wilhelm Weischedel، فرانكفورت، م 1966، ص 53-61.
    ويجب أن أشير إلى أنني اعتمدت في كتابة هذا التقديم وكذلك بعض هوامش الترجمة على الكتيب الذي أصدره Erhard Bahr تحت عنوان “ما هو التنوير؟”، دار النشر Reclam، شتوتجارت 1974، والذي يضم نصوصا لفلاسفة ألمان حول مفهوم التنوير وتعليقات عليها.
    التنوير(1) هو خروج الإنسان من القصور(2) الذي يرجع إليه هو ذاته. القصور هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون قيادة الغير. يكون هذا القصور راجعا إلى الذات إذا كان سببه لا يكمن في غياب الفهم، بل في غياب العزم والجرأة على استخدامه دون قيادة الغير! Sapere aude (3)، تجرأ على استخدام فهمك الخاص! (4) هذا إذن هو شعار التنوير.
    إن الكسل والجبن هما السبب الذي يجعل طائفة كبيرة من الناس يظلون، عن طيب خاطر، قاصرين طوال حياتهم، حتى بعد أن تكون الطبيعة قد حررتهم، منذ مدة طويلة، من كل قيادة خارجية (naturaliter majorennes) (5)، والذي يجعل آخرين ينصبون أنفسهم بسهولة أوصياء عليهم. إنه من المريح جدًّا أن يكون المرء قاصرا. إذا كان لدي كتاب له فهم نيابة عني، وواعظ له ضمير نيابة عني، وطبيب يحدد لي نظام تغذيتي الخ، فإني لن أحتاج إلى أن أجتهد بنفسي. ليس من الضروري أن أفكر ما دمت قادرا على أداء الثمن؛ ذلك أن الآخرين سيتحملون هذا العمل المزعج نيابة عني. أما أن الأغلبية الساحقة من الناس (وضمنهم الجنس اللطيف بأكمله) يعتبرون أن الخطوة نحو الرُّشْد، فضلا عن أنها شاقة، خطيرة جدًّا كذلك، فهذا ما سبق أن دبره أولئك الأوصياء الذين يتحملون الإشراف العام عليهم بطيبوبة تامة. فبعد أن يجعلوا أولا ماشيتهم مغفلة، وبعد أن يحرصوا بعناية على ألا يسمح لـهذه المخلوقات الهادئة بأن تتجرأ على القيام بخطوة واحدة خارج عربة المشي(6) التي حبسوها داخلها، بعد ذلك يبينون لهم الخطر الذي يتهددهم إذا ما حاولوا المشي بمفردهم. صحيح أن هذا الخطر ليس بالذات جد كبير، لأنهم سينتهون بتعلم المشي بعد أن يسقطوا بضع مرات؛ إلا أن مثالا واحدا من هذا النوع يثير الوجل لدى المرء ويردعه عموما عن القيام بمحاولات أخرى.
    إنه إذن لمن الصعب على أي إنسان بمفرده أن يتخلص من القصور الذي أصبح تقريبا بمثابة طبيعة له. بل أكثر من ذلك، إنه غدا يحبه، وهو في الوقت الحاضر عاجز بالفعل عن استخدام فهمه الخاص، لأنه لم يسمح له أبدا بأن يحاول ذلك. إن النُّظُم والقواعد، هذه الأدوات الميكانيكية لاستعمال المواهب الطبيعية، أو قل لسوء استعمالها، هي بمثابة قيود للقصور الدائم. وحتى من خلعها، لن يتمكن من القيام إلا بقفزة غير آمنة فوق أَضْيَق الحُفَر، لأنه لم يتعود على مثل هذه الحركة الحُرَّة. لـهذا السبب، لم يوفق إلا القليلون في أن ينتزعوا أنفسهم من حالة القصور بواسطة مجهودهم الخاص وأن يسيروا مع ذلك بأمان.
    أما أن ينور جمهور(7) ذاته، فهذا بالأحرى ممكن، بل إنه تقريبا أمر محتم إذا كان هذا الجمهور متمتعا بالحرية. ذلك أنه، في هذه الحالة، سيوجد دائما، حتى بين من نصبوا أنفسهم أوصياء على الأغلبية، بعض الذين يفكرون بأنفسهم، والذين، بعد أن يتخلصوا هم أنفسهم من ربقة القصور، ينشرون حواليهم روح تقدير عقلي لقيمة كل إنسان واستعداده لأن يفكر اعتمادا على نفسه. والغريب هنا أن الجمهور الذي سبق أن وضع من قبلهم تحت ربقة هذا القصور، يجبرهم بعد ذلك، هو أيضا، على أن يظلوا تحتها، إذا حرضه على ذلك بعض أوصيائه العاجزين عن التنوير. إلى هذا الحد يكون ترسيخ الأحكام المسبقة مضرا، لأنها في الأخير تنتقم لنفسها من أولئك الذين كانوا هم أنفسهم أو أسلافهم واضعيها. لـهذا، لا يمكن لجمهور أن يبلغ التنوير إلا بِتَأَنّ. فالثورة قد تطيح بالاستبداد الشخصي والاضطهاد المتعطش للمصلحة المادية أو السلطة، ولكن لا يمكن أن تؤدي أبدا إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير (8)، بل فقط إلى استخدام أحكام مسبقة جديدة، مثلما كانت تستخدم القديمة، كشريط موجه (9) للأغلبية التي لا تفكر.
    وإنه من أجل هذا التنوير لا يتطلب الأمر شيئا آخر غير الحرية وبالضبط تلك الحرية الأقل ضررا بين كل ما يندرج تحت هذا اللفظ، أي حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين. إلا أنني أسمع من جميع الجهات صوتا ينادي: لا تُفَكِّرُوا !(10) فالضابط يقول: لا تفكروا، بل قوموا بالتمارين! وموظف المالية: لا تفكروا، بل سددوا المبالغ! ورجل الدين: لا تفكروا، بل آمنوا! (هناك سيد واحد في العالم (11) يقول: فكروا بمقدار ما تريدون وفي كل ما تريدون، لكن أطيعوا.) وهكذا يتم هنا في كل مجال تقييد الحرية. ولكن أي تقييد للحرية يعوق التنوير؟ وأي تقييد لا يعوقه، بل بالأحرى يفيده؟ أجيب: إن استعمال الإنسان لعقله استعمالا عموميا يجب أن يكون دائما حرا، وهو وحده يمكن أن يؤدي إلى تنوير الناس؛ أما استعماله الخصوصي فيمكن غالبا تقييده بصرامة شديدة، دون أن يعوق ذلك بشكل خاص تقدم التنوير (12). أعني بالاستعمال العمومي لعقلنا الخاص ذلك الاستعمال الذي يقوم به شخص ما بصفته رجل فكر (13) أمام جمهور يتكون من عالم القراء بأكمله. أما الاستعمال الخصوصي فأعني به ذلك الذي يمكن أن يقوم به المرء بصفته يتقلد منصبا مدنيا أو وظيفة مدنية ما (14). ذلك أنه من الضروري لبعض الشئون التي تـهم مصلحة الجماعة (15) أن توجد آلية معينة يجب بواسطتها على بعض أعضاء الجماعة أن يتصرفوا فقط بسلبية (16)، حتى يمكن، بفضل توافق تصطنعه الحكومة، أن يتم توجيههم نحو المصالح العامة، أو، على الأقل، منعهم من إتلافها. فهنا بالطبع لا يسمح بالتفكير، بل يجب على المرء أن يطيع. ولكن من حيث إن هذا الجزء من الآلة يعتبر ذاته في نفس الوقت عضوا في جماعة بأكملها، بل وفي المجتمع العالمي، وتبعا لذلك يخاطب، من خلال كتاباته، جمهورا، معتمدا في ذلك على فهمه الخاص، فإنه يمكنه، بلا شك، أن يفكر دون أن تتأثر بذلك الشئون التي عين لتصريفها كعضو سلبي إلى حد ما. وهكذا سيكون من المفسد جدا أن يريد ضابط، خلال أداء عمله، المجادلة جهرا في صواب أو فائدة أمر تلقاه من رؤسائه، بل عليه أن يطيع. ولكن ليس من العدل أن نحرمه، بصفته رجل فكر، من إبداء ملاحظات حول عيوب الخدمة العسكرية وأن يعرض هذه الملاحظات على الجمهور ليحكم عليها. والمواطن لا يحق له أن يمتنع عن أداء الرسوم المفروضة عليه، بل إن طعنا وقحا في هذه المستحقات، إذا كان عليه أداؤها، أمر يجب أن يعاقب عليه بصفته فضيحة (قد يمكن أن تسبب عصيانا عاما). ومع ذلك، فإنه لن يخل بواجبه كمواطن، إذا عبر عموميا، بصفته رجل فكر، عن آرائه حول عيوب هذه المستحقات أو أيضا جورها. وكذلك فإن رجل الدين ملزم بأن يعلم تلامذته وجماعته حسب رمز (17) الكنيسة التي يخدمها، لأنه قد تم تعيينه في هذه المهمة على أساس هذا الشرط. ولكنه يتمتع، كرجل فكر، بكامل الحرية في أن يفضي للجمهور بكل أفكاره المدروسة بعناية والمنبثقة عن نية حسنة حول ما هو خاطئ في ذلك الرمز واقتراحاته الرامية إلى تدبير أفضل للنظام الديني والكنيسي؛ بل وإن هذا يعتبر جزءا من رسالته. وليس في ذلك أيضا ما يمكن أن يسبب له وخز الضمير. ذلك أن ما يلقنه، بناءا على وظيفته كقائم بأعمال الكنيسة، يقدمه لا كشيء يتمتع هو بحرية تقلينه وفق ما يحلو له، بل كشيء عين لتلقينه حسب تعليمات الغير وباسمه. إنه سيقول: تعتنق كنيستنا هذا الرأي أو ذاك؛ هذه هي الحجج التي تستند إليها. ثم إنه يجلب لجماعته كل المنفعة العملية من القواعد التي قد لا يقبلها هو ذاته باقتناع تام والتي تعهد مع ذلك بتدريسها، لأنه ليس من المستحيل تماما أن توجد بين طياتـها حقيقة كامنة، ولأنه على أي حال لا يوجد فيها على الأقل ما يتناقض مع الدين الداخلي. أما إذا كان يعتقد بوجود هذا التناقض، فإنه لن يستطيع القيام بوظيفته بكيفية ترضي ضميره؛ وفي هذه الحالة، سيكون عليه أن يتخلى عنها. إن استعمال المُدَرِّس الموظف لعقله أمام جماعته هو مجرد استعمال خصوصي، لأن هذه الجماعة تبقى مجرد تجمع عائلي حتى وإن كان كبيرا جدا؛ وهو كقسيس ليس حرا في هذا الاستعمال، ولا يحق أيضا أن يكون حرا فيه، لأنه ينفذ مأمورية كلفه بها الغير. وعلى العكس من ذلك، يتمتع رجل الدين في الاستعمال العمومي لعقله، أي بصفته رجل فكر يخاطب الجمهور الحقيقي، أي العالم، بحرية غير مقيدة في أن يستخدم عقله الخاص وأن يتلكم باسمه الشخصي. ذلك أنه من الحماقة التي تؤدي إلى تأبيد الحماقات أن يكون أوصياء الشعب (في الأمور الدينية) هم أنفسهم قاصرين أيضا.

    ولكن ألا ينبغي أن تتمتع هيئة من رجال الدين، مجمع كنسي مثلا، أو طبقة مبجلة (كما تسمى لدى الهولنديين (18) بالحق في أن يلتزم أعضاؤها فيما بينهم قسما برمز معين غير قابل للتغيير، حتى يمارسوا، بل ويؤيدوا وصاية عليا دائمة على كل الأعضاء، وبواسطة هؤلاء على الشعب، أقول: إن ذلك غير ممكن تماما. إن مثل هذا التعاقد على منع كل استمرار في تنوير الجنس البشري هو باطل تماما، حتى وإن تم تأكيده من قبل السلطة العليا، من قبل برلمانات ومعاهدات السلم الأكثر رسمية. لا يمكن لعصر أن يتحد ويتفق على جعل العصر اللاحق في حالة تمنعه من توسيع معارفه (خاصة الملحة جدا) والتخلص من الأخطاء، وعموما التقدم في التنوير. فذلك سيكون جناية في حق الطبيعة البشرية التي تكمن غايتها الأصلية في هذا التقدم بالضبط. وإن للخلف الحق كل الحق في أن يرفض تلك القرارات وأن يعتبرها غير مشروعة وطائشة. إن محك كل ما يمكن إقراره على شعب كقانون يكمن في السؤال: هل يمكن لشعب أن يفرض على ذاته مثل هذا القانون؟ قد يكون هذا القانون ممكنا خلال زمن وجيز محدد لإرساء نظام معين، وذلك، إذا جاز التعبير، في انتظار قانون أفضل، على شرط أن تترك في نفس الوقت لكل واحد من المواطنين، وخاصة لرجل الدين، حرية أن يبدي عموميا، بصفته رجل فكر، أي من خلال كتابات، ملاحظاته على ما هو خاطئ في التنظيم الحالي؛ وفي أثناء ذلك يبقى النظام الذي تم إرساؤه قائما، إلى أن يبلغ فهم طبيعة الأشياء عموميا درجة متقدمة وأن تثبت صلاحيته إلى حد يسمح بأن يرفع للعرش بواسطة جمع الأصوات ( حتى وإن لم تكن كلها) اقتراح يرمي إلى حماية تلك الجماعات التي اتفقت مثلا انطلاقا من تصورها لفهم أفضل للأشياء، على تنظيم ديني مخالف، وذلك دون المساس بالجماعات التي تريد ترك الأمر على ما هو عليه. إنه من غير المشروع بتاتا الاتفاق، ولو خلال مدة حياة إنسان واحد فقط، على نظام ديني ثابت لا يمكن الشك فيه عموما، وبالتالي القضاء، إذا صح التعبير، على حقبة في مسيرة البشرية نحو التحسن، وجعلها غير مثمرة، بل وبسبب ذلك مضرة بالخلق. نعم، يمكن لإنسان أن يرجئ التنوير فيما ينبغي عليه معرفته، أما التخلي عنه، سواء بالنسبة لشخصه، أو أكثر من ذلك، بالنسبة للخلف، فهو خرق للحقوق المقدسة للإنسانية ودوس عليها بالأقدام. والحال أنه لا يحق للملك أن يقرر على شعبه ما لا يحق حتى لـهذا الأخير أن يقرره على ذاته، لأن نفوذه التشريعي يقوم بالضبط على أنه يوحد في إرادته الإرادة الشعبية بأكملها . وإنه إذا حرص فقط على أن يكون كل إصلاح حقيقي أو مفترض ملائما للنظام المدني، فيمكنه، فيما عدا ذلك، أن يترك رعاياه يقومون بما يرونه ضروريا من أجل خلاص نفوسهم؛ فإن ذلك ليس من مهامه، ولكن من مهامه بالفعل أن يحول دون أن يستعمل شخص العنف لمنع شخص آخر من العمل لغاية خلاص نفسه والتقدم في تحقيقه بكل ما يملك من مقدرة. إن تدخله في ذلك الأمر بممارسة المراقبة الحكومية على الكتابات التي يعمل رعاياه من خلالها على توضيح تصوراتهم، سينال من جلالته ذاتها، سواء أقام بذلك انطلاقا من تصوره الخاص الأسمى، فيعرض ذاته في هذه الحالة لمأخذ هو : Caesar non est supra Grammaticos (19)، أو وهو ما سينال من جلالته بكيفية أكبر بكثير، إذا ما أنزل سلطته العليا إلى حد دعم الاستبداد الديني الذي يمارسه بعض الطغاة في دولته ضد بقية رعاياه. والآن إذا تساءلنا والحالة هذه : هل نعيش حاليا في عصر متنور؟ فسيكون الجواب : لا، ولكن نعيش بالتأكيد في عصر للتنوير. ففي الوضعية الراهنة للأشياء لا زال ينقص الكثير عموما، لكي يكون الناس في حالة تسمح لهم بأن يستخدموا، في الأمور الدينية، فهمهم الخاص بكيفية آمنة وجيدة، دون قيادة الغير، بل لا زال ينقص الكثير حتى لكي يصبح من الممكن نقلهم إلى هذه الحالة. ولكن، في مقابل ذلك، هناك علامات واضحة على أن المجال مفتوح أمامهم الآن حتى يهيئوا أنفسهم بحرية لتحقيق ذلك، وعلى أن عوائق التنوير العام، أو الخروج من القصور الذي يرجع إليهم، تتناقص تدريجيا.
    إن الملك الذي لا يرى من المشين به أن يقول بأنه يعتبر من الواجب ألا تفرض على الناس تعليمات في الأمور الدينية، بل أن تترك لهم في تلك الأمور الحرية التامة، والذي يدفع عن نفسه إذن حتى الاسم المترفع للتسامح، هو ذاته متنور، ويستحق أن يمدح من قبل كل من يعترف بالجميل في العالم وفي الأجيال اللاحقة بصفته أول من حرر الجنس البشري، على الأقل من جانب الحكومة، من القصور، وترك لكل شخص حرية استخدام عقله في كل الأمور التي تعود إلى الضمير تحت إمرة هذا الملك، يحق لرجال دين محترمين، دون مساس بواجبات وظيفتهم، أن يعرضوا على أنظار العالم، بصفتهم رجال فكر، بكيفية حرة وعمومية، أحكامهم وآراءهم التي تختلف ، في هذه النقطة أو تلك، عن الرمز الذي ينتمون إليه؛ ويحق ذلك أيضا، وبالأخرى، لكل شخص غير مقيد بواجبات أية وظيفة. إن روح الحرية هذه تنتشر أيضا خارج هذا المجال، حتى حيث يكون عليها أن تواجه عوائق خارجية تفرضها حكومة تسيء فهم دورها. إن ذلك يصلح كمثل يدل على أنه ليس هناك ما يخشى على الأمن العام ووحدة الجماعة في ظل الحرية. إن الناس يخلصون أنفسهم من تلقاء أنفسهم أكثر فأكثر من الخشونة، ما لم يتم العمل عمدا على تركهم في هذه الحالة.
    لقد وضعت النقطة الرئيسية للتنوير، أي لخروج الإنسان من القصور الراجع إليه هو ذاته، في الأمور الدينية أساسا، لأن حكامنا ليس لهم أية مصلحة في أن يلعبوا دور الوصاية على رعاياهم في مجال الفنون والعلوم؛ وفوق هذا، فإن ذلك القصور، فضلا عن أنه الأكثر ضررا، فإنه أيضا الأكثر مساسا بالكرامة. ولكن نمط تفكير عاهل يشجع التنوير يذهب إلى أبعد من ذلك، فيرى أنه حتى في مجال التشريع، ليست هناك خطورة في أن يسمح لرعاياه باستعمال عقلهم الخاص استعمالا عموميا، وأن يعرضوا على العالم علنا أفكارهم حول شكل أفضل لـهذا التشريع، حتى وإن تضمنت نقدا صريحا للتشريع القائم. ولدينا على ذلك مثال ساطع لم يسبق فيه أي ملك ذلك الملك الذي نجله.

    ولكن من جهة أخرى، يمكن فقط لمن هو متنور لا يخاف الظلال والذي يتوفر في نفس الوقت على جيش وافر العدد ومحكم التنظيم لضمان الأمن العام، أن يقول مالا يمكن أن تتجرأ جمهورية على قوله : فكروا بمقدار ما تريدون وفي كل ما تريدون؛ ولكن أطيعوا! هكذا يتجلى هنا، وكذلك في مجالات أخرى، مسار غريب وغير منتظر للأمور البشرية، إذا لاحظناه في عموميته، بدا لنا أن كل شيء فيه تقريبا يحمل طابع المفارقة. إن قدرا أكبر من الحرية المدنية يبدو أنه مفيد لحرية روح الشعب، ومع ذلك، فإنه يضع أمامها حواجز لا يمكن تخطيها؛ وعلى العكس من ذلك، فإن قدرا أقل منها يفسح المجال للشعب كلي يتفتح حسب كل مقدرته. إذا كانت الطبيعة قد أخرجت من تحت هذه القشرة السميكة البذرة التي ترعاها بالكيفية الأكثر حنوا، أي الميل والاستعداد للتفكير الحر، فإن هذا الأخير يؤثر بدوره تدريجيا على خلق الشعب (الذي يصبح بذلك شيئا فشيئا أهلا لحرية التصرف)، ويؤثر أخيرا حتى على مبادئ الحكومة التي تجد هي ذاتها من المفيد أن تعامل الإنسان، الذي هو الآن أكثر من مجرد آلة، بما يتلاءم مع كرامته.

    كوينجسبرج/بروسيا، في 30 شتنبر 1784
    إ. كنط
    أقرأ يومه 30 شتنبر في عدد 13 شتنبر من “الأخبار الأسبوعية البوشينجية” (20) إعلانا عن عدد هذا الشهر من “مجلة برلين الشهرية”، الذي يضم ضمن مواده جواب السيد مندلسزون علة نفس السؤال. هذا الجواب لم يقع بعد تحت يدي، وإلا لربما جعلني أستغني عن كتابة جوابي هذا، الذي يبقى هنا مجرد تعبير عن كيف يمكن أن تحدث الصدفة تواردا في الخواطر.

    الهوامش

    1 – Aufklärung : تحريا للدقة ينبغي ترجمة هذا المصطلح بلفظ “التنوير”، ليس فقط لأنه يوافق اللفظ الألماني من حيث الصيغة، بل لأنه، علاوة على ذلك، يشير إلى أن الأمر لا يتعلق بحالة أو وضعية تسود فيها الأنوار، بل بعملية أو سيرورة يتم في إطارها نشر العلم والمعرفة المستندة إلى العقل، والتحرر من الأحكام المسبقة والمعتقدات المستندة إلى مختلف أشكال السلطة.
    2 – mündig : majeur : راشد
    unmündig : mineur قاصر
    Mündigkcit : majorité : رشد
    Unmündigkcit : minorité : قصور
    3 – وردت هذه العبارة في النص باللغة اللاتينية، وهي تعني :”تجرأ على المعرفة “، وقد اتخذت شعارا للتنوير قبل كنط.
    4 – يجب أن نلاحظ هنا أن كنط يورد شعار التنوير كدعوة أخلاقية تتخذ صيغة الأمر القطعي.
    5 – وردت هذه العبارة في النص باللغة اللاتينية، وهي تعني: “راشدون من حيث الطبيعة”. يريد كنط أن يقول إن هؤلاء الناس بلغوا السن الطبيعي للرشد، في حين أنهم من الناحية الفكرية لا زالوا قاصرين.
    6 – Gängelwagen : إطار له عجلات يوضع فيه الأطفال على هيئة الوقوف ليساعدهم في تعلم المشي ويحميهم من خطر السقوط، ترجمت هذا اللفظ ب” عربة المشي”.
    7 – Le public : das Publikum : الجمهور يشكل، في مقابل الفرد مجموع الناس المنتمين لمكان أو إقليم أو دولة ما. استعمل في القرن الثامن عشر للدلالة على مفهوم المجال العمومي die offentlichkcit وكان يحمل دلالات أهمها: أ) مجموعة الناس المتجمعين في مكان عمومي، ب) قراء كاتب ما، عالم القراء، ج)كل من يعيش معنا في نفس الوقت.
    8 – هذا الموقف من الثورة لم يمنع كنط من أن يعبر علنا عن تعاطفه، بل ومساندته لأفكار الثورة الفرنسية، في زمن لم يكن فيه ذلك مأمون العواقب.
    9 – Lisière : Leitband : شريط موجه، شريط يربط في ملابس الأطفال الصغار الذين يتعلمون المشي ليوجههم خلال المشي ويحميهم من السقوط.
    10 – räsonieren : لا يتطابق مدلول هذا اللفظ مع مدلول اللفظ الفرنسي raisonner، لأنه يختلف، كما يتبين من النص ذاته، حسب السياق الذي يستعمل فيه. فهو قد يحمل طابعا إيجابيا فيعني، أفكر عقليا، أصدر حكما بناء على أسس عقلية إلا أنه يتخذ في الغالب طابعا قدحيا فيعني : عارض، تكلم بعناء، جادل، جادل مجادلة صورية أو لفظية. ارتأينا ترجمة هذا اللفظ في النص بكامله ب”فكّر”.
    11 – يشير كنط هنا إلى ملك بروسيا فريدريك الثاني (1740-1786).
    12 – الاستعمال العمومي للعقل هو ذلك الذي يقوم به الإنسان بصفته شخصا خصوصيا، أي كرجل فكر، أمام جمهور قرائه. أما الاستعمال الخصوصي فهو الذي يمارسه شخص بصفته يشغل منصبا عموميا.
    13 – Le savant : der Gelehrte : اسم يطلق على من له تكوين ثقافي واسع ويمتلك معارف أساسية وشاملة. تحاشيت ترجمة هذا اللفظ ب”عالم” بسبب المضامين التي أصبح يحملها هذا اللفظ في عصرنا. يستحسن ترجمته ب “رجل العلم” أو “رجل الفكر”، وقد فضلت استعمال العبارة الأخيرة.
    14 – bürgerlich : civil : ترجت هذا اللفظ في النص كله ب”مدني” ، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن التمييز بين ما هو مدني وما هو سياسي لم يكن واضحا في زمن كنط، وأن لفظ”مدني” كان إلى حدود القرن الثامن عشر مرادفا للفظ ” سياسي”. وعلى عكس ذلك اكتسب التمييز بين ما هو مدني وما هو سياسي دلالة أساسية بفضل الفصل الواضح الذي أقامه هيجل في فلسفة الحق بين دائرة المجتمع المدني ودائرة الدولة.
    15 – Communauté : das gemeinwesen, das gemeine wesen : الجماعة
    16 – passivement : passiv : بسلبية، بكيفية سلبية.
    17 – symbole : symbol : رمز يعني في اللغة اللاهوتية لكل الكنائس مجموع التعاليم التي تعتنقها طائفة أو كنيسة، وتكون بمثابة صياغة للمعتقدات المشتركة بين أعضاء هذه الطائفة أو الكنيسة، وهي ملزمة لكل الأعضاء.
    18 – في هولندا : تجمع كنسي يتمتع بسلطة التشريع في المجال الديني.
    19 – وردت هذه العبارة باللغة اللاتينية في النص، وهي تعني : “ليس القيصر فوق النحاة”.
    20 – ” الأخبار الأسبوعية البوشيخية” نشرة أسبوعية كان يصدرها بوشينج Anton Friedrich Büsching من برلين من 1773 إلى 1786، وكانت تتضمن بالأساس أخبارا عن الكتب الجديدة والمجلات الثقافية.

  • مشروع لتدريس تاريخ الفلسفة جان هيوليت

    كيف يمكن اليوم تصور دراسة الفكر الفلسفي؟ إن لفظ الميتافيزيقا تم هجره، والعلوم الوضعية، بما في ذلك العلوم الإنسانية، في قمة تطورها. يتبقى للفيلسوف تاريخ أنساق الماضي وفلسفات ميتافيزيقية تبدو بلا أساس ومعرض من الوجوه الفكرية، التي تنشر اليأس من البحث الفلسفي بسبب تنوعها وما يوازي ذلك من إدعاء الحقيقة المطلقة.

    ومع ذلك يبدو لنا تاريخ الفلسفة، بوصفه تاريخا للفكر الفلسفي، غير مؤد إلى نزعة شكية عديمة الجدوى. وإذا كان من الممكن الحديث عن فشل الميتافيزيقا، فإن ذلك الفشل له دلالته. لقد أضحى اليوم بمقدورنا -ومنذ كانط بصفة خاصة- طرح سؤال ماهية الميتافيزيقا. فمنذ ذلك الحين أصبح بإمكان عصرنا تحديد بعد جديد، وميدان بحث يسمح، في ضوء تاريخ الفكر الفلسفي، باستكشاف تأويلات الوجود الثاوية خلف حياتنا اليومية والمتخفية كذلك وراء العلوم الوضعية. وهذا الميدان في البحث لن يختلط بميدان الأنثربولوجيا حسب المعنى الدقيق للكلمة.

    وأعتقد أن الفضل الأكبر الذي لهوسرل، وكذا أسباب نفوذه، هو أنه حاول الوصول إلى ذلك الميدان. فالجهد الذي بذله في النظر إلى الفلسفة بوصفها لحظة وعي جذري بالتجربة المعاشة، وكتفكير شمولي أطلق عليه الرد الفينومينولوجي. إن قيمة هذا المجهود هي في الكشف عن صعوبات العمل الفلسفي أكثر منها في نجاح مستحيل. أما أن “نفكر في الحياة” -كما يقول هيغل في فترة شبابه- فتلكم هي المهمة، لكنها مهمة تبدو متناقضة. فالوثبة التي تحمل الوعي الإنساني نحو العالم، وكذا الالتزام الذي يربطه بالعالم المحيط أو بأفق العالم الكلي، إنما تسير في اتجاه معاكس للفكر الذي يعلق المعتقدات الطبيعية ليستطيع وصفها والكشف عن معناها. ينبغي التعبير عن الإعجاب إزاء التدقيقات والبدايات المتجددة واللامتناهية لمنطلقات هذا الفيلسوف الذي أبى أن يتخلى عن فكرة التأمل الفلسفي البنَّاء والذي اكتشف في نفس الوقت استحالة إنهاء هذا التأمل، لأن الفيلسوف يصادف دوما ظله دون القدرة على احتوائه. وهذا اللقاء ليس لقاء طارئا، ولا يدل على حد قابل للتنقيل باستمرار فحسب، بل إنه يشير إلى خاصية الوجود ذاته. فالإشكالية الفلسفية لا بد أن تكابد عجزها عن الإحاطة التامة بموضوع مشروعها، دون أن تتخلى مع ذلك عن مهمتها في تحديد بنيات التجربة والعلوم.

    يستجيب البحث الفلسفي المعاصر، من حيث هو وعي بالحياة، لمطلبين: مطلب الصرامة في التحليل، ومطلب الاتصال المباشر بالتجربة المعاشة. وهو بهذا يتميز عن الفكر الساذج، فكر عالم الحياة، مثلما يتميز عن الفكر العلمي الذي يتأسس على فكر عالم الحياة. إنه يتأرجح بين الإثنين، لأن كل واحد منهما يمثل استلابا للآخر. فالفكر العلمي يحيل دوما إلى التجربة المباشرة التي يتجاوزها، والتجربة بدورها تقود إلى العلم الذي تؤشر عليه دون أن تؤسسه. إن البحث الفلسفي لا يستطيع التخلي عن العودة إلى الأشياء ذاتها، والاتصال بالوجود الفعلي من غير وسائط (وهو ما عمل على بعثه كل من برغسون وهوسرل)، مثلما لن يتخلى عن المسافة الضرورية للفكر، والتي بفضلها تظهر الماهيات والبنيات المتحكمة في الوجود. ومن الملاحظ أن الفكر الفلسفي في عصرنا هذا مطبوع بحركتين متضادتين هما الحركة التي تحاول الكشف عن الوجود، وتتعارض أحيانا مع العلوم، والحركة المضادة للأولى وترتقي إلى دراسة البنيات المحايثة للعلوم.

    وإذا كانت الفلسفة لا تستطيع التخلي لا عن هذه الحركة ولا عن تلك، فلأنه ينبغي عليها، في وعيها بالحياة، استخلاص بعد أصيل في البحث لا يختلط بالبعد العلمي، بعد أن يعمل على إظهار معنى البنيات وكذلك معنى الوجود ذاته كلقاء. لقد كان هذا البعد، ضمن تاريخ الميتافيزيقا هو اكتشاف المبدأ الترنسندنتالي.

    ـ 2 ـ

    هنا يطرح أمامنا بصدد الفلسفة، مشكل تاريخها والمنظورات التي نرغب من خلالها في تأمل هذا المشكل. وإذا تمكنا كما نريد من طرح سؤال ماهية الميتافيزيقا، فذلك لأنه بمقدورنا تكرار تاريخها منذ مفكري الإغريق حتى مرحلة الفكر النقدي، التي جعلت من الميتافيزيقا ذاتها موضع سؤال، والمرحلة الوضعية التي تم فيها استبدال الأنطولوجيا بالأنتربولوجيا. هذا التكرار للتاريخ [تاريخ الميتافيزيقا] يتيح لنا مساءلة الميتافيزيقا والكشف عن معنى الفكر الفلسفي الذي يسكنها، وربما نكتشف بذلك ميدان البحث الذي حاولنا إعطاء فكرة عنه.

    مع الفلسفة الكانطية والمثالية الترنسندنتالية إنما بدأت الميتافيزيقا تتساءل عن ذاتها. ويمكن القول إنه لدى فشته وهيغل يوجد “ميتافيزيقا الميتافيزيقا”، وتأمل الميتافيزيقا في ذاتها. إن فيشته يرتفع فوق التاريخ باحثا عن نسق الروح الإنساني، وعن منطق أصيل للفكر -الجدل- مخالف لمنطق الرياضيات، لكنه منطق يسمح بأن ندخل في الاعتبار جميع التفسيرات الممكنة -بواسطة مبدأ العلية أو الجوهر- للقاء بين الفكر والوجود. ومنطق الميتافيزيقا هذا سيكون هو التأمل الأخير للفكر، وعلم العلم. ومحاولة هيغل، قبل ماركس، أنزلت هذا المنطق المفارق للتاريخ بوضعه داخل التاريخ ذاته. إن صيرورة الفكر نحو المعرفة المطلقة هي في نفس الآن جدلية وتاريخية. حاول هيغل التفكير في بنية ونشأة تأويلات الوجود؛ وبذلك فتح أمامنا، خاصة في فينومينولوجيا الروح، إتجاها في البحث شديد الغنى والعمق، وإن كانت النتائج المخيبة لنسقه لا توحي بذلك. إن تاريخية الفكر والأشكال الملموسة للوعي داخل كلية الحياة الإنسانية، وحالة الوعي الواضع لمضمون تلك البنيات، اللاواعية في البدء لذاتها، وكذا الارتقاء بالعقل إلى صورة جديدة من التجربة، كل هذا تم عرضه في ذلك العمل المدهش [ فينومينولوجيا الروح ]، ويمكن أن يقدم لنا مصدرا للتأمل، حتى لو كان النسق الهيغلي، مثله مثل نسق فيشته، يبدو متجاوزا.

    هذا التأمل الذي أنجزته الميتافيزيقا حول ذاتها هو مع ذلك ميتافيزيقا. فليس بهذه الكيفية يجب التفكير في ماهية الميتافيزيقا بالذات. إن السؤال المطروح بصدد نهاية الميتافيزيقا لا يمكن أن ينتهي إلى نزعة وثوقية [دغمائية] صادرة عن آخر نسق أو عن نهاية ما للتاريخ، كما لن يقود إلى الاحتفاظ المحض والبسيط بالوجود الفعلي للعلوم الوضعية التي كانت ستحل محل الميتافيزيقا.

    إننا نعود باستمرار إلى ذلك الميدان الأصيل في البحث الفلسفي الذي يلزمه لكي يتأسس أن يعيد التفكير مجددا في تاريخ الفكر الفلسفي وأن يأخذ في اعتباره المعنى -المتخفي ربما- لهذا التاريخ.

    يشكل تاريخ الميتافيزيقا جزءا مكملا لهذا البحث، في حين أن تاريخ العلوم المعاصرة لا ينتمي إلى العلم ذاته. فالرياضيات المعاصرة تكونت، كنظرية للمجموعات ونظم المتقابلات، بالتخلص من تاريخها الخاص، الذي لا يمكن أن تعتبره سوى متتالية من الأمثلة لمصادفات سعيدة (مثلا تاريخ العدد المتخيل الذي تحول إلى كيان للأعداد المركبة) أو لجملة من العوائق. إن هوسرل عندما يتناول أصل الهندسة، فالأمر عنده لا يتعلق كثيرا بالهندسة كما هي، بقدر ما يهم دلالة الفكر الرياضي داخل تأويل الوجود والكينونة. ثمة نشأة وتاريخية للفكر الميتافيزيقي ينبغي المحافظة عليها في التأمل الفلسفي، في حين أن علما من العلوم يبدو في مرحلة نضجه قادرا على الفهم وبالتالي على إذابة تاريخه. إن تاريخ الميتافيزيقا هذا -أي تاريخ تأويلات الوجود والكينونة، الذي تخضع له ربما حتى العلوم والتقنيات الحديثة- ليس سردا للوقائع التاريخية أو تفسيرا سببيا. فهنا توجد نشأة وبنية ذات أسلوب أصيل، حيث يلزم التفكير مجددا وإعادة تفعيل المعنى القصدي المغمور داخل الفكر. يمنحنا تاريخ الفكر الفلسفي إذن تاريخا أساسيا، يتطلب منهجا خاصا يحاول الجمع بين النشأة والبنية؛ ويرفض انعدام المعنى الفلسفي في تاريخ تجريبي محض مثلما يرفض عجز العقلانية اللاتاريخية.

    يوجد هنا برنامج للبحوث، ستكون غايته القصوى دوما هي التعرف على البعد الفكري الذي يسمح -في عصرنا هذا حيث اللقاءات التاريخية بين الفكر المتوحش والفكر العلمي على وشك الاكتمال (علاقات الشعوب المتخلفة بالشعوب المتحضرة)، وحيث العلوم الإنسانية أصبحت قادرة على بلورة نماذج ذات بنيات مهيمنة في الوجود الفعلي- يسمح بالتأمل في معنى الكينونة والحقيقة، وفي وجود المعنى ذاته كما في العلاقات بين الحقيقة والوجود. إن نشأة وبنية الفكر الفلسفي تقودان إلى إشكالية المنطق والوجود.

    تصادف هذه الإشكالية القصوى -باعتبارها نتيجة لتاريخ الفكر الفلسفي- إلى جميع الاكتشافات الحديثة للأنتربولوجيا الوجودية والبنيوية، وكذا الأفكار الموضوعة حول بنيات اللغة أو حول التركيبات، والتي تشكل، بعيدا عن الوعي الإنساني، مختلف إيديولوجياته. ويبدو أنه من غير الممكن الاكتفاء بالنشأة التاريخية كما لا يمكن التخلي عنها تماما. فبقدر ما نرتقي في عالم الروح بقدر ما تتوقف الفكرة [ الأيدوس ] عن كونها ماهية لتصير معيارا، ويحل مفهوم الأفق تدريجيا محل مفهوم البنية والماهية. ولا بد من بعد تاريخي لفهم فكرة المعنى والكلية التي بدونها تذوب تحليلات العلوم الوضعية في الكثرة والتجزيء. غير أن هذه الكلية لا يمكن أن تنسب إلى كوجيطو [ أنا أفكر] مجرد، بل هناك وحدة، كما تبين هيغل ذلك، مرددا تعبيرا كانطيا بمعنى جديد، وحدة أولية التركيب، علاقة أولى بين الإنسان والطبيعة التي تغلف الفكر، فإلى تلك الوحدة ينبغي الرجوع. لكن هذه الوحدة الأصلية والتركيبية في آن معا، ليست كيانا مباشرا نكتشفه، كما أنها ليست أبدا تلاعبا منطقيا وجدلية مجردة.

    هكذا ينفتح مجال للأبحاث لا يتعارض مع العلوم الإنسانية أو الأنتربولوجيا الوضعية، لكنه يستهدف، بفضل تاريخ الفكر الفلسفي، سير معنى الحقيقة داخل سياق التجربة الإنسانيةn

    Jean Hyppolite, Figures de la pensée philosophique, Tome2, Quadrige, PUF, 1991.

  • ديكارتيون بدون ديكارتية

    لم يكن الاستقبال الذي حظي به ديكارت في الثقافة العربية الحديثة استقبالا عاديا. فقد لاقى فكره عناية واهتماما عز نظيرهما بالنسبة لأي فيلسوف غربي آخر، باستثناء كارل ماركس ربما. إذ اقترن اسمه بصفة كونه “إمام وأب الفلسفة الحديثة”، و “أكبر الفلاسفة المحدثين” إلى غير ذلك من النعوت التبجيلية، مما يشي بأنه كانت قد تشكلت في الوسط الثقافي المصري من أوائل هذا القرن فكرة مفادها أن ديكارت هو مفتاح الفكر الحديث، الذي يشكل الإطلاع عليه ضرورة تقتضيها متطلبات روح النهضة التي أطرت فكر النخبة المصرية الناهضة في بدايات القرن.

    ولعل ما يسر حسن استقبال ديكارت في بيئة ثقافية لم تخل يوما من حذر وتوجس من الفلسفة، على الرغم من المناخ النهضوي العام في مصر، ومن الصورة المشرقة التي تشكلت عن ديكارت، هو معرفة الكتاب والنخبة الثقافية العربية بآراء ديكارت في البرهنة على وجود الله، إذ يشير الدكتور عثمان أمين إلى أن الشيخ محمد عبده كان قد أشار إليها واعتمد عليها في السنوات الأولى من هذا القرن.

    يرجع ظهور اسم ديكارت في الصحافة العربية إلى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر في كل من مصر والشام. فقد نشرت مجلة “الهلال” في مصر، في أوائل كانون الثاني (يناير) 1897 جوابا على سؤال لأحد قرائها، يسأل فيه عمن هم الكارتازيون وفي أي عصر كانوا ومن هو المؤسس الحقيقي لمذهبهم، وعلى أي أساس بني مذهبهم، تقول فيه المجلة إن الكرتازينيين أو الكارتازيين هم أتباع فلسفة ريناتوس كارتاسوس وهو فيلسوف فرنسوي يعرف باسم ديكارت. ثم تواصل المجلة عرض بعض أفكار ديكارت، أما الكتب العربية الأولى التي بزغ فيها اسم ديكارت وتحدثت عن فلسفته فتعود بدورها إلى السنوات الأخيرة من القرن الماضي فنذكر من بينها كتاب الفلسفة للقس بوتيير الذي ترجمه جرجس صعب سنة 1883 ببيروت، وكتاب “الفلسفة” للأب جرجس فرح الصغير سنة 1893 بالاسكندرية، وكتاب “الفلسفة الحديثة” لأنيس أفندي الخوري سنة 1914 بالاسكندرية وكتاب “مبادئ الفلسفة” بالاسكندرية لزكريا أحمد رشدي، وكتاب “تاريخ الفلسفة منذ أقدم عصورها إلى الآن” المطبوع بالقاهرة لصاحبه حنا أسعد فهمي، في هذه الفترة تقريبا.

    المرحلة الثانية في التعرف على فكر ديكارت هي المرحلة الأكاديمية المرتبطة بالجامعة الأهلية المصرية، حيث خصص ماسينيون ضمن محاضراته (1912 ـ 1913) عن “تاريخ المصطلحات الفلسفية” حيزا لفلسفة ديكارت. كما خصص جلارزا، المستشرق الإسباني، في دروسه بالجامعة المصرية حول “الفلسفة العامة وتاريخها وعلم الأخلاق” (1918 ـ 1919) ثلثي محاضراته للتعريف بحياة ديكارت ومؤلفاته متوقفا بالخصوص عند “مقال في المنهج” و”تأملات ميتافيزيقية”. وبعد ذلك بدأت أفكار ديكارت تخرج من رحاب الجامعة عن طريق كتابات طلابها وخريجيها : طه حسين في كتاب “الأدب الجاهلي” زكي مبارك “الأخلاق عند الغزالي” (1924) ومي زيادة في حديثها في كتاب طاهر الضاحي في “أطياف من حياة مي” وفي مقالها “غرفة في المكتبة”، وعلي العناني في مقالته عن ديكارت المنشورة بمجلة النهضة الفكرية حوالي 1932 يمكن أن نقول أن هذه المرحلة بمفاصلها الثلاثة: في الصحافة، ولدى الأساتذة الأجانب في الجامعة المصرية، ثم لدى خريجي الجامعة إنما كانت مرحلة تمهيدية لمهرجان ديكارتي عربي واسع، عبر الترجمة والتأليف، استمرت من حوالي 1930 إلى حوالي 1980.

    ونستطيع أن نميز في هذا المهرجان الديكارتي العربي بين عدة أشكال ومستويات من الاهتمام تتراوح بين الترجمة، والتأليف الأكاديمي، والتناول التاريخي لديكارت في سياق الفلسفة الغربية أو في سياق الثقافة العربية الإسلامية، هذا بالإضافة إلى أشكال أخرى من التوظيف المذهبي والمنهجي لأفكار ديكارت. وبما أن الاهتمام بديكارت قد انصب بتوجيه من ماسينيون وجلارزا، بالدرجة الأولى، على كتابه “مقال في المنهج” فقد كان هذا الآخر هو أول كتاب لديكارت تمت ترجمته إلى العربية. فقد حث الشيخ مصطفى عبد الرازق، أستاذ الفلسفة بالجامعة المصرية، ورائد الاتجاه العقلي في دراسة الفلسفة الإسلامية، تلامذته على ضرورة ترجمة النصوص الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي. وهو الذي وجه محمود الخضيري إلى ترجمة “مقال في المنهج”وقام بمراجعة الترجمة على أصلها الفرنسي. وهذه الترجمة تؤرخ لبداية الترجمة الفلسفية للعصر الحديث من حيث العناء المبذول فيها في ما يخص إيجاد المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات الفلسفية الفرنسية، وأيضا في ما يخص محاولة تطويع العربية الحديثة على أداء المعاني الفلسفية الجديدة. وذلك “بالتقريب بين كثير من المعاني الواردة في “المقال في المنهج” وبين معان لفلاسفة الإسلام فيها قول”.

    ويذكر الخضيري في المقدمة التي وضعها لترجمة المقال سنة 1930 سببين دفعاه إلى ترجمة المقال في المنهج أولهما عام ويتمثل في “عظيم العناية في مصر والشرق بالاطلاع على الثقافة الغربية (…) رغبة العقلاء في مشاركة الأمم التي فاقتها في الحضارة والمعارف التي يعتمد عليها هذا التفوق”، وثانيهما يتمثل في أن “المقال” لم يكن مجرد مقدمة لكل النهضات الفلسفية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بل هو عند البعض أساس المدنية الحديثة إذ جعلوا منه أصل الثورة الفرنسية التي هي عند إميل بوترو وليدة “المقال في المنهج” لأن المجتمع قد تحدد سنة 1789 باسم مبدأ اليقين العقلي الديكارتي. وقد أعاد جميل صليبا ترجمة هذا الكتاب ونشر ببيروت تحت إشراف اليونسكو سنة 1953.

    أما الكتاب الثاني لديكارت والذي حظي باهتمام مماثل فهو كتاب “تأملات ميتافيزيقية” الذي قام بترجمته عثمان أمين بعد ذلك بخمس سنوات استجابة لرغبة أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق وترجع أهمية هذا الكتاب في نظر عثمان أمين إلى أنه هو كتاب العصر إذ فيه ما يدعو أهل الفكر، في هذا العصر المادي الصاخب، إلى النظر في مشاغل الروح والخلود إلى امتحان النفس. وهذا الكتاب أعاد كمال يوسف الحاج ترجمته ونشره في بيروت بعد ذلك في 1971. وأيضا بعد ذلك ترجم عثمان أمين كتاب “مبادئ الفلسفة” الذي نشر بالقاهرة سنة 1962. ولعل هذه الكتب الثلاثة هي التي حظيت بترجمة كاملة بل لأكثر من مرة. وما عدا ذلك تمت ترجمته على شكل نصوص وشذرات في كتاب نجيب بلدي “ديكارت” (دار المعارف، 1959) أو في كتابات أخرى مثل كتاب أندريه كريسون عن ديكارت الذي ترجمه تيسير شيخ الأرض ونشر من النصوص المستقاة من كتب مختلفة لديكارت، أو في كتاب عثمان أمين عن ديكارت (القاهرة، 1975). أما كتبه الأخرى مثل “كتاب الانفعالات” فلم يترجم إلا في العقود الأخيرة، ومن البين أن ترجمة نصوص ديكارت كانت انتقائية تحكم في اختيارها السياق الثقافي النهضوي في الشرق عامة وفي مصر خاصة.

    لقد خضع المثقف الديكارتي، في صيغته العربية، لعدة قراءات أستطيع أن أميز فيها، ولو من باب التعسف التوضيحي، بين قراءات داخلية وقراءات خارجية، وأقصد بالأولى قراءة ديكارت عبر المقارنة مع الفلاسفة العرب المسلمين في مختلف العصور، وأقصد بالثانية قراءته من خلال المقارنة بينه وبين الفلاسفة الغربيين الآخرين.

    النوع الأول من القراءة نجده لدى ماسينيون وجلارزا، وهو الذي شكل النواة الأولى لعملية مقارنة مستمرة بين ديكارت والفلاسفة العرب، حين شبه ماسينيون ديكارت بنصير الدين الطوسي من حيث الاهتمام بالرياضيات.

    وقد سرت مثل هذه المقارنات وتكاثرت بعد ذلك بشكل كبير. فقد عمد زكي مبارك في رسالته الجامعية حول الأخلاق عند الغزالي إلى المقارنة بين ديكارت والغزالي في مسألة الشك منتهيا إلى أن “شك الغزالي كان سببا في جمود الفلسفة في الشرق بينما كان شك ديكارت سببا لنهوضها في الغرب”. كما قام محمود حمدي زقزوق بإنجاز رسالة جامعية بالألمانية حول “المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت”، مبينا مدى تطابق أفكار كل من الغزالي وديكارت في موضوع الشك المنهجي، ومخففا من وقع الحكم الذي ينسب انهيار الفلسفة في الشرق إلى الغزالي.

    أما الباحث المصري محمد شريف صاحب كتاب “الفكر الإسلامي منابعه وآثاره” (1967) فقد أبرز تأثير الغزالي على ديكارت بل على كل الفلسفة الحديثة، بل إن الغزالي في نظره هو الذي وضع كل الملامح الرئيسية للفلسفة الغربية من ديكارت إلى برغسون. ولعل مقارنة ديكارت بالغزالي لم تقل قدرا عن مقارنته مع ابن سينا. فقد قد عثمان أمين بحثا مقارنا بعنوان “بين أنية ابن سينا وكوجيتو ديكارت”، كما كتب إبراهيم بيومي مدكور كتابا بعنوان أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبية سنة 198مبينا فيه أن حقيقة النفس وخلودها كان لها تأثير في العديد من المفكرين المسيحيين وخاصة برهان “الرجل المعلق” الذي مهد بدون شك لفكرة الكوجيتو عند ديكارت. وهي الأفكار نفسها التي يدافع عنها في كتاب آخر هو الفلسفة الإسلامية حاشدا لها آراء بعض المستشرقين مثل فورلوني في دراسة له بعنوان “ابن سينا والكوجيتو الديكارتي” وغيلسون. وفي هذا الكتاب يرجع مسألة العلاقة بين النفس والجسم لدى ديكارت إلى ابن سينا معتبرا، أن هذا الأخير هو الممهد لفسيولوجيا وسيكولوجيا ديكارت.

    نفس الاتجاه نلحظه لدى محمود قاسم في دراسات في الفلسفة الإسلامية، وجميل صليبا في كتابه من أفلاطون إلى ابن سينا، وسليمان دنيا في مقدمة تحقيق كتاب ابن سينا الإشارات والتنبيهات، وثابت الفندي في مقدمة تحقيق رسالة ابن سينا في معرفة النفس الناطقة وأحوالها.

    وإذا كان معظم الباحثين في العلاقة بين ديكارت وابن سينا ينساقون إلى بيان التأثير والأسبقية، فإن قلة فقط من الباحثين رفضت الانسياق في هذا الاتجاه. فزينب الخضيري رفضت في كتابها “ابن سينا وتلاميذه اللاتين” الخلوص إلى تأثير الأول في الثاني انطلاقا من مجرد وجود تشابه في افكارهما.

    لكن المقارنة بين ديكارت والفلاسفة العرب لم تقف عند حدود بيان العلاقة مع الغزالي وابن سينا، بل تسلمت ابن رشد وابن طفيل، والمعتزلة، والنظام، والفارابي، كما طالت علماء كابن الهيثم، والقلصادي، وجابر بن حيان ونصر الدين الطوسي، وطالت المتصوفة كابن عطاء الله السكندري، والكرمائي، وامتدت المقارنة إلى الإمام علي.

    والقاعدة العامة التي حكمت كل هذه المقارنات هي إما إثبات أسبقية الحضارة العربية الإسلامية إلى الكثير من أفكار ديكارت، أو إثبات تأثير هؤلاء على ديكارت، أو تزكية وإضفاء للمشروعية الثقافية على مساهمات المفكرين العربي والمسلمين.

    ومقابل ذلك ازدهر نوع آخر من القراء لنصوص ديكارت نطلق عليه اسم القراءة الخارجية أو السياقة، ونقصد بها بيان علاقة ديكارت بغيره من الفلاسفة الغربيين كليبنتس وسبينوزا وبيكون وهوبز ولوك، وهيوم، وفيورباخ ومالبرانش والرواقية.

    وقد ساعدت هذه المقارنات على استيعاب أحسن للفكر الديكارتي إلا أنها لم تكن بدورها بريئة، فهي أميل إلى أن تكون تأويلات لفكر ديكارت في مسار الاتجاه المذهبي لصاحبه.فالمقارنة بين ديكارت وسبينوزا عند حسن حنفي تسير في اتجاه تمجيد وانتقاد ديكارت في نفس الوقت باعتباره أعلى من شأن العقل لكنه استثنى من حكم العقل العقائد والكنيسة والكتاب المقدس والعادات والتقاليد والأخلاق ونظم الحكم، مؤثرا عقلانية سبينوزا الجذرية على عقلانية ديكارت التبريرية.

    وقيس هادي في كتابه نظرية العلم عند فرنسيس بيكون ينتقد فكرة أبوة ديكارت للفلسفة الحديثة مبينا أن بيكون يشارك ديكارت في إرساء الأسس الفلسفية للعلم الحديث وتمهيد الاتجاه نحو النظرة الآلية للظواهر. وسواء تعلق الأمر بعقد مقارنة مع الفلاسفة العقلانيين (ليبنتس – سبينوزا) أو مع التجريبيين (بيكون – هوبز – لوك) فإن المقارنة غالبا ما تصب في سياق تأويلي معين إما عقلاني أو تجريبي.

    لكن ضمن هذه النزعات في المقارنة والتأويل يمكن أن نتحدث عن اتجاه يغلب عليه الطابع الأكاديمي ويمثله الخضيري وبلدي وغيرهما.

    ولم يسلم الفكر الديكارتي من التوظيف الفلسفي في إطار أحد الاتجاهات الفلسفية الكبرى نجمل هذه التوظيفات في ثلاثة:

    أ ـ التوظيف المنهجي أو الإبستمولوجي ونموذجية استعمال طه حسين للشك الديكارتي في دراسة تاريخ الأدب العربي حيث دعا إلى اصطناع منهج الشك، وتبرئة النفس من كل ما قيل حول الأدب العربي وتاريخه من قبل، مع دعوتنا إلى “أن ننسى عواطفنا القومية وكل مشخصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدينية وكل ما يتصل بها وأن ننسى ما يضاد هذه العواطف القومية والدينية، وألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا لمناهج البحث العلمي الصحيح ذلك أننا إن لم ننس هذه العواطف وما يتصل بها فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف وسنلغي عقولنا”.

    ونعلم جميعا الضجة التي أثارتها هذه الدعوة. ولعل أقوى هذه الردود كان رد مصطفى صادق الرافعي الذي أعلن أن أقبح ما في الكتاب أن صاحبه “يعلن تجرده عن دينه عند البحث” يريد أن يأخذ النشء بذلك اتباعا لمذهب ديكارت الفلسفي الذي يقضي على الباحث بالتجرد عن كل شيء عندما يبحث عن حقيقة. وهذا لعمري منتهى الجهل”. بل إن الرافعي يخلص إلى القول أن طه حسين “أداة أوروبية استعمارية يعمل على إفساد أخلاق الأمة وحل عروبتها الوثقى فهل نعتبر هذا الرد وغيره من الردود الرافضة ردود فعل شخصية أم تعبيرا عن رفض الثقافة العربية لاستخدام معايير ومناهج خارجية في فهم ذاتها والحكم على نفسها؟”

    ب ـ التوظيف المذهبي الروحاني لديكارت، وتطوير الجوانب الروحية في فلسفته نجده بالخصوص لدى عثمان أمين، وكمال الحاج، ونظمي لوقا. فجوانية عثمان أمين هي مزيج من الديكارتية والبرغسونية، “وهي فلسفة نبتت من تأمل روح الدين والأخلاق”. لقد كان كل جهد عثمان أمين في ترجمة ديكارت، وفي الدعوة لفكره والتأليف عنه منصبا في إطار دعم قيم الروح مقابل قيم المادة، ومن أجل سد مظاهر النقص في القوة الروحية للإنسان الحديث، مثلما فعل ديكارت نفسه.

    إن ديكارت عثمان أمين هو في النهاية ديكارت روحاني باطني وديني، إنه رائد ثورة روحية أكثر مما هو باني فكر عقلاني.

    وقد سار تلميذه نظمي لوقا في نفس المنحى تقريبا حيث قدم عدة دراسات عن فلسفة ديكارت مطبوعة بسمة دينية قوية وواضحة. فهو يرى في كتابه الله أساس المعرفة والأخلاق عند ديكارت (القاهرة، 1973) أن المعرفة والأخلاق غير ممكنين إلا على أساس أن الله جوهر ماهيته الكمال الأسمى بالإطلاق. وديكارت حسبه “يجعل من معرفة الله أساسا لمعرفة العالم، وأساسا للحق والخير إطلاقا، ومحورا للفضيلة، ثم قطبا تتجه إليه النفس مجندة كل عناصرها ومدربة على الائتمان والطاعة – تدفع من حبها وعرفانها لمصدر الوجود وأوجب المعرفة وباري، الحيز بإرادته الكاملة”. وبإيجاز فإن ديكارت كما يصوره نظمي لوقا فيلسوف صوفي باطني حتى الأعماق.

    نفس المحاولة نجدها عند الفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج الذي يرى أن بحث ديكارت في مشكلة النفس ومسألة الله دليل ضد الذين قللوا من شأن المسألة الما ورائية أو اللاهوتية عنده. وهو يعترف بأن ديكارت ذهب إلى الحدود القصوى للعقلانية لكن دون أن ينكر الإيمان. فالله عنده مصدر العقل والإيمان معا لأن فكرة الله هي الأساس في عمارة ديكارت الفلسفية كلها. ويعتبر التوظيف الروحي الديني لأفكار ديكارت أقوى كل هذه التوظيفات لأننا نعثر عليه لدى عدد كبير من الباحثين والكتاب، فهو إذا كان قويا وواضحا لدى عثمان أمين وكمال الحاج ونظمي لوقا، فإنه حاضر وإن بصورة أقل لدى الباحثين الذين حاولوا أن يظل تناولهم لديكارت ذا طابع أكاديمي خالص مثل نجيب بلدي. إن النغمة الدينية الروحية التي ارتبط بها فكر ديكارت أن أذهان العديد مم الباحثين كانت في أصل عملية تيسير دخول ديكارت اللطيف إلى ساحة الفكر العربي دخولا بكل هذه الكثافة والزخم.

    ج ـ التوظيف المادي لأفكار ديكارت فمثلما طور الفريق السابق صورة روحانية عن ديكارت عمد فريق آخر إلى إبراز المكونات المادية في فلسفته. ومثلما استقى الأوائل التأويلات الروحية المتداولة في الفكر الغربي فقد استلهم الأواخر التأويلات والقراءة المادية لفكر ديكارت.

    فديكارت في نظر الاتجاه الأخير يمثل لحظة قطيعة مع العصور الوسطى. فهو رائد النظرة الآلية للطبيعة، والفيزياء الديكارتية هي إحلال للنظرة الكمية والقياس محل وجهة نظر الكيفية القائمة على تصنيف الأنواع. فهو قد أعطى للمادة كيانا امتداديا ملموسا وقابلا للقياس، بل اعتبرها قوة خلاقة قائمة على نوع من الآلية. ففكر ديكارت بهذا المعنى هو الأساس الفلسفي لفكر العصور الحديثة. إن أصداء هذه القراءة المادية لفلسفة ديكارت نلمحها لدى مراد وهبة في كتابه عن برغسون، ولدى محمود أمين العالم في كتابه عن المصادفة، وإلى حد ما في كتاباته دراسات ونصوص في الإبستمولوجيا المعاصرة: مدخل إلى فلسفة العلوم ضمن هذا التفسير. يقول الجابري: “إن ديكارت هو أبو الفلسفة الحديثة بدون منازع، ودوره في تقويض دعائم الفكر القديم وإرساء الفكر الأوروبي الحديث على أسس جديدة عقلانية كان أعظم واشد تأثيرا من الدور الذي لعبه غاليلو”.

    هذه صورة مكثفة عن كيفية تلقي الثقافة العربية الحديثة لفكر ديكارت ترجمة، وقراءة، واستثمارا منهجيا ومذهبيا اعتمدنا فيها بشكل أساسي على كتاب الديكارتية في الفكر العربي لأحمد عطية. وهذا التلقي يدل على مدى الحظوة التي حظي بها ديكارت في ثقافتنا العربية الحديثة، وهي الحظوة التي لا يكاد ينافسه فيها ربما سوى ماركس أو سارتر.

    ويبدو لي أن هناك قدرا من الالتباس في فهم ديكارت في الثقافة الفلسفية العربية المعاصرة. فهو تارة مفكر كلاسيكي مجدد، وتارة مفكر تجديدي كليا. وربما كان مصدر هذا الالتباس أن ديكارت نفسه لا يخلو من التباس وازدواجية: رجل في العصور الوسطى ورجل في العصور الحديثة. كما يبدو أن الفكر العربي لم يفهم المكانة الرمزية لديكارت في تاريخ الفكر الأوروبي، هذه المكانة التي يعبر عنها الكوجيتو من حيث هو إحلال للذات البشرية المتمثلة في مركز الصدارة. فهل الانتقائية في الترجمة، وسوء الفهم، والتأويلات المختلفة، والاستثمارات المختلفة هي أعراض تفرزها ثقافة تقتصر على “استيراد” الفكر العقلاني من الخارج، وتدافع عن نفسها مخافة أن يكتسحها ويستذيبها هذا المفكر الجديد؟ أم أن المجتمع العربي نفسه لم يبد لحد الآن قابليته للعقلانية التي تعني فيما تعنيه روح النقد والتساؤل في وجه كل ما هو تقليدي؟

    * نظم سنة 1996 بكلية الآداب بفاس.

  • قلب الأفلاطونية – جيل دولوز

    ماذا يعني “قلب الأفلاطونية”. يحدد نيتشه على هذا النحو مهمة الفلسفة عنده، أو مهمة فلسفة المستقبل بصفة أعم. يظهر أن العبارة تعني القضاء على الماهيات، وكذا على عالم المظاهر. إلا أن المشروع لا يخص نيتشه وحده. فالإقصاء المزدوج للماهيات والمظاهر يرجع إلى هيجل، بل إلى كنط. ومن المشكوك فيه أن يعني نيتشه ما يعنيه هذان الفيلسوفان. وفضلا عن ذلك، فإن صيغـة القلب هاته تشكو من كونـها صيغة مجردة. وهـي لا تسلط الأضواء على الدافع المحرك للأفلاطونية. هذا في حين أن قلب الأفلاطونية ينبغي أن يبرز، على العكس من ذلك، هذا الدافع، وأن “يترصّده” كما يترصد أفلاطون السفسطائي.

    بصيغة شديدة التعميم، نقول إن الدافع الكامن وراء نظرية المثل ينبغي أن يبحث عنه جهة رغبة في الانتقاء والاصطفاء. يتعلق الأمر بإقامة الاختلاف، والتمييز بين “الشيء” ذاته وصوره، بين الأصل والنسخة، بين النموذج والسيمولاكر.[…]

    ننطلق من تحديد أولي للدافع الأفلاطوني : إنه التمييز بين الماهية والمظهر، بين المعقول والمحسوس، بين المثال والصورة، بين الأصل والنسخـة، بين النموذج والسيمولاكر. إلا أننا سرعان ما نتبين أن هاته العبارات لا تعني الشيء ذاته. لينـزاح التمييز إلى التفرقة بين نوعين من الصور: النسخ التي يقوم ادعاؤها على أسس متينة، ضامنها في ذلك الشبـه، ثم السيمولاكرات التي لا أساس لادعائها، والتي تقوم على اللاتشابه والخلل، وعلى انحراف جوهري. بهذا المعنى يوزع أفلاطون مجال الصور ـ النماذج إلى قسمين : فمن جهة النسخ ـ الأيقونات، ومن جهة أخرى السيمولاكرات والاستيهامات. بإمكاننا حينئذ أن نحدد الدافع الأفلاطوني في مجموعه : يتعلق الأمر بانتقاء المدعين الزاعمين، والتمييز فيهـم بين النسخ الجيدة والنسخ الرديئة، أو بالأولى، بين النسخ القائمة على أساس وبين السيمولاكرات الساقطة في هاوية اللاتشابه. يتعلق الأمر بضمان انتصار النسخ على السيمولاكرات, وقمع هاته الأخيرة وضبطها وطمسها وتركها تحت القيود، والحيلولة بينها وبين أن تطفو على السطح لتفرض نفسها في كل الأنحاء.

    وما وجود الثنائي الظاهر : المثال والنسخة، إلا من أجل هاته الغاية، وهي ضمان التمييز والتمايز الكامن بين نوعي النسخ، وتوفير معيـار عيني. ذلك أن الأيقونات إن كانت نسخا جيدة قائمة على أساس متين، فلأنـها تتمتع بالتشابه. لكن التشابه لا ينبغي أن يفهم كعلاقة خارجية : إنه لا ينتقل من شيء إلى شيء آخر،  بقدر ما ينتقل من شيء إلى مثال، مادام المثال هو الذي يشمل العلائق والنسب المكونة للماهية الباطنية.   إن التشابه، بما هو باطني وروحي فهو معيار الادعاء : إن النسخة لا تشابه شيئـا حق الشبه إلا بمقدار ما تشبه مثال الشيء. لا يوافق صاحب الادعـاء الموضوع إلا بقدر ما يُـقَـدّ على المثال. وهو لا يستحق الصفـة إلا بمقـدار ما يتأسس على الماهية.  والخلاصة، فإن تطابق المثال وهويته العليا هي التي تؤسس الادعاء الجيد للنسخ وتدعم زعمها، وتؤسسها على تشابـه باطني.

    لننظر الآن إلى النوع الآخر من النسخ، أي إلى السيمولاكرات : إن ما تدعيه هاته النسخ وما تزعمه،   أي الموضوع أو الصفة إلخ..، تدعيه بطريقة ملتوية ومن أجل عدوان وتحريض وحث وخلخلة “ضد الأب”، ودون مشورة المثال. إنه ادعاء وزعم لا يقومان على أساس، وينطويان علـى لا تشابه واختلال داخلي.

    وإذا ما اكتفينا بالقول إن السيمولاكر نسخة عن نسخة، وإنه أيقونة متدهورة وتشابه ممحوّ، فإننا نظل بعيدين عن الصواب، ولن ندرك الاختلاف في الطبيعة بين السيمولاكر والأيقونة، وكونـهما يشكلان نصفي قسمة واحدة. الأيقونة نسخة تتمتع بالتشابه، أما السيمولاكر فهو نسخة بلا تشابه. ولقد جعلتنا العقيدة المسيحية، التي طالما استلهمت الأفلاطونية، جعلتنا في ألفة مع هذا المفهوم. إن الإله خلق الإنسان على صورته وشبهـه. لكن الإنسان،  بفعل الخطيئة، فقد الشبه محتفظا بالصـورة. إنه غدا سيمولاكر وفقد الوجود الأخلاقي  ليقتحم الوجود الجمالي. فضيلـة هاته المقارنة أنـها تكشف عن الجانب الشيطاني في السيمولاكر. صحيح أنه يولد مفعول تشابه، بيد أنه مفعول المجموع، مفعول خارجي، تنتجه وسائل مخالفة أشد المخالفة لتلك التي تعمل في النموذج. يتشكل السيمولاكر على أرضيـة من التشتت وعلى الاختلاف. إنـه ينطوي على لا تشابه. لذا فإننا نعجز عن تحديده نسبة للنموذج الذي يفرض نفسه على النسخ، نموذج الهوية الذي تتولد عنه تشابـهات النسخ. إذا كان للسيمولاكر نموذج، فهو نموذج آخر، نموذج الآخر.[…]

    على هذا النحو، فإن الأفلاطونية تقيم أسس الميدان الذي ستعترف الفلسفة بأنه ميدانها: أي ميدان التمثل الذي يعج بالنسخ الأيقونات، والذي يتحدد، لا عن طريق علاقة خارجية مع الموضوع، وإنما عن طريق علاقة داخلية صميمية مع النموذج أو الأساس.[…]

    يعني قلب الأفلاطونية، والحالة هاته، الإعلاء من السيمولاكرات، والاعتراف لـها بحقها بين الأيقولات. لن يتعلق الأمر بعدئذ بالتمييز بين الماهية والمظهر، أو بين النموذج والنسخة، إن هذا التمييز يتم بأكمله داخـل عالم التمثل، يتعلق الأمر بمد الخلل إلى أن يبلغ عالم التمثـل. أي ب “أفول الأصنام”. ليس السيمولاكر نسخة محرفة. إنه ينطوي على قوة إيجابية تنفـي الأصل والنسخة، والنموذج والاستنساخ. فبـين السلسلتين المختلفتين اللتين ينطوي عليهما السيمولاكر على الأقل  ، ليس منها ما هو أصل، وليس منهـا ما هو نسخة. ولا يكفي أن نستغيث بنموذج الآخر، لأنـه لا نموذج يقف أمام دوار السيمولاكر. فلا وجود لوجهـة نظر متميزة، كمـا لا وجود لموضع مشترك بين وجهات النظر جميعها. لا مكان للتفاضل، فلا ثاني ولا ثالث…  إن التشابه يظل قائما، لكنه تشابه يتولد عن السيمولاكر كمفعول خارجي، من حيث إنه يتشكـل حول السلسـلات المختلفة ويدفعها إلى العمل. إن الهوية تظل قائمة، لكنها منتوج يتولد، إنـها القانون الذي يهيمن علـى السلسـلات. في قلب الأفلاطونية يطلق التشابه على الاختلاف المستبطـن، وتطلق الهوية على المخالف، كقوة أولى. لا ماهية للذاتي والمشابه إلا كونـهما يتشبَّهـان،   أي أنـهما يعبران عن عمل السيمولاكر.[…]

    إن كون الذاتي والمشابه وليدي تشبّه لا يعني أنـهما مجرد مظاهر وأوهام. إن التشبه يدل على قوة توليد مفعول. لا بالمعنى العلي، مادام من شأن العلة أن تظل فرضية غير محددة إن لم تتدخل دلالات أخرى. بـل بمعنى “الدليل والعلامة”، ذلك الدليل المتولد عن عملية الدلالة ؟ وأيضـا بمعنى “اللباس” أو بالأولى القنـاع، الذي يعبر عن حركة تقنّع   واختفاء حيث يوجـد خلف كل قناع قناع آخر وهكذا… إن التشبّه، مفهومـا على هذا النحو، لا ينفصل عن العود الأبدي ؛ ذلك لأن قلب الأيقونات وخلخلة عالم التمثل يتمان في العود الأبدي. فهنا يتم الأمر كما لو أن مضمونا كامنا يتعارض مع محتوى ظاهر. إن المحتوى الظاهر للعود الأبدي يمكن أن يحدد بالنسبة للأفلاطونية بصفة عامة : إنه يمثل الكيفية التي ينتظم بـها الكاووس نتيجة تدخل الصانع، ووفق نموذج المثال الذي يفرض عليـه الـهوية والشبه. بـهذا المعنى الأفلاطوني فإن العود الأبدي هو الصيرورة الحمقاء وقد ضبطت وشُـدّت إلى مركز واحد،   وحكم عليها بأن تستنسخ الأبدي. وهـذا هو النحو الذي يظهر به في الأسطورة المؤسسة.  إنه يقيم النسخة في الصورة، ويجعل الصورة تابعة للتشابه. ولكن، بعيدا عن أن يمثل هذا المحتوى الظاهرُ حقيقةَ العود الأبدي، فإنه يدل بالأحرى على استعماله وبقاياه الأسطورية داخل إيديولوجية لم تعد تقوى عليه وتتحمله.  ولا بأس أن نذكر هنا كم كان الفكر الإغريقي بصفة عامة، والأفلاطونية على الخصوص، ينفران من المضمون الكامن للعود الأبدي. كما ينبغي تصديـق نيتشه عندما يعتبر أن فكرة العود الأبدي فكرته هو، وهي فكرة تتغذى على المنابع الديونوزسية والباطنية التي تجاهلتها الأفلاطونية وكبتتها.[…]

    إن سر العود الأبدي، هو أنه لا يعبر قط عن نظام يعارض الكاووس ويخضعه. إنه على العكس من ذلك، ليس إلا الكاووس، إنه القدرة على إثبات الكاووس. […] عوض انسجام التمثل يضع العود الأبدي شيئا آخر، إنه يضع تيهه الخاص. ذلك لأن بين العود الأبدي والسيمولاكر رابطة عميقة بحيث إن أحدهما لا يفهم إلا عن طريق الآخر. فما يعود هو السلسلات المختلفة بما هي مختلفة، أعني كل واحدة منها بما هي تغير موقع اختلافها مع كل ما تبقى،  وهي جميعا بما هي تشدد من اختلافها في الكاووس الذي لا بداية ولا نـهاية له. إن دائرة العود الأبدي هي دوما دائرة ذات مركز خارجي. لم يحد كلوسوفسكي عن الصواب في قوله عـن العود الأبدي “إنه سيمولاكر عقيدة” :إنه الوجود، ولكن فقط حين يغدو الموجود   سيمولاكر.[…] إن العود الأبدي هو الذاتي والشبيه، ولكن كوليد للتشبّه، وكمتولد عن السيمولاكر، (إرادة القوة). بـهذا المعنى هو يقلب التمثل ويقوض الأيقونات : إنه لا يفترض الذاتي والشبيه، وإنـما على العكس من ذلك، هو الذي يشكل الـهوية الوحيدة لما هو مخـالف، والشبه الوحيد لما هو غير مشابه. إنه الاستبهام الوحيد لكـل السيمولاكرات (وجود كل الموجودات). إنه قدرة على إثبات التنوع والخلخلة.  وهو يجعـل منها موضوع إثبات سام.  إنه يعيد ما هو موجود تحت هيمنة الادعاء. لذا فهو لا يعيد كل شيء. إنه ينتقي، ويقيم الاختلاف. لكـن ليس مطلقا على نحو ما يفعله أفلاطون.[…]

    تُـحدَّد الحداثة بقوة السيمولاكر. يتعين على الفلسفة لا أن تكون حديثة بالرغم من كل شيء، ولا أن تكون مستقلة عن الزمان، وإنـما أن تبرز في الحداثة شيئا كان نيتشه يحدده كشيء ضد الزمان، أي شيء ينتمي إلى الحداثة، ولكنه في الوقت ذاته ينبغي أن ينقلب ضدها “لصـالح زمان مستقبل”. إن الفلسفة لا تنشأ في الغابات والدروب، وإنما في المدن والأزقـة بما فيها من أشياء مفتعلة. يقوم اللازماني بالنسبة إلى الماضـي السحيق في قلب الأفلاطونية، وبالنسبة إلى الحاضر في السيمولاكر، من حيث إنه قمة هاته الحداثة النقدية، وبالنسبة إلى المستقبل في استيهام العود الأبدي كايمان بالمستقبل. ليس المفتعل هو السيمولاكر. بل إنـهما يتعارضان. إن المفتعل هو دوما نسخة عن نسخة، إنه نسخة ينبغي أن يدفع بـها إلى أن تغير من طبيعتها فتنقلب سيمولاكر. يتعارض المفتعل والسيمولاكر في عمـق الحداثة مثلما يتعارض نمطان من التقويض : أي نوعين من العدمية. ذلك لأن هناك فرقا كبيرا بين التقويض من أجل المحافظـة على النظام القائـم للتمثلات والنماذج والنسخ وجعله يستمر ويمتد ؛ وبين تقويض النماذج والنسخ لإقامة الكاووس الذي يبدع، والـذي يحرك السيمولاكر ويرفع الاستيهـام. ذاك هو أكثر أشكال التقويض براءة، إنه تقويض الأفلاطونية.


    – نشر هذا المقال أولا في مجلة Revue de Métaphysique et de Morale سنة 1967 ثم أعيد نشره منقحا وتحت عنوان “أفلاطون والسيمولاكر” ضميمة لكتاب : Logique du sens, minuit, coll 10/18, 1969, pp.347-361.

  • مفهوم الإنتباه في الفلسفة اسماعيل باش

    مفهوم “الانتباه ” موضوعا للانشغال الفلسفي: مقاربة تاريخية

    تقديم: مفهوم الإنتباه في الفلسفة

    تقدم الأستاذ الفاضل اسماعيل باش صبيحة يومه الاثنين 2015/12/28. بمداخلة قيمة همت الإنتباه في الفلسفة، وذلك في إطار مناقشة موضوع العرض الذي قدمه الأستاذ الكريم عبد العزيز عسيلة بمدرسة حمان الفطواكي ( الانتباه في علم النفس المعرفي).

    المداخلة، رصد حصيف، وتتبع تاريخي كرونولوجي للحظات أساسية، حظي فيها مفهوم “الانتباه” باهتمام التناول الفلسفي من طرف ثلة من المفكرين والفلاسفة”.

    “أشير إلى بعض الملاحظات المتعلقة بهذا الموضوع المرتبط بمشكلة “الانتباه”. طُرح هذا المفهوم منذ الفلسفة الإغريقية إلى حدود الفلسفة المعاصرة. ظهر هذا المفهوم مع الرواقيين ( les stoiciennes )، و الذين أكدوا على قيمة الانتباه الدائم (Lattention‏ ‏permanente) لقد ألح هؤلاء الفلاسفة على ضرورة الانتباه الدائم للفيلسوف بالنسبة لليومي. Le quotidien) فالانتباه يمكننا من أن نتعلم كيف يمكن أن نعيش بالفلسفة في حياتنا اليومية.

    كل المحاورات الفلسفية لـ Epictète و Marc Aurel اهتمت بمسالة توجيه الحياة من خلال الانتباه إلى درجة أن الفيلسوف الألماني Hegel في مؤلفه الفلسفي .”phénoménologie de l’esprit” أشار إلى أن مبدأ الرواقية هو اعتبارا الانتباه جوهر فكري “Essence pensante”، حيث يُربط فيه الانتباه بتجربة الوعي، ويتحول الانتباه إلى التأمل “contemplation”.‏

    لكن أول فيلسوف اتخذ من مشكلة الانتباه موقفا فلسفيا هو Saint Augustin لأنه نظر إلى الانتباه من خلال مفهوم الذاكرة والزمن، وهذه ملاحظة أشارت إليها “Natalie Deprez ” في مؤلفها الرائع Attention et Vigilassions و هو مؤلف فلسفي تحدث بعمق فلسفي عن مشكلة الانتباه انطلاقا من الفلسفة الفينومينولوجية.

    صحيح هناك تصورات حديثة في الفلسفة الحديثة مع ديكارت الذي ربط مفهوم الانتباه بالإرادة، وألان Alain الذي عالجه من خلال مفهوم الوعي، لكن تظل محاولة أوغسطين الأكثر عمقا في تاريخ الفلسفة، حيث ستفتح الأفق الفلسفي لهذا المفهوم في الفلسفة الألمانية مع كانط في كتابه ” نقد العقل الخالص”.

    وسيتعمق مفهوم الانتباه بشكل أكثر قوة في الفلسفة المعاصرة مع كل من برجسون Bergson، حيث سيطرح مفهوم الانتباه من خلال مشكلة الذاكرة، وهوسرل الذي تناول موضوع الانتباه انطلاقا من مفهوم التأمل، خاصة أن الفينومينولوجيا تركز على تأمل المعيش Le vécu .

    لكن المقال القوي في الفلسفة المعاصرة هو ما قام به بول ريكور، ففي نظر بعض الباحثين كتب بول ريكور مقالا فلسفيا سنة 1939 حول مفهوم الانتباه وعالجه من خلال فلسفته التأويلية التي تنفتح على المقاربة الفلسفية وعلى نتائج العلوم الانسانية، لكن بعيدا عن النزعة الوضعانية وبعيدا عن أية مقاربة ميتافيزيقية تفتقد إلى لطافة الملموس finesse du concret اتخذ مفهوم الانتباه بعدا انطولوجيا فلسفيا لأنه ينطلق من سؤال الفلسفة: ما هو هذا الإنسان؟

    هناك إضافة أخرى أريد أن أشير إليها: إن الإنسان عند أوغسطين كائن منتبه لأنه كائن يتذكر، ولذلك فالانتباه أشد الأفعال التصاقا بالذات والوعي، واتخذ مفهوم الانتباه مسافة من مفهوم الخيال والمادة والجسد. الانتباه ديمومة متصل، بلغة برجسون، لا توجد فيه فجوة، أما الخيال Limagination فہو مکان (espace)

    ‏الانتباه بوصفه حدس داخلي اسقاط للمكان والجسد، والمكان لا يتمثل إلا بالعقل، لأن العقل لا ينتصر إلا في ميدان الهندسة كما يقول برجسون.


    المراجع المعتمدة

    ◆ ناتالي ديبراز: الاهتمام واليقظة .P.E.F:2004.

    ‏◆ القديس أوغسطين: الاعترافات. بوتشي 1993.

    ◆ هيغل: Phénoménologie de l’esprit. إد: ب.ف.ف

    ◆ بيرجسون: Matière et Mémoire. جاليمارد.‏

    ◆ P.Ricœur: الأنثروبولوجيا الفلسفية والكتابات والمؤتمرات 3. إد: سيويل.

  • مسألة التأريخ للفلسفة اليونانية بين المحلي والكوني عبد الرحمن بدوي نموذجا

    تمهيد :

    لازال الفكر اليوناني يشكل اهتماما خاصا لدى المفكرين بمختلف المجالات المعرفية، على الرغم من الحشد من النظريات الفلسفية والسياسية التي أنتجتها الفلسفة الحديثة، ورغم تغير البنيات على صعيد الإنتاج المادي وأدوات هذا الإنتاج فلا زالت الإنتاجات النظرية حاضرة بقوة في تاريخ الفكر، ولازالت “نصوص القرن الخامس قبل الميلاد، تسائلنا، ولا يمكن لأي فيلسوف في أيامنا أن يدعي بأنه يفكر أفضل من أفلاطون، (1) فالفكر، حسب نيتشه، لا يخضع لقوانين “الموضة” ولا يفقد مع مرور الزمن قيمته.

    وإذا كان هذا الأمر يسري على كل فكر، فإن الفكر اليوناني اختص بنصيب أكبر من البقاء والفعل والتأثير. يقول نيتشه في حديثه عن عوامل تشكل الفكر الفلسفي اليوناني في مرحلة ما قبل سقراط : ” أنهم ابتكروا في الواقع الأنساق الكبرى للفكر الفلسفي، ولم يبق لمجمل الأجيال اللاحقة أن تبتكر شيئا جوهريا يمكن أن يضاف إليها … لقد كانوا جميعا، في وحدتهم المهيبة، الوحيدين الذين عاشوا حينذاك للمعرفة فقط، وهي تقوم على إيجاد شكلهم الخاص، وعلى مواصلة اكتماله، بفضل التحول، في أدق تفاصيله وفي أرحب اتساعه. إنهم لم يستعينوا بأي زي شائع كان يمكن أن يسهل مهمتهم. وبذلك هم يشكلون جميعا، ما أطلق عليه شوبنهاور- بالتعارض مع جمهورية العلماء- اسم جمهورية العباقرة” (2)
    لم يقتصر الاهتمام بالإنتاجات الفكرية للإغريق على التيارات الغربية في اختلاف مناهجها وتباين مستويات نقدها، بل طال أيضا وبالخصوص الفكر العربي وبات حضور الإرث اليوناني في الفكر العربي مسألة لم ينكرها إلا التيارات المتشبثة بأصالة الفكر العربي و رفضها لكل تأثير براني.
    لقد تناول الفكر العربي جل مناحي الميراث اليوناني، ترجمة ونقدا، واستعمله استعمالا يتناسب ومقاصده الذاتية. يقول حسين حرب، في حديثه عن أهمية الفلسفة السياسية بالنسبة لرهانات واقع العالم العربي : “أما إنجازات عقلهم السياسي فتستوقفنا- نحن العرب- أكثر من غيرنا. كيف لا ونحن لا نزال، في الربع الأخير من القرن العشرين، نطالب بالديمقراطية والمشاركة في صنع القرار السياسي وغير ذلك من الشعارات التي حققت واقعا سياسيا عند اليوناني –الإثيني- في تلك الحقبة من تاريخه. لقد أتيح لجميع الأثينيين الأحرار المشاركة الفعلية، بشكل أو بآخر في حكم مدينتهم(3)

    ظهر الفكر اليوناني، إذن، كنموذج للحضارة العربية في تطورها عبر التاريخ، فلقد أعطى الفكر اليوناني لغة مفتوحة ُيمكن بواسطتها عقد حوار بين المفكرين، بدل اللغة المغلقة لغة العقائد التي لا تحتمل التغيير أو التبديل في معانيها، كما كانت لغة عقلية محضة، واضحة بذاتها، يمكن فهمها من مضمونها الخاص، في مقابل استعمال لغة عقائدية مسلم بها بدءا، واستعمال اللغة العقلية كان من شأنه استعمال العقل أيضا. فقد صاحب العقل اللغة، في حين أن اللغة العقائدية القديمة كانت تمنع من استعمال العقل. كانت لغة مثالية تفهمها الأجيال في عصر النهضة أو في العصور الحديثة، لغة تجعل الحقيقة في الفكر، وتجعل جوهر الإنسان النطق، في حين أن اللغة القديمة كانت أبعد ما تكون مثالية، بل كانت حسية شيئية تاريخية، ترفض حتى الإعتراف باستقلال الإنسان ووعيه. وأخيرا كانت لغة إنسانية، مرتبطة أشد الإرتباط بالإنسان في عقله وحريته وسلوكه.(4)

    1. مراحل التشكل التاريخي للفلسفة اليونانية

    من بين المشاريع التي راودها الإهتمام بالتراث اليوناني، (تأريخا ونقدا وترجمة…) كأحد مصادر الفكر العربي والغربي قديما وحديثا، نذكر مساهمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، والتي غطت كتاباته جل الميادين المعرفية والتي صنفت إلى مبتكرات، دراسات فلسفية تضم المنطق والشعر والترجمات، وخلاصات الفكر الأوربي التي تشمل دراسة أعلام الفلسفة الحديثة مثل نيتشه واشبنجلر وشوبهاور وشلنج، أو الفلسفة اليونانية مثل أفلاطون وأرسطو (باعتبارهما صيف الفكر اليوناني)، مع ربيع الفكر اليوناني ( البداية) وخريف الفكر اليوناني (النهاية) وفلسفة العصور الوسطى مع الدراسات الإسلامية وتشمل التحقيق والترجمات العربية القديمة لأرسطو وأفلاطون وأفلوطين لنقل التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية. فعبد الرحمن بدوي، إذا، ُيعتبر مؤرخا وناقدا لتراث الإنسانية في العصر اليوناني إلى العصر الحاضر.

    ولعل ما قدمه د.بدوي، من كتابات إنما يؤسس ليس فقط للدراسات الفلسفية وإنما لخلق وعي عربي معاصر أو ما يسميه بإيحاء من نيتشه ب “ثورة روحية معاصرة” تواكب الثورة السياسية. ونحن اليوم نحيى في عالم يعيش تناقضات واختلال التوازنات السياسية وهيمنة واستبداد القوى العظمى وتحكمها في قوى ووسائل الإنتاج..، ما أحوجنا إلى “ثورة روحية” للوعي بمسؤولياتنا الراهنة والتأكيد على دور الفلسفة في تأسيس الوعي القومي والحضاري التي يمكنها خلق حياة جديدة تسعى إلى توفير الشروط اللازمة للرقي بالقيم الحضارية والوقوف ضد كل أشكال التسلط والإحتلال.
    أهمية ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدوي تكمن في تأكيده الدائم على دور الفلسفة في ربط علاقة تأسيسية بالمواضيع من تفكيك وإعادة تركيب من أجل التحرر من نسق اليقينيات والانتهاء إلى خلق حياة جديدة ونظرة جديدة للكون والحياة والتاريخ. ولعل هذا المسعى قد غطى جل اهتماماته في الفكر الغربي القديم والمعاصر، والتراث العربي الإسلامي، وإبداعه الفلسفي تأليفا وتحقيقا وترجمة، مما شكل إحدى المصادر الهامة بالنسبة للباحثين في مختلف الميادين المعرفية.
    تأتي اهتمامات عبد الرحمن بدوي، ضمن مشروعه في مختلف فروع الفلسفة وتاريخها القديم والحديث والمعاصر، ولعل الوقوف على إنتاجا ته في تعددها وتباينها، ُيبين أن هناك اهتمام خاص للتأريخ للفلسفة الغربية عموما، وللفلسفة اليونانية خصوصا، باعتبارها أصل التفكير الغربي خاصة والفكر الفلسفي العالمي بصفة عامة.
    صنف د. بدوي الفلسفة اليونانية إلى ثلاث مراحل : مرحلة التعريف بأصول الفلسفة اليونانية والتعريف بمفاهيمها حيث يماثلها بفصول السنة، الربيع والصيف والخريف والشتاء وقد قدم تأريخا للفلسفة اليونانية وفقا لهذا التحقيب حيث يعود إلى ينابيع الفكر اليوناني معتبرا أن ربيع الفكر اليوناني يشكل مرحلة ما قبل أفلاطون ويشكل الصيف أفلاطون وأرسطو والخريف المدارس الأخلاقية بعد أرسطو، ويتضمن الشتاء نهاية الفلسفة اليونانية في الأفلاطونية المحدثة.
    يتناول عبد الرحمن بدوي الفلسفة اليونانية ضمن طرحه لإشكاليات تتعلق بكيفية قراءة تاريخ الفلسفة وماهي الأسس التي تنبني عليها كتابة هذا التاريخ ثم ماهو المنهج والقوانين التي يجب على مؤرخ الفلسفة أن يسير عليها لبحثه في التاريخ ؟
    يعالج د. بدوي هذه الإشكاليات المتعلقة بالتأريخ للفلسفة ويحصرها في ثلاث مشاكل رئيسة
    الأولى تتعلق بمشكلة نشأة الفلسفة، بمعنى “ماهو التاريخ الذي نستطيع أن نقول عنده أن الفلسفة قد وجدت بالفعل، ومنه نستطيع بعدئذ أن نبدأ البحث في تاريخ الفلسفة”.
    الثانية ترمي إلى استشكال حدود الفلسفة ومعرفة إلى أي حد يمكن أن نقول أن هناك تاريخا للفلسفة، ونعتبر أن هذا التاريخ مستقل عن بقية العلوم الروحية. أي ما هي الفلسفة أولا، وثانيا ماهي الصلة بين الفلسفة وبين بقية العلوم الأخرى وهل يمكن للفلسفة أن تفهم مستقلة عن بقية مرافق الحياة الروحية ؟
    الثالثة تتساءل عن ما إذا كان هناك قانون خاص تسير عليه المذاهب الفلسفية في تطورها ؟ ما طبيعته وما تجلياته عبر التاريخ ؟ وهل المذاهب الفلسفية تنحل كلها إلى مذهب واحد، وكل المذاهب التالية ما هي إلا إعادة إنتاج للمذهب الأول ؟ (6)

    1.1-المشكلة الأولى : أين يبدأ تاريخ الفلسفة

    في محاولة للإجابة على التساؤل الأول المتعلق بنشأة الفلسفة، يعتبر د. بدوي، أن اكتشاف الإنسان لذاته وبزوغ الضمير الإنساني بدأ مع اليونان، مؤيدا بذلك التيارات التي تعتبر أن نقطة بداية الفلسفة هي القرن السادس قبل الميلاد على يد طاليس الملطي، معارضا بذلك كل المحاولات التي تسعى إلى اعتبار الفكر الشرقي مرجعا للفكر الفلسفي اليوناني. من بين الدلائل التي قدمها للدفاع عن أطروحته، تمييزه بين العلم لدى الشرقيين القدامى والعلم اليوناني، معتبرا أن العلم عند الشرقيين من بابليين ومصريين كان تجريبيا، بينما عند اليونان كان نظريا صرفا, فاليونان وضعوا المقدمات والشرقيين أخذوا بالنتائج : ” أجل إن الرياضيات كانت عند المصريين مماثلة في كثير من نتائجها للرياضيات عند اليونان والمصريين. فالرياضيات كانت عند المصريين والأشوريين، تجريبية صرفة، أي أنهم حينما كانوا يريدون مثلا أن يضربوا عددا ما في العدد 3، كانوا يضيفون الضارب إلى الضعف المضروب فيه , فلم يكونوا يعرفون إذا نظرية الضرب، بل كانوا يستخلصون النتائج بطريقة عملية دون أن يعرفوا الأساس النظري التي تقوم عليه عملية حسابية ما ” (7)
    واضح، إذا، أن نظرة عبد الرحمان بدوي لبداية الفلسفة تقع ضمن النظريات، سواء الغربية منها أو العربية، التي تنفي وجود فلسفة عربية وتشكك بمشروعيتها وأصالتها. هذه النظرة تنطلق من بعض المسلمات التي مفادها أن الفلسفة العربية لم تكن في يوم من الأيام لتستلهم روح النقد والتعليل اللازم لكي تؤسس مشروعا فلسفيا أصيلا. (8)
    أما الموقف السائد لدى مؤرخي الفلسفة اليوم فهو الاعتراف بالفلسفة الإسلامية وبخصوصية تميزها عن الفلسفة اليونانية، فمنذ السبعينيات بدأ التفكير في إعادة قراءة تاريخ الفلسفة من أجل إبراز الطابع الخاص للفلسفة الإسلامية والفكر العربي باعتبار الإسهامات المتعددة في التطور الثقافي للإنسانية.
    بدأ الاعتماد بالخصوص بآليات ومناهج العلوم الإنسانية (سواء المتعلقة بالتطور الفيلولوجي أوالدراسات البنيوية أوالمنهج المقارن…) وذلك من أجل ملامسة الشروط التي حكمت طبيعة العلاقات وفق اشتراطات مناهج العلوم الإنسانية الحديثة. وتبين آنذاك أن التقابل بين الفلسفة الإسلامية والعلم اليوناني هو في الأساس تقابل بين حضارتين مختلفتين على مستوى البنيات السياسية والفكرية وكذا على مستوى السلطات المرجعية التي تستمدها كل حضارة من تاريخها، إلا أنه، بفعل تراكم التجارب والمعلومات وانتقالها عبر الزمان والمكان، حصل نوع من التفاعل بين الثقافتين، وخصص الفلاسفة العرب جل اهتماماتهم لقراءة وتأويل الإرث الثقافي اليوناني في مختلف مشاربه.

    1.2-المشكلة الثانية : حدود الفلسفة

    يتساءل، د. بدوي، عن حدود الفلسفة في ما إذا كانت حكرا على الغرب أم تمت مكانا للفكر الشرقي ؟ رغم إقراره بعدة صلات بين اليونانيين والشرقيين، ابتداء من حكم الاسكندر حتى نهاية الحروب الصليبية، إلا أنه لا يمكن إثبات مصدر التأثير والتأثر بين اليونان و الشرق، بل الأدهى من ذلك أن ظهور الفلسفة في الشرق كانت صورة مشوهة للفلسفة اليونانية، معتبرا أن الاهتمام بها هو مسألة اضطرارية، “باعتبارنا شرقيين تقريبا ومسلمين غالبا” . ويتمن د, بدوي، هذه الأطروحة في موضع آخر بقوله أن الحضارة الإسلامية لا تأخذ من الحضارة اليونانية إلا ما ليس بمقوم جوهري لهذه الحضارة، تأخذ منها العلوم التي هي قدر مشترك بين الناس جميعا ولا تأخذ منها الفنون والعلوم الروحية، وما أخذته الحضارة الإسلامية عن الحضارة اليونانية هو ما كان دخيلا على هذه الروح، فهي تأخذ تلك العناصر الشرقية التي امتزجت بالعناصر اليونانية، ولم تأخذ شيئا مما يميز الروح اليونانية وفي ذلك تعليل واضح للنجاح الذي لقيته الأفلاطونية الجديدة في العالم الإسلامي، أما أرسطو اليوناني فلم تستطع الروح الإسلامية أن تهضمه، واستعانت على هضمه بالأفلاطونية المحدثة . (10)

    1.3-المشكلة الثالثة : علاقة الفلسفة بالعلوم

    ينفي د. بدوي ، وجود حدود ثابتة بين الفلسفة والعلم، أو بينها وبين الدين والسياسة ، وإنما هي حدود مختلطة، تارة تضيق وتارة تتسع، فبعد ما كان العلم داخلا ضمن نطاق الفلسفة في العصر اليوناني، بدأ العلم ينفصل عن الفلسفة وكاد الانفصال أن يكون تاما في العصر الأخير من عصور الفلسفة اليونانية، ثم بدأت صلة جديدة بين الفلسفة والدين في العصر الوسيط، حيث أصبحت الفلسفة خاضعة للدين خضوعا تاما. ثم جاء العصر الحديث فانفصل العلم عن الفلسفة نهائيا وانفصت الفلسفة عن الدين كذلك، وفي أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين لم يعد للفلسفة وجود إلا داخل العلم. وبعد الحرب الأولى الكبرى استقلت الفلسفة عن العلم من جديد، وأصبح لها وجود ذاتي، وصار تاريخها مستقلا قائما بذاته. لا يمكن للفلسفة أن تنفصل عن الأشخاص الذين أنتجوها ولا عن روح العصر الذي ظهرت فيه، كما أنه لا يمكن رسم حدود قارة بينها وبين العلم ، أو بين الفلسفة والدين، أو بينها وبين الفن والسياسة، لابد أن ننظر إلى هذه الحدود على أنها متغيرة حسب الزمان والمكان، وحسب الملابسات الخاصة بكل فيلسوف على حدة. (11)
    انتقل عبد الرحمن بدوي، بعد ذلك إلى الحديث عن تاريخ تأريخ الفلسفة، متسائلا في البداية عن القانون الذي من شأنه أن يفسر التطور والصلات الضرورية بين المذاهب، حيث بدأ في استعراض آراء المؤرخين منذ فلوطرخس الذي كتب كتابا عن “أقوال الفلاسفة” وذيوجان اللائرثي صاحب كتاب “حياة الفلاسفة” الذي شكل مرجعا رئيسيا لتاريخ الفلسفة ..، ومرورا بمساهمات الفلسفة في عصر النهضة مركزا بذلك على منهج هيجل واسبنجلر، فتاريخ الفلسفة مع هيجل، خلاصته أن كل موضوع أو فكرة مرتبطة أشد الارتباط وبدون انفصال، عن الموضوع أو الفكرة المناقضة له، ولا بد من أن يرفع التناقض الموجود بين الشيء ونقيضه لكي نصل إلى مركب يعلو على الإثنين ويرفع التناقض الموجود بين كلا الشيئين المتناقضين ليصل في النهاية إلى شيء ثالث هو التركيب، فتاريخ الفلسفة بهذا المعنى ليس إلا الروح المطلقة الكلية التي تتطور انطلاقا من منهج ديالكتيكي ، فالفلسفات السابقة لا تلغي اللاحقة بل تتضمنها وترتفع على التناقض لكي تصل إلى التركيب، وهي نفس الفكرة التي تنطبق على العلاقة بين المذاهب، فالإختلاف بينهما لا يعني اختلاف في الجوهر وإنما كل مذهب يتضمن المذهب السابق ويعلو عليه، والنتيجة هي أنه كلما تأخر المذهب كان أكثر تقدما لأنه يحتوي كل السابقة.
    ينتقد د. بدوي، هذه النظرة الهيجلية التي تعتبر أن التاريخ قد تحدد منحاه مسبقا وأنه يستند على صورة إجمالية توجد وجودا جوهريا في طبيعة العقل الإنساني، مبينا أن البحث العلمي لا يمكنه أن يقر بهذه الأطروحة. بعد عرضه للتيارات المعارضة للتصور الهيجيلي والتي ظهرت في النصف الثاني من القرن 19 مع نوفييه، الذي يعتبر أن الاختلاف بين المذاهب هو اختلاف جوهري، اختلاف في طبيعة العقل البشري، المتسمة بالتناقض والتعارض, ارتضى أخيرا أن يستعرض، بكثير من الاهتمام، موقف سبنجلر، باعتباره محاولة جديدة كل الجدة : ” هذه المحاولة هي التي قام بها فيلسوف نعده أكبر فلاسفة الحضارة ونعني به أوزفلد اسبنجلر” (12)

    2. خصائص الفلسفة اليونانية في العصر الأول : ربيع الفكر اليوناني
    يقسم د. عبد الرحمن بدوي، العصر الأول إلى مرحلتين، الأولى تبدأ مع طاليس وتنتهي مع المدرسة الأيلية، وتبدأ المرحلة الثانية مع هيرقليطس وتنتهي مع أناساغوراس. ويحدد خصائص الفلسفة اليونانية في عصرها الأول معتبرا أنها فلسفة طبيعية، فهي تتجه مباشرة نحو الظواهر الطبيعية التي تصدر إليها من الخارج. ويطرح في هذا الإطار إشكالية تتساءل عن مدى نجاعة تقسيم الفلسفة اليونانية إلى فلسفة واقعية وفلسفة مثالية وذلك بجعل الفلسفة الأيونية فلسفة واقعية بينما الفلسفة الفيتاغورية والفلسفة الأيلية فلسفتان مثاليتان. هذا التقسيم، في تقدير د.بدوي، يفترض مقدما أن هناك فصلا بين الجسمي والروحي أو بين المادي والروحي. هذا الفصل لا يمكن أن يستقيم بصفة قطعية، فالفلسفة الفيتاغورية أقل تجريدا من الفلسفة الأيلية، وأن هذه الأخيرة أقرب إلى المثالية من الأولى ولا يمكن وضع الإثنين في مرتبة واحدة وعلينا أن نقول، إذا بأن تمت تلاث فلسفات : فلسفة واقعية وفلسفة ومثالية وفلسفة بين بين.
    انطلاقا من هذا التحديد، يرسم د. بدوي، خصائص الفلسفة في عصرها الأول محددا إياها في ثلاث هي : الإتجاه نحو الطبيعة الخارجية، وعدم البحث في الطبيعة الداخلية، وعدم التوفيق بين الروحي والمادي. يعتبر بأن كل حضارة تقوم على أساس العلاقة بين الإنسان والطبيعة والإنسجام التام بين العالم الخارجي والعلم الباطني، بين العالم الأكبر والعالم الأصغر ونتيجة لهذه الروح لم تعن الفلسفة اليونانية في بداية نشأتها بالأخلاق الفردية، وإنما ظهرت في دور المدينة، حين ادى التمييز بين الذات الفردية، وبين الواقع الخارجي، أي بعد أن تخطت دور الحضارة إلى دور المدنية.
    وبذلك يعود، بدوي، مرة أخرى للحديث عن موضوع نشأة الفلسفة اليونانية ليؤكد رأيه السابق عن المعجزة اليونانية حيث يقول : ” أما المشكلة الأولى (نشأة الفلسفة) فقد تعرضنا لها من قبل …، وقلنا رأينا النهائي فيها وهو أن الفلسفة اليونانية لم تنشأ متأثرة بأفكار شرقية ” (13)
    وفي غياب أي تأثير شرقي على الفلسفة اليونانية، فالمصادر التي تشكل مرجعية لها ، في تقدير د.بدوي، لا يمكن إلا أن تكون يونانية صرفة، ويحددها كالتالي :
    أولا – المصدر الصوفي : يرجع د. بدوي، في ذلك، إلى تأويلات فلسفة القرن التاسع عشر ، وخاصة في نصفه الأخير، مع نيتشه ليُرجع نشأة الفلسفة اليونانية إلى التصوف، فبعدما كانت الروح اليونانية تتصور الأشياء الخارجية، معزولة عن الذات، جاء طاليس ليعطي تفسيرا موحدا للطبيعة وقال إن الكل هو الماء وبالتالي بفناء الذات في الموضوع، لم يصل طاليس إلى هذه النظرة عن طريق المشاهدة والملاحظة بل عن طريق نظرة وجدانية في الوجود أو بعبارة أخرى بنظرة صوفية
    ثانيا- التفكير السياسي : يرجع عهده إلى مرحلة ما قبل سقراط، حيث ظهر مع رجال عرفوا بالحكمة والسياسة قبل القرن السادس الميلادي، ولم يفرقوا بين الأخلاق الفردية وألأخلاق السياسية، وكان الواجب نحو الدولة أسبق من الواجب نحو الذات.
    تالثا – التفكير الأخلاقي : ظهر التفكير الأخلاقي عند اليونان في القصائد الهومرية ، وكان نتيجة انتقال الإنسان من الإنفعالات التي لا ضابط لها إلى الحكمة. أي الإنتقال من الأخلاق الفردية التي يسودها الهوى إلى الإعتراف بقانون كلي هو الذي يجب أن تسير عليه الحياة الإنسانية (14)
    يلاحظ، الدكتور مصطفى النشار، أن هناك تناقضا بين حديث المؤلف عن مصادر نشأة الفلسفة وحديثة عن خصائص الفلسفة اليونانية في عصرها الأول، إذ كيف يتسق قوله بأن من خصائص هذا العصر الإتجاه نحو الطبيعة الخارجية وعدم البحث في الطبيعة الداخلية مع قوله بأن مصدر هذا العصر الفكري هو التصوف أو الدين من ناحية والتفكير والأخلاق من ناحية أخرى. إنه لا يخفى على أحد أن التصوف والأخلاق ناتج عن البحث في الطبيعة الداخلية وليس الخارجية كما أن بحث الفلاسفة الأوائل كان ، حسب د بدوي، منصب على الطبيعة الخارجية. (15)

    3. خصائص الفلسفة اليونانية في عصرها الثاني : صيف الفكر اليوناني
    وينتقل بنا المؤلف بعد ذلك في تأريخه للفلسفة اليونانية من الربيع إلى الصيف،معتبرا أن ” سقراط وأفلاطون وأرسطو يمثلون صيف الحضار اليونانية، أي أوجها وأعلى ما بلغته من سمو حضاري، وهم من أجل هذا يكونون ثالوثا عضويا متحد الأقانيم : الأب فيه سقراط، والإبن أرسطو، والروح القدس أفلاطون. عرفت الفلسفة اليونانية، في عصرها الثاني، بتقدير د, بدوي، طريقا مخالفا لسابقتها في العصر الأول أي أنها بدأت بالإهتمام بالإنسان لتصل إلى الطبيعة وموضوع العلم كان هو الإنسان في كل مظاهره، ومن أجل هذا سيكون للأخلاق المقام الأول. أما الطبيعيات فعلى الرغم من العناية بها، فإنها ستأتي في مكان ثانوي، وسيكون للأخلاق مكانة خاصة عند سقراط الذي لم يبحث في شيء غير التصورات والماهيات والفضائل، على غرار ما فعله أفلاطون وأرسطو الذين أجمعوا على الإهتمام بالإنسان وكانت فلسفتهم أخلاقية تهتم بالماهيات في نظرية المعرفة وبوجود الماهيات بوصفه الوجود الحقيقي. وانطلاقا من هذا التحديد سيصف هذه الفلسفة بالمثالية على الرغم من كل الإختلافات الجزئية التي نشهدها لدى هؤلاء الفلاسفة الثلاثة : ” فأرسطو لا يقل مثالية عن أفلاطون لأن الوجود الحقيقي عنده هو أيضا ليس وجود المادة بل وجود الصورة وكل ما هناك من خلاف بينه وبين أفلاطون في هذا الصدد هو أن أفلاطون جعل الصور مفارقة، أما أرسطو فقد جعل الصورة والهيولى توجدان معا غير منفصلتين، بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول : إن هذا يؤدن بأن أرسطو كان مثاليا مغاليا، لأنه لم يقل إن وجود الصورة يجب أن يكون ملازما لوجود الهيولى إلا لأنه يريد أن يجعل الوجود الحقيقي دائما هو وجود الصورة أو الماهيات، إذ سيكون كل وجود في هذه الحالة، مرتبطا بوجود الماهية مما يضفي على الماهية قوة أعظم في الوجود ” (16)
    نقف هنا مع د. بدوي، على تأويل غريب لنظرية المعرفة لدى أرسطو، حيث اعتبر أن هذا الأخير كان مثاليا وبذلك سنكون أمام إقرار لتماثل بين أفلاطون وأرسطو في نظرية المعرفة باعتبار المفارقة بين الماهية والوجود. يكفي الرجوع إلى مؤلف الميتافيزيقا وأيضا مؤلف المقولات ضمن مجموعة الأرغانون الأرسطي، للوقوف على خصوصية نظرية المعرفة عند أرسطو في تعارضها مع نظيرتها عند أفلاطون  (17)
    الميزة الثانية التي طبعت الفلسفة اليونانية في العصر الثاني ، هو الإهتمام بالأخلاق والسياسة بصفة متلازمة ولم يعد الفلاسفة يفرقون بين الأخلاق والسياسة، فأفلاطون يعنى كثيرا ببيان الصلة بين الأخلاق الفردية وواجبات الدولة، وأرسطو يكرس جزءا كبيرا من بحوثه للسياسة ويجعلها مرتبطة بالأخلاق تمام الإرتباط. ومن هنا يخلص ، دبدوي، إلى القول بأن خصائص الروح اليونانية ظاهرة كل الظهور في العصر الثاني، وإن كانت تلك الخصائص بدأت تضمحل شيئا فشيئا في هذا العصر نفسه(18) . وبذلك تكون الفلسفة قد بلغت أعلى درجاتها مع أرسطو وأفلاطون، فالفلسفة الطبيعية قامت على قواعد ميتافيزيقية وأصبحت تكون نظرة شاملة في الوجود ولم يقتصر النظر على الناحية المادية من الطبيعة، بل اعتُرف بوجود ثنائية مطلقة لا سييل للقضاء عليها في داخل نظام الوجود، وهي الثنائية بين الروح والمادة، أو بين الهيولى والصورة. وأصبحت الفلسفة الأخلاقية ذات أساس ثابت بالنسبة لهذه الحضارة اليونانية، وارتُبط ما بينها وبين السياسة ولم يعد للواحد وجود دون الآخر. وعرفت نظرية المعرفة وضعها الصحيح وأضيف إليها -خصوصا مع أرسطو- تحديد دقيق لمعاني الألفاظ وبذكل بلغت الفلسفة اليونانية أعلى درجة في هذه الحضارة.

    4. خصائص الفلسفة اليوناني في العصر الثالث : خريف الفكر اليوناني
    بعد أن تعرض، دبدوي، لتأريخ الفكر اليوماني في العصر الثالث، حيث عرفت تحولا جاء نتيجة التير الذي عرفته الحياة السياسية بعد موقعة كيرونيا سنة 338، حيث فقد اليونان استقلالهم وفقدوا معه حريتهم الفردية وامتزجوا بالثقافات البرانية ومن بينها الثقافة الشرقية، على إثرهها حدث نوع مما يسميه سبنجلر باسم “التكل الكاذب” وحصل فساد وانحطاط في الثقافة اليونانية حيث غزتها الحضارة الشرقية بما فيها من تهاويل وأمور تنحل بالخوارق والسحر، وما فيها من أديان- بالمعنى السحري الصوفي- فخضعت الثقافة اليونانية لهذه العناصر الأجنبية السحرية، ومن ثم أخدت في الإضمحلال حتى أتت على نهايتها. ونتيجة لتغير الوضع السياسي، خاصة بعد فتح الإسكندر الأكبر بلاد الشرق، تحولت النظرة من الوجود ومن الفكر إلى السلوك والعمل، لم يعد المفكر ينشد من وراء تفكيره أن يدرك مظاهر الوجود، وأن يتبين ما فيه من قوى وأن يفسر ما تخضع له الطبيعة من قوانين وإنما أصبح كل همه أن يجد لنفسه قواعد للسلوك والإنعكاف على ذاتع ومحاولته إيجاد طمأنينة سلبية، وانصرف عن السياسة وأصبح يفرق بين السياسة والأخلاق. ومن هنا انصرف الإتجاه في التفكير من النظر إلى العمل، مثل المذاهب التي ظهرت بعد أرسطو من رواقية وأبيقورية وشكية، كلها انصرفت عن النظر الفلسفي الصرف وعن التفكير المجرد إلى الأخلاق العملية والسلوك.

    5. خصائص الفلسفة اليونانية في العصر الثالث : شتاء الفكر اليوناني
    ينتقل، د. بدوي في تأريخه للمرحلة الأخيرة، وهي المسماة بشتاء الفكر اليوناني، من تطور الفكر اليوناني والمستندة إلى المنهج الحضاري في التأريخ للفلسفة، متناولا إياها عبر محورين : محور فيلون ومحور الأفلاطونية المحدثة. في البداية، يعتبر أن فيلون هو أول من حاول تناول الحقيقة الدينية من وجهة نظر فلسفية، وبالتالي شكل ملتقى بين الثقافة اليونانية والتفكير اليهودي في تمازجهما لا في تناقدهما، من خلال إعماله لمنهج التفسير الرمزي، وذلك من أجل التأكيد على حضور اليهودية في الفلسف اليونانية بطريقة واضحة ومفصلة.
    وبعد ذلك انتقل إلى عرض فلسفة أفلوطين وكيفية تأكيده على العودة من العالم المحسوس إلى العالم المعقول، وتطرق لنظريته في النفس التي تقول بمفهوم حيلولة الناسوت في اللاهوت حيث يخرج الإنسان من ذاته ليتحد بالذات الإلهية. ولم يتوان، بدوي في التأكيد على الطابع الشرقي لفلسفة أفلوطين والتي لا يجب أن نعتقد أن فيها روحا يونانية. (19)

    خلاصة عامة
    يتبين مما سبق أن أهم ملامح تأريخ الدكتور البدوي ، للفلسفة اليونانية ،عبر فصولها الأربعة، وتأويله لها بروح نقدية تسعى إلى استبدال قيمه الثابتة بقيم متحركة جديدة بالوقوف عليها واستشراف مواطن القوة والحياة ومكامن النزعة الإنسانية والكونية فيه. فالتاريخ فعل متحرك يخضع حينا لمجموعة من الشروط التي تنتج فكرا متميزا تتحقق بموجبه، إبداعات فكرية وأدبية وفنية فريدة، وحينا آخر تخضع لما يسميه سبنجلر “ظاهرة التشكل الكاذب” التي ُتعتبر عامل سلب وعقم فكري وفلسفي، حيث تأخذ الصورة وتمنع الإبداع، تتبنى الشكل وتخنق الروح. فالفكر اليوناني، إذا، يتطور وفق جدلية تامة بين التبات والحركة، بين المحلي والكوني لخلق حياة إنسانية أفضل.
    إلا أن هذا التطور حكمته “بداية” هي النشأة الوحيدة للفلسفة، بحيث لا مجال للقول بالتماثل بين الإنجازات المهمة للفلسفة الشرقية قبل القرن السادس ق.م، ونتيجة لذلك، تم ابتسار الفكر اليوناني في إحدى لحظاته (الربيع والصيف) دون المراحل الأخرى (الخريف والشتاء).
    لم تحكم مسألة التأريخ للفلسفة اليونانية، لدى د. بدوي، شروط التفاعل بين الفلسفة اليونانية والثقافات المعصرة لها، بل اعتبر، في كثير من الإحيان، أن العناصر الدخيلة هي التي شكلت عامل سلب على التطور “التأصيلي” للفكر اليوناني من النشأة إلى الخفوت. وبذلك ُيغفل فيلسوفنا، أن التأثير بالفلسفات السابقة هو فعل طبيعي في السيرورة الطبيعية لتاريخ الفلسفة، وأن صفة التأثر لا تعني المماثلة والإتباع ولا تتناقض تماما مع فعل الإبداع والجدة ؛ ففعل الإبداع لا يعني الخلق من عدم بقدر ما هو فعل تحول من القوة إلى الفعل، كما عبر عن ذلك أرسطو . وبهذا المعنى يمكن القول أن كل فلسفة لا يمكن أن تتجدد بقراءة تاريخها الخاص ولكن بتفاعلها مع ثقافات عصرها واستلهامها لروح الماضي بروح نقدية، حتى يتسنى لها إعادة قراءة تاريخ الفلسفة قراءة تعيد لمختلف الفترات التاريخية قدرها من الإسهام في هذا التاريخ معيدة النظر في علاقة الذات بالأخر و المحلي بالكوني في التشكل التاريخي للحضارات.

    —————————————–

    1 – DEBRAY, Régis. Critique de la raison politique. Ed Gallimar. Paris 1981, p.55
    2 – نيتشه. الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي, ترجمة الدكتور سهيل القش. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1981 ص 41
    3 – .” حسين حرب، الفكر اليوناني قبل أفلاطون” دار الفكر اللبناني 1990. ص 9
     4 – . “حسن حنفي قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر ، دار التنوير للطباعة والنشر 1982 ص 17-18
    5 – انظر تصنيف الدكتور حسن حنفي لمؤلفات عبد الرحم بدوي في مقالة ” بدوي الفيلسوف الشامل” : دراسات عربية حول عبد الرحمن بدوي، دار المدار الإسلامي 2002 ص 20-29
     – د. عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الرابعة 1969 ص 7-
    – عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، ص 9

    – هذا الموقف نجده معبرا عنه في مواضع مختلفة من القراءات الإستشراقية، يقول ديبور : << لم يكن للعقل السامي قبل اتصاله بالفلسفة اليونانية ثمرات في الفلسفة وراء الأحاجي والأمثال الحكيمة، وكان هذا التفكير السامي يقوم على نظرات في شؤون الطبيعة، مفترقة لا رباط بينها ويقوم على وجه خاص على النظر في حياة الإنسان وفي مصيره. وإذا عرض للفكر السامي ما يعجز عن إدراكه، لم يشق عليه أن يرده إلى إرادة الله التي لا يعجزها شيء والتي لا تدرك مداها ولا أسرارها >> . ووفقا لذلك، يعبر ديبور، عن دونية الفكر السامي ومن ضمنه الفكر العربي. وأن هذا الفكر لم يقو على بناء وتشكيل الأسس الفلسفية إلا بعد أن وقع تلقيحه بالفكر اليوناني في مرحلة من مراحل تطوره ” . هذا الموقف ناشئ بكيفية طبيعية عن إيديولوجية أوربية مرتبطة بعهد الاستعمار فيما بين القرنين 19 و20، وهي إيديولوجية كان من المستحيل معها النظر بموضوعية وتجرد، حتى في الأوساط الجامعية، إلى تاريخ العرب وحضارتهم. ومن بين المفكرين الغربيين الذين ساهموا في صياغة هذه الإيديولوجية، نذكر رينان Ernest Renan الذي أنكر على الجنس السامي القدرة على الابتكار الواسع في ميدان الفكر، وأكد في كتابه عن ابن رشد بأنه لا ينبغي أن ننتظر أي جديد على الإطلاق في مجال الفلسفة أو العلوم العقلية من العرب ومن الحضارات الشرقية على العموم لأن مجال إبداع هذه الحضارات هو الدين.
    لم تقتصر هذه النظرة على مستوى الدراسات الغربية بل أن الأمر طال مجموعة من الدراسات العربية التي رسخت لنفس الرؤية، من منطلقات وخلفيات مغايرة، ومن بينها نذكر رسالة الدكتور إبراهيم بيومي مذكورعن “تأثير منطق أرسطو في العالم العربي” حيث يقول : << هل يصح لنا أن نتحدث عن منطق من ابتكار العرب وحدهم، أو عن منطق خاص بالمشارقة، كما يدعوه ابن سينا ؟ في نهاية هذه الدراسة لا نتردد في الجواب بالنفي، إن المنطق العربي في تنظيمه ومشاكله ماهو إلا صورة طبق الأصل لمنطق أرسطو. ولم يستطع ابن سينا ولا غيره من فلاسفة المسلمين أن يقدموا مذهبا في المنطق يكون جديرا بكل معنى الكلمة, إنهم اغترفوا كلهم من كتاب المنطق الأرسطي وعلى منواله نسجوا >>
    ويلاحظ د. محمد زنيبر أن بيومي مدكور، قد راجع هذا الموقف في كتابه “في الفلسفة الإسلامية” مؤكدا عكس ما قاله في النص المذكور سلفا، حيث يقول << غير أنا نخطئ إن ذهبنا أن هذه التلمذة كانت مجرد تقليد ومحاكاة وأن الفلسفة الإسلامية ليست إلا نسخة منقولة عن أرسطو كما زعم رينان Ernest Renan، أو عن الأفلاطونية الحديثة كما دعى دوهيم. ذلك لأن الثقافة الإسلامية نفدت إليها تيارات متعددة اجتمعت فيها وتفاعلت وفي هذا الإجماع والتفاعل ما يولد أفكارا جديدة>>
     9- عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، ص 11 . يعتقد د. مصطفى النشار، في مقال بعنوان :” بدوي مؤرخا للفلسفة اليونانية” أن هذا الرأي الغريب من د. بدوي، والذي كتبه في مطلع الأربعينيات من هذا القرن، قد تغير الآن بعد الدراسات الواسعة له في الفلسفة الإسلامية، وإن كانت هذه الدراسات قد اتخذت في الأغلب الأعم شكل تحقيقات لنصوص بعض الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة. ” : دراسات عربية حول عبد الرحمن بدوي، دار المدار الإسلامي 2002 ص 361
    10- أنظر مقال د. أميرة حلمي مطر في : دراسات عربية حول عبد الرحمن بدوي, ص 226-227
    11- د. عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، ص 13- 14
     – – د. عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني، ص 30
    12- يعتبر اسبنجلر أن التاريخ ينقسم إلى عدة حضارات تخضع في تطورها لقانون واحد ثابت وتنقسم إلى أدوار كالفصول الأربعة بالنسبة للسنة : فهي تبدأ بالربيع، وتعلو وتصل إلى القمة في وقت هو صيفها، ثم تبدأ في الإنحلال ويكون لها عضر اضمحلال يناظر الخريف بالنسبة إلى السنة، ثم يأتي الشتاء فتفنى الحضارة وتموت. فهناك إذا أربعة أقسام إلا أن كل قسمين يكونان شيئا واحدا. ولذا تنقسم الحضارات بمعناها العام إلى قسم أول هو الحضارة وقسم ثان هو المدنية.
    فروح الحضارة، بهذا المعنى، تنتقل من الطور الأول الذي تنكشف فيه الحياة ويظهر فيه الخلق والإبداع، في الصيف والربيع، إلى الطور الثاني وهو طور الإستهلاك، حيث تصبح الحياة موضوعا ويصبح التفكير عمليا قائما على أساس العاطفة والمنفعة العملية، وينكر كل ما للعقل من قيمة في الخلق والإبداع.
    ويبدو أن د. عبد الرحمان بدوي قد تبنى المنهج الحضاري لسبنجلر لقراءة تاريخ الفلسفة اليونانية وفقا للمراحل الأربعة التي تميز بها تطور الحضارات ويعود إلى ينابيع الفكر الفلسفي عند اليونان في رباعية مثل فصول السنة، الربيع والصيف والخريف والشتاء. الربيع ما قبل أفلاطون، الصيف أفلاطون وأرسطو والخريف بالنسبة للمدارس الأخلاقية بعد أرسطو ويتضمن الشتاء نهاية الفلسفة اليونانية في الأفلاطونية المحدثة، وليس المقصود هو مجرد صرد لتاريخ الفلسف اليونانية، بل إعادة قراءة الفلسفة الأوربية الحديثة من خلال المنهج الحضاري لسبنجلر.
     13- نفس المرجع، ص 84
    14- نفس المرجع، ص 90
    15- مصطفى النشار ” بدوي مؤرخا للفلسفة اليونانية” : دراسات عربية حول عبد الرحمن بدوي، دار المدار الإسلامي 2002 ص 365
     16- عبد الربحمن بدوي : أفلاطون ، وكالة المطبوعت الكويت/ دار القلم بيروت 1979 ص 6
    17- يبدأ أرسطو نظريته في المعرفة بالتخلص من الموقف الأفلاطوني. فالعلم لا يتطلب وجود أشباه هذه “المثل” التي تعلو على نطاق التجربة الحسية حسبما وصفها أفلاطون. إن هذه “المثل” لا تزيد, في رأي أرسطو أن تكون مجرد مجازات شعرية”. إن ما يتطلبه العلم ليس أن يكون هناك “واحد فوق المتعدد” (أي المثال, ويقصد التصورات العقلية الخالصة التي لا تتجسد في عالم الإدراك الحسي الواقع, كما وصفها أفلاطون), وإنما هو يتطلب وحسب أن يكون من الممكن أن يحمل حد على حدود أخرى كثيرة على نحو كلي. ويعني هذا بذاته أن “الكلي” ينظر إليه عند أرسطو على أنه محصلة للخصائص المتواجدة في كل عضو من أعضاء المجموعة, وهو يستخرج بوسيلة التجريد, أي بترك الخصائص التي تخص بعضا من المجموع دون بعض واستبقاء تلك الخصائص فقط التي تكون مشتركة بين كل أعضاء المجموعة.
    18- عبد الربحمن بدوي : أفلاطون. ص 8
     19- عبد الرحمن بدوي : خريف الفكر اليوناني ص 150

  • الماضي حاضر متجدد : مدخل منهجي للتفكير في الراهن البشري

    قطعت الاستوغرافيا الغربية أشواطا كبيرة جدا في سياق إنضاج عملية التفكير التاريخي في قضايا الماضي والحاضر، بما هي معادلة إبستمولوجية مركبة، تتضمن الانقطاع، كما تتضمن الاستمرارية، في الزمان والمجال وحتى الذهنيات. فكيف يُمكن للتاريخ إذن أن يستعيد محتوى الماضي؟ كيف يصير الماضي حاضرا متجددا والتاريخ عملية بناء وإعادة بناء؟ وكيف تصبح الذاكرة حاضر الماضي، والرؤية حاضر الحاضر، والترقب حاضر المستقبل؟

    لربما يتسربل حاضر الزمن العربي بتساؤلات مؤرقة، تجعل سؤال الحاضر التاريخي هُلاميا غير ذي أفق، في ضبط تواثبات الزمن المعيش، ومواكبة اليومي المشبع بالتعقيد والرمزية، إلى حد يمكننا أن نساير مؤرخ ثورة الياسمين التونسية “فتحي بنسلامة” في القول إن حاضر العالم الاسلامي لم يطرح بعد بِبُعد زمني رصين، وبخلفية إبستمولوجية عميقة، وهو ما يُفقد الحاضر من سؤال المعنى، ويجعله محكوما بتصور اسكاتولوجي يمتح من خطاب النهايات، يُدخل الفرد والجماعات الانسانية في زمن الاحتماء بالماضي، بما هو زمن متخيل، افتراضي لا تاريخي وغير واقعي.

    يتغدى هذا الطرح من مُسلمة واضحة: هناك فصل إبستيمي بين الماضي والتاريخ، على نحو ما نجده عند “جيرارد نوراييل” مؤرخ الحوليات. علينا أن نقر بأن الماضي ليس هو التاريخ، فالماضي شيء أساسي بالنسبة للحاضر وللمستقبل، لكنه ليس هو التاريخ، لأنه يتميز بنظرة مخصوصة وقابل للتبرير والشرعنة، انطلاقا من رواية استُحكمت على روايات أخرى ضمن سيرورة إخضاع وتحكم.

    فصل يفرض علينا كمشتغلين على التاريخ والعلوم الانسانية أن نعيد صياغة مفهوم الهوية بالمدلول التاريخي، وأن نعيد حكي سردية التاريخ، بما هي سردية متجددة ومنفتحة، قابلة للتأويل إما قبولا أو دحضا، حسب فرضيات ومفاهيم وإشكالات العلوم الاجتماعية المجاورة،أوَ لم يقل الشاعر الفلسطيني محمود درويش «… من لا يملك الحكاية لا يملك أرض الحكاية…».

    التاريخ والماضي ليسا شيئا واحدا، إنهما موضوعان مختلفان، الماضي وجد ذات مرة، لكنه مضى إلى الأبد، لا يمكن استرداده أو حتى استعادته، بينما التاريخ وَصفُُ لهذا الماضي وتقديم له، لكنه ليس في الأساس هو الماضي.يشهد حاضرنا على انبعاث ضرب من ضروب الاستنساخ التاريخي لنسق الهيمنة، في سياق موجة ما بعد ثورات الربيع العربي، فأيهما سينتصر جنون الهيمنة أم مكر العقل؟

    فمثلما يرتب العقل ذاكرة الإنسان، يعيد ترتيب أجندة النسيان. ثمة حاجة إلى استدعاء الأنتربولوجيا التاريخية، لفهم تجربة تاريخية تصدح بغير قليل من خيبات أمل، لتفسير انكسار الوجدان المغربي، وانعطاب الذاكرة في مرايا منكسرة، للإمساك ببؤس الواقع وتصحر الوعي، فهل هي أزمة درس التاريخ؟ أم أزمة الوعي به؟ وهل من سبيل لتغيير اتجاه قاطرة الزمن لتمضي بنا على سكة العقل والحياة كما يقول “علي أومليل” في روايته «مرايا الذاكرة»؟ ساحاتنا العمومية صارت لا مدنية، تضع شرخا بين التاريخ والذاكرة، من أجل بناء ذاكرة جماعية بالتوصيف المدني لا السياسي، السياسي يتلاعب بالذاكرة، وفقا لغايات الهيمنة والتحكم، بينما الذاكرة هي بدورها في حاجة إلى توافقات من أجل إعادة بناء الضابط الاجتماعي حسب السوسيولوجي موريس هالفاكس.

    حاضر متحول بمرجعيات جديدة، يقتحم الحديقة السرية لمختبر العلوم الإنسانية، بأسئلة جديدة، يعيد رسكلة الخطاب والممارسة، بتصور مانوي، يقيم شرخا، بين قديم يترنح، وجديد لم يولد، يرمي بالمشروع المجتمعي نحو قفص الإدانة. حفر جديد يستند إلى بلازما الزمن، يُعرِّي عن انجراحات الذات المغربية، انعطاباتها الوجدانية، عن إخفاقاتها الحضارية في كل وصفات الإصلاحية ماضيا وحاضرا، لفهم سؤال الإخفاق التنموي، وكأن مقولة السلطان المولى عبد الحفيظ « داء العطب قديم» تنبعث من جديد بمغرب اليوم، في تفسير مغرب الأماني.

    قول المؤرخ قد لا يعجب إلا المؤرخ أو من له مزاج المؤرخ، وقول رجل الإجتماع تصاحبه الفضيحة على لسانه، وهما يَهُمَّان بمكاشفة ميلاد الوطنية في الرحم التاريخيMatrice historique بالمغرب، من حيث هي منظومة فكرية نجحت كنسق متراص في دحر فكرة السيادة المشتركة، ومن حيث هي حركة سياسية ألغت وظيفية جيش الحماية.

    سؤال الوطنية أو المواطنة ضمن زمانية متحولة استفز أقلاما عديدة، بتساؤلات محددة أحيانا، أو سياقية أحيانا، فمن السهل الاستظهار بالبديهيات، الوطنية هي شعور، سلوك، وتطلع، الشعور هو الاعتزاز بالذات، السلوك هو الإيثار والتضحية، التطلع هو الحرية والتقدم والرفاهية، كيف يمكن للوطنية مهما يكون مضمونها، أن تكون بعد أن لم تكن؟ كما يفصح العروي في استبانته الأخيرة.

    سؤال الحاضر يفرض حاجة ملحة لإقامة تحليل نفساني لهذا المغربي المُستلب وجدانيا، وهو مَسْح سبق أن قام به فرانز فانون في سياق مغاير في كتابه الهام « معذبو الأرض»، حينما اعتبر أن مأساة العالم الثالث في الحاضر، تتلخص في الأعطاب النفسية، التي أتت من فوهة الغرب، مشيرا إلى أن «اللعبة الأوربية انتهت ابحثوا عن شيء آخر» le jeu européen est terminée cherchant autre chose

    نفسانية مغربية تَربَّت في حضن التواكل، غابت عنها جرأة الاختيار الفردي والجماعي في اتخاذ القرارات المصيرية. لننصت إلى نبض التاريخ وسكناته، تاريخيا لم تتكون لدينا طبقة فيودالية قادرة على جر المجتمع على نحو فيودالي واضح، ولا طبقة مركنتيلية قادرة على جر المجتمع على نحو مركنتيلي واضح، ولا طبقة بورجوازية قادرة على تأسيس ثقافة بورجوازية جديدة. باختصار صريح، تجربتنا التاريخية تُزكي الجمود على الموجود، والاستقرار في ظل الانحطاط، لدرجة دفعت العروي إلى القول دون مواربة، لا يخلصنا من هذه المحنة سوى معجزة.

  • خمسة دروس حول فكرة الفينومينولوجيا – إدموند هوسرل

    الدرس الأول

    خمسة دروس حول فكرة الفينومينولوجيا – إدموند هوسرل

    لقد قُمْتُ في الدروس السابقة بالتمييز بين العِلم الطبيعي والعلم الفلسفي. العلم الأول يجد أصله في الموقف الذي يقيمه العقل الطبيعي، والثاني يجد أصله في الموقف الذي يؤسسه العقل الفلسفي. إن العقل الطبيعي لا يهتم بنقد المعرفة. ونحن نتجه-هنا- بالحدس وبالفكر نحو الأشياء التي تعطى لنا في كل مرة. ففي الإدراك البصري، مثلا، يقوم شيء ما أمام أعيننا، وسط الأشياء الأخرى، حي أو غير حي، ذا نفس أو بدون نفس، يعني أنه وسط العالم، في جزء منه يكون تحث نظر أعيننا وفي جزء آخر منه يكون معطى في تسلسل الذكريات فيمتد، بذلك نحو المجهول ونحو اللامحدود

    هذا العالم الذي ترتبط به أحكامنا هو الذي نقيم حوله منطوقات أو قضايا، تكون في جزء منها فردية وفي جزء آخر تكون عامة. هي قضايا متعلقة بالأشياء، بالعلاقات القائمة بينها، بتحولاتها، بتبعياتها، وبالقوانين الوظيفية لهذه التحولات. إننا هنا نعبر عن ما تقدمه التجربة المباشرة. وتبعا للمبررات التي تقدمها هذه التجربة نقوم بالاستدلال على ما ليس معطى في هذه لتجربة المباشرة نقوم بعملية تعميمية، ثم نُطَبِّق هذه المعرفة العامة من جديد على حالات خاصة. في الفكر التحليلي تتم عملية استنباط عموميات جديدة من معارف عامة.

    غير أن المعرفة لا يتبع أحدها الآخر على طريقة تجاور بسيط، بل إنها تدخل في علاقات منطقية فيما بينها فينحدر بعضها عن بعض، “تتوافق” فيما بينها، يثبت بعضها بعضا، فتزيد، بذلك، في قوتها المنطقية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تدخل في علاقات تناقض وصراع فيما بينها. وهذا ما يجعل من معرفة ما أن تكون مُلْغاة بفعل معرفة أخرى أكيدة، وتضحى (تلك المعرفة الملغاة) مجرد مزاعم. من الممكن أن يكون أصل التناقضات قائما في دائرة قوانين الشكل الحملي الخالص، تظهر في الحال الذي نكون فيه داخل أشكال من اللبس فنرتكب عددًا من التعارضات، نخطئ ونحن نعد ونحسب. نتجه من تم نحو إقامة التماسك الصوري كي نقضي على أشكال اللُّبس هذه. لكن كيف يمكن الخروج من الصعوبة التالية وهي عندما تقطع التناقضات تسلسل البواعث أو العطاءات التي تؤسس التجربة. هذه التناقضات هي وجود مبررات نابعة من تجربتين تنازع الواحدة الأخرى. لا بد إذن أن نقيم وزنا لتلك المبررات التي تحضر أكثر وتكون صالحة في مختلف إمكانيات التحديد والتفسير. الأكثر ضعفا  ينبغي أن يترك الميدان للأكثر قوة …

    بهذه الكيفية تتقدم المعرفة الطبيعية. إنها توسع بحثها في الوجود الذي وجوده وحضوره مترادفين، فالأمر هنا لا يتعلق بعملية تنقيب عن هذا الوجود إلا فيما يخص امتداده ومحتواه أي العناصر والعلاقات والقوانين. هكذا تتولد العلوم الطبيعية وتنمو:علوم الطبيعة مثل علوم الطبيعية الفيزيائية والنفسية (علوم الذهن كذلك) من جهة ومن جهة أخرى العلوم الرياضية، علوم الأعداد، المجموعات، العلاقات، الخ.لا يتعلق الأمر في هذه العلوم الأخيرة بتجارب واقعية وإنما بإمكانيات فكرية تحمل الصلاحية في ذاتها، ولكنها لا تطرح مشكلا. في كل خطوة من خطوات المعرفة العلمية الطبيعية تظهر الصعوبات وتنحل. فهذه العلوم تحل الصعوبات إما في ارتباط مع الصورة المنطقية الخالصة وإما في ارتباط مع الأشياء، يعني بفعل دوافع ومبررات قاطنة في الأشياء تظهر منها وتخرج منها كمقتضيات تقدمها إلى الفكر والمعرفة.

    سنقوم الآن بمعارضة موقف الفكر الطبيعي والمبررات الطبيعية للفكر بالمبررات الفلسفية. فمع يقظة التفكير حول العلاقة بين الذات والموضوع تم افتتاح عدد من الصعوبات حيث إن المعرفة التي تظهر في الموقف الطبيعي عادية تظهر الآن، دفعة واحدة، كأمر محير. ينبغي، والحالة هذه، أن أكون أكثر تدقيقا فأقول: ما يكون عاديا بالنسبة للفكر الطبيعي هو إمكان المعرفة. إن الفكر الطبيعي، بفعل خصوبة نشاطه وتقدمه في العلوم التي تتجدد باستمرار من اكتشاف إلى آخر، لا يجد أي مبرر يدفعه لإثارة السؤال حول إمكان المعرفة عموما. صحيح أن المعرفة مثل كل شيء آخر في العالم يمكن أن تصبح، بالنسبة للفكر الطبيعي، بمعنى ما، مشكلة. المعرفة نشاط يشكل جزءا من الطبيعة. إنها معيش بعض الكائنات العضوية التي تتمتع بالمعرفة. المعرفة حدث سيكولوجي، وككل حدث سيكولوجي، من الممكن وصفها، وصف أنواعها وأشكال ترابطاتها، يمكن دراسة علاقاتها الأجناسية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تكون المعرفة، من حيث ماهيتها، هي معرفة الموضوع وذلك بفضل المعنى المُحايِث لها،المعنى الذي به ترتبط بالموضوع.

    ينشغل الفكر الطبيعي بهذه الروابط فهو يجعل من العلاقات القبلية للدلالات ومن صلاحية الدلالات وكذلك القوانين القبلية التي تنتمي إلى الموضوع بما هو كذلك، موضوعا للبحث، ولكن في عمومية شكلية. ومن هنا يتولد علم نحوي خاص، كما يظهر في مستوى أعلى منطق خالص. أكثر من ذلك يتولد منطق معياري وتطبيقي كتكنولوجيا للفكر، وخصوصا الفكر العلمي.

    إلى هذا الحد نجد أنفسنا في ميدان الفكر الطبيعي. والحال أن الترابط الذي أشرنا إليه لوضع سيكولوجيا المعرفة في تعارض مع المنطق الخالص (وكذلك مع الأنطولوجيات) يعني التعارض بين المَعيش المعرفي، الدلالة، والموضوع، هو مصدر المشاكل الأكثر عمقا والأكثر صعوبة. كي نختزل هذا المشكل في كلمة نقول: إنه إِمْكان المعرفة.

    المعرفة في هذا الإشكال هي معيش نفسي. هي ذات عارفة. الموضوعات المعروفة تكون في حالة تعارض معها. كيف يمكن للمعرفة، والحالة هذه، أن تَأْتَمِن على توافقها وتلاؤمها مع الموضوعات التي تعرفها؟ كيف يمكن أن تخرج من ذاتها إلى ما ورائها كي تبلغ بأمان موضوعاتها؟ هكذا يتوقف حضور موضوعات المعرفة في المعرفة من أن يكون عاديا كما هو الحال في الفكر الطبيعي ليصبح لغزا.

    في الإدراك يبدو الشيء المدرك كشيء معطى مباشرة. هذا هو ذلك الشيء. إنه هناك أمام عيني اللتين تدركانه إنني أراه وأمسك به. أما الإدراك فإنه ليس سوى معيش ذات هي ذاتي التي تدرك. وبالمثل فإن الذكرى والانتظار وجميع أفعال الفكر التي تنبني عليها، والتي بفعلها يتكون موقف غير مباشر لكائن واقعي، وكذلك إثبات كل نوع من أنواع الحقيقة عن الوجود، كل ذلك هو معيشات ذاتية. من أين لي أن أعلم، أنا الذي يعرف، بأن أفعال التّعرف الموجودة هذه ليست وحدها معيشاتي وإنما كذلك ما أعرفه؟.من أين لي أن أعلم بأن هناك أي شيء يمكنه أن يعارض المعرفة من حيث يكون هو موضوعها؟ هل ينبغي علي أن أقول بأن الظواهر هي وحدها التي تكون معطاة، حقيقة، للذات العارفة، أم أن هذه الأخيرة لا تصل أبدا إلى ما وراء تسلسل معيشاتها وبالتالي فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون هو أنني موجود؟ اللاأنا هو بكل بساطة ظاهرة تذوب في العلاقات الظواهرية. هل يجب علي إذن أن أتبنى وجهة نظر الأناوحدية solipsismeوأعتبرها منظورا صلبا؟ هل يجب أن أستنبط مع هيوم الموضوعية المتعالية للوهم والتي تترك نفسها تفسر من طرف علم النفس دون أن تكون مبررة بشكل عقلاني؟ لكن هذا أيضا منظور صلب. ألا تجعل سيكولوجيا هيوم، كأية سيكولوجيا أخرى، دائرة المحايثة متعالية؟

    ألا تشتغل تحث عناوين من طراز: عادة، طبيعة إنسانية، عضو الإحساس، الإثارة، الخ، مع كيانات أخرى متعالية عندما تسعى إلى استخلاص الوهم بحيث تتعالى المعرفة عن الانطباعات والأفكار الراهنة؟

    لكن لأي شيء سيكون المنطق مفيدا ما دام هو نفسه يوضع موضع تساؤل ويصبح إشكاليا؟ في الواقع أن صلاحية القوانين المنطقية بالنسبة لما هو واقعي، هي في نظر الفكر الطبيعي في منأى عن الشك. هذه الصلاحية تصبح الآن إشكالية بل وريبية. إن اعتبارات بيولوجية تفرض نفسها على الذهن. إننا نتذكر هنا النظرية الحديثة عن التطور والتي بحسبها حصل تتطور الإنسان ضمن الصراع من أجل الحياة وبفضل الانتقاء الطبيعي.لقد تتطور الإنسان ومعه عقله مع جميع الأشكال التي تخصه ومن بينها الأشكال المنطقية. ألا يمكن القول بأن الأشكال والقوانين المنطقية تعبر عن الصفة الإمكانية أو الاحتمالية للنوع الإنساني بحيث يكون من الجائز أن يصير آخر أو يصبح آخر عبر التطور المستقبلي؟ المعرفة هي إذن فقط إنسانية، بمعنى أنها مرتبطة بالأشكال العقلية للإنسان ومن تم عاجزة عن بلوغ طبيعة الأشياء، عن بلوغ الأشياء في ذواتها.

    لكن إذا ما تم التضحية بالقوانين المنطقية سوف ينبثق من جديد لا معنى ما، إذ يمكن التساؤل حول ما إذا كان من الممكن أن يكون لهذه المعارف، التي سيتم بها فحص تصور مثل هذا والإمكانات التي يتبصرها هذا التصور، معنى داخل نِسْبَوِيَّة مثل هذه؟.في الحقيقة يوجد هذا الإمكان أو ذاك. لكن ألا نفترض ضمنيا الصلاحية المطلقة لمبدأ التناقض الذي بحسبه يتم إقصاء تناقض حقيقة ما؟

    هذه الأمثلة كافية، إذ أن إمكان المعرفة يصبح في كل مكان لغزا محيرا.إننا عندما نلج العلوم الطبيعية كي نعيش داخلها، نلتقي بكل شيء قد بلغ مرحلة الدقة والوضوح والمفهومية conceptualité يحصل لدينا اليقين بأننا هنا نتملك حقيقة موضوعية مبرهن عليها بفعل مناهج أكيدة، مناهج تتوصل، بصورة واقعية إلى الموضوعية. وبمجرد ما ننتقل إلى التأمل حتى نجد أنفسنا في لُبس، في فوضى وتضليل. نسبح هنا في تشويش حاصل عن تعارضات ظاهرة بل وتناقضات. فنحن هنا دوما في خطر السقوط في الريبية. وبالأحرى في مختلف أشكال الريبية التي، سِمتها للأسف، هي العبث دائما.

    مسرح أشكال اللبس هذه والنظريات المتناقضة وكذا الخصومات المرتبطة بها والتي لا تنتهي إنما هو(مسرح) نظرية المعرفة وكذلك الميتافيزيقا المرتبطة بها والتي هي تاريخيا وكأنها من طرف طبيعة الأشياء. إن مهمة نظرية المعرفة هي أولا وقبل كل شيء مهمة نقدية، فعليها أن تفضح أشكال اللبس والغموض التي سقط فيها التفكير الطبيعي حتما حول العلاقة بين المعرفة، المعنى المعرفي وموضوع المعرفة. يجب عليها بالتالي أن تفند النظريات الريبية بإظهار عبثيتها فيما يخص ماهية المعرفة سواء كان ذلك بشكل ظاهر أو بشكل خفي.

    من جهة أخرى، فإن لنظرية المعرفة أيضا، من خلال دراسة ماهية المعرفة، مهمة إيجابية تتجلى في تبني حل للمشاكل التي تقوم في الترابط بين المعرفة، المعنى المعرفي وموضوع المعرفة. من بين هذه المشاكل مشكل تبيان المعنى (الجوهري) لموضوع المعرفة وما يعود إلى الموضوع عموما: إنه المعنى المرسوم للموضوع قبليا (يعني بالتطابق مع الماهية ) بفعل الترابط بين المعرفة وموضوع المعرفة.إن هذا يشمل طبعا جميع الأوجه التي تفرضها ماهية المعرفة والموضوعات عموما( الأشكال الأنطلوجية والقضوية والميتافيزيقية كذلك)

       بفعل هذه المهام تصبح نظرية المعرفة مؤهلة لنقد المعرفة أو بشكل أوضح مؤهلة لنقد المعرفة الطبيعية في العلوم الطبيعية كلها.إنها تضعنا في حالة من التأويل المضبوط والمحدد لنتائج العلوم الطبيعية المتعلقة بالوجود .فالغموض الغنوصيولوجي gnoséologique  الذي يضعنا فيه التفكير الطبيعي(السابق على نظرية المعرفة) حول إمكان المعرفة (حول صلاحية ممكنة للمعرفة) ليس من نتائجه حصول تصورات مغلوطة تتعلق بماهية المعرفة، وإنما أيضا تأويلات خاطئة، بشكل جوهري، للوجود  المعروف في العلوم الطبيعية،-لأنها متناقضة في ذاتها. بحسب التأويل الذي (يقول) أن مثل هذه التأملات تقود إلى ضرورة  تأويل علم طبيعي، ثارة في معنى مادي، ثارة في معنى روحي ثارة في معنى ثنائي سيكوأحادي وضعي، وفي معاني أخرى كثيرة. مع التفكير الغنوصيولوجي فقط يتم التمييز بين العلم الطبيعي والفلسفة. وفقط بفضله تظهر العلوم الطبيعية بأنها ليست علوما نهائية عن الوجود. ينبغي أن يقوم هناك علم عن الوجود يكون مطلقا. هذا العلم الذي نطلق عليه اسم ميتافيزيقا يتولد عن (نقد) للمعرفة الطبيعية للعلوم الجزئية، نقد يستند إلى ما هو مكتسب في النقد العام للمعرفة، لماهية المعرفة، لموضوع المعرفة، في أوجهه الأساسية المختلفة، يستند إلى الذكاء الحاصل من مختلف الترابطات الأساسية بين المعرفة وموضوع المعرفة.

    إذا ما أغضضنا الطرف عن التطبيقات الميتافيزيقية لنقد المعرفة كي نتشبث بكل بساطة بمهمته الخاصة التي هي الإبانة عن ماهية المعرفة وموضوع المعرفة، فإن هذا النقد سيكون هو فينومينولوجيا المعرفة وفينومينولوجيا موضوع المعرفة ويشكل من تم الجزء الأول والأساسي للفينومينولوجيا على العموم.

    فينومينولوجيا: هذا تعيين لعلم، لمجموعة من الشُّعب العلمية. لكن، فينومينولوجيا، (مصطلح) يعين أولا وقبل كل شيء منهجا وموقفا فكريا: موقف فكر فلسفي بشكل خاص ومنهج فلسفي بشكل خاص.

    إن المستوى الذي تزعم فيه الفلسفة المعاصرة بأن تصير علما قد صار مكانا مشتركا حيث إن جميع العلوم وكذلك الفلسفة تشترك في منهج للمعرفة. وهذا الاقتناع يستجيب بشكل مطلق للأشكال التراثية الكبرى لفلسفة القرن السابع عشر والتي اعتقدت فعليا بأن سلام الفلسفة هو في أن تتخذ لنفسها العلوم الدقيقة نموذجا منهجيا، وقبل كل شيء الرياضيات والعلوم الرياضية للطبيعة. على أساس هذا التمثل والاستيعاب للعلوم الذي تقوم به الفلسفة فيما يتعلق بالمنهج يقوم كذلك تمثلها للموضوع، وينبغي علينا أن نعتبر بأن الرأي المهيمن اليوم هو أن الفلسفة، وبشكل أدق، المذهب الأخير حول الوجود والعلم، يمكنها أن ترتبط، ليس فقط بكل العلوم، وإنما يمكنها أيضا، أن تتأسس على نتائجها

    وبنفس الكيفية التي تتأسس فيه العلوم الواحدة على الأخرى، فإن نتائج إحداها يمكن أن تصلح كأوليات للأخرى. أستحضر هنا المحاولات المشهورة التي أسست نظرية المعرفة على سيكولوجيا المعرفة وعلى البيولوجيا. وفي يومنا هذا تعددت ردود الأفعال ضد هذه الأحكام المميتة إنها فعلا أحكام قاتلة. يمكن لعلم، في دائرة البحث الطبيعي، أن يبني صرحه، بدون صعوبات، على علم آخر، كما يمكن لعلم واحد أن يصلح كنموذج منهجي لآخر، لكن في بعض الحدود المحاطة بطبيعة ميادين بحث معينة. غير أن الفلسفة تتموضع في بُعد جديد كلية. فهي تحتاج إلى نقط انطلاق جديدة كلية، وإلى منهج جديد كلية، يميزها، من حيث المبدأ، عن كل علم “طبيعي”. هذا يعني بأن الإجراءات المنهجية للفلسفة كوحدة جديدة، من حيث المبدأ، تتعارض مع الإجراءات المنطقية التي تعطي الوحدة للعلوم الطبيعية. وهذا يعني كذلك أنه في دائرة نقد المعرفة والشُّعَب النقدية على العموم، ينبغي للفلسفة (الخالصة) أن تغض الطرف عن كل ما أنجزه الفكر في العلوم الطبيعية وفي الحكمة والعرفان وأن لا تقيم له أي وزن.

    سوف نقوم بتبرير هذا المذهب بشكل أكثر توسعا في التفاصيل اللاحقة، هذا المذهب يصبح واضحا دفعة واحدة على ضوء الاعتبار التالي: في الوسط الريبي الذي صنعه بالضرورة التفكير التأملي حول نقد المعرفة (أقصد بذلك ذلك التفكير الأولي الذي يوجد قبل النقد العلمي للمعرفة ويحدث تبعا لطريقة التفكير الطبيعي)، يتوقف كل علم طبيعي وكل منهج علمي طبيعي من أن يكونا معدين لنفع ما فالصلاحية الموضوعية للمعرفة على العموم قد أصبحت، فيما يخص معناها وإمكانها لغزا، وبالتالي هي شَكِّيَّة. المعرفة الدقيقة تصبح من هنا لغزا تماما مثل المعرفة الغير دقيقة، والمعرفة العلمية تكون تماما مثل المعرفة الما-قبل علمية. ما يصبح إشكاليا إنما هو إمكان المعرفة، وبالضبط إمكان أن تبلغ المعرفة الموضوع كما هو عليه في نفسه. هذا أمر يتضمن كَوْن ما تدعيه المعرفة من صلاحية ومشروعية (أي) التمييز بين معرفة مشروعة وأخرى مزعومة يصبح موضع تساؤل. كما أن معنى الموضوع، سواء كان معروفا أم غير معروف، ولكن، من حيث هو موضوع يمكن أن يكون موضوع معرفة ممكنة، أي يكون من حيث المبدأ، قابلا للمعرفة حتى ولو لم يكن قط معروفا ولن يعرف قط بالفعل يكون من حيث المبدأ قابلا للإدراك، للتمثل، للتحديد، بواسطة محمولات ضمن تفكير حملي ممكن، الخ.

    غير أننا لا نرى، والحالة هذه، كيف يمكن أن يساعدنا اللجوء إلى افتراضات مسبقة، مستعارة من المعرفة الطبيعية، على تذويب الشكوك التي تثار في مجال نقد المعرفة والإجابة عن مشاكلها؟ فإذا كان معنى وقيمة المعرفة الطبيعية عموما وكذلك مختلف عملياتها الميتودولوجية وبراهينها الدقيقة تصبح إشكالية، فإن هذا سيتعلق، أيضا، بكل قضية مستعارة من دائرة المعرفة الطبيعية التي نريد أن نتخذها كنقطة انطلاق. كذلك، فإن كل منهج يعتبر نفسه دقيقا في برهنته، العلم الطبيعي الأكثر صرامة والعلم الرياضي للطبيعة، ليس له هنا أدنى تفوق بالقياس إلى المعرفة الواقعية لتجربة مشتركة ما، أو التي نفترض أنها واقعية. من الواضح، إذن، أنه سوف لا يكون هناك سؤال يزعم بأنه يتوجب على الفلسفة (التي تبدأ بالفعل مع نقد المعرفة، وما تقوم به يحصل طبعا داخل هذا النقد) أن تسير على هُدى العلوم الدقيقة فيما يخص المنهج (بل وحتى فيما يخص الموضوع)، أن تتخذ منهجها كنموذج، وأنه ليس عليها إلا أن تتابع وتتمم العمل المنجز في العلوم الدقيقة، وذلك تبعا للمنهج الذي هو هو في جميع العلوم. إن الفلسفة، وأنا أكرر هذا، تقوم في بعد جديد إزاء كل معرفة طبيعية. يستجيب لهذا البعد الجديد تلك الاستعارة التي تقيم علاقات مع البعد القديم.هذا البعد الجديد للغاية هو في تعارض مع المنهج “الطبيعي”.إن من ينكر هذا لن يفهم أي شيء عن نقد المعرفة وبالتالي لن يفهم أي شيء عن ماذا تعنيه الفلسفة وما تستحقه وما تقدمه إزاء كل معرفة وعلم طبيعيين لن يفهم خاصيتها ومبررها

    الدرس الثاني

    إن مجموع العالم الطبيعي والفيزيائي والنفسي وكذلك أَنَايَ (الإنساني) الخاص وكل العلوم التي تتعلق بهذه المواضيع هو الذي يتسم، في بداية نقد المعرفة، بطابع إشكالي. فوجود هذا العالم وعلومه وَأَنَايَ وصلاحيته (كل ذلك) يبقى معلقا.

    كيف يمكن لسؤال نقد المعرفة الآن أن يقوم؟ إن هذا (النقد)، من حيث هو مجهود المعرفة في فهم ذاتها علميا، يسعى وهو يشتغل بمعرفة علمية، إلى أن يقيم ما تكون عليه المعرفة في ماهيتها، ومن هنا يقوم بِمَوْضَعَة هذا الذي يغطيه معنى العلاقة بالموضوع الذي ينسب إليه، وكذلك معنى الصلاحية الموضوعية أو معنى خاصية بلوغ الموضوع، الذي يجب أن يكون موضوعه هو، عندما يتوجب عليه أن يكون معرفة بالمعنى الأصيل. إن الذي ينبغي أن يمارسه نقد المعرفة لا يمكن أن يعني إلا هذا، ليس فقط بأن يبدأ بالوضع موضع تساؤل، وإنما كذلك بأن يستمر دوما في أن يضع كل معرفة موضع تساؤل (إذن كذلك معرفته) وبأن لا يترك أي معطى بلا تقييم (إذن كذاك الذي يقيمه هو نفسه). إذا توجب عليه أن لا يفترض مسبقا أي شيء كمعطى من قبل، يعني أنه يجب عليه أن يبدأ بمعرفة ما، لا يستعيرها- طبعا- بدون فحص، وإنما من تلك التي يقدمها-على العكس من ذلك -عن نفسه. فهو يطرحها كمعرفة أولى.

    لا ينبغي لهذه المعرفة الأولى أن تحمل أي لُبس وظن يمنحان للمعارف صفة شيء ملغز، وإشكالي وهو ما وضعناه، أخيرا، في مثل هذا الارتباك الذي دفعنا إلى القول بأن المعرفة عموما هي مشكلة، هي شيء غير مفهوم، شيء يكون في حاجة إلى توضيح، والذي في ادعاءه، شكي. لكي نعبر عن هذا بشكل ترابطي نقول: إذا كان ممنوعا علينا أن لا نقبل أي موجود كمعطى من قبل، نظرا للغموض الذي نوجد فيه داخل نقد المعرفة – بمعنى أننا لا نفهم ما الذي سيكونه معنى وجود يكون في ذاته، ومع ذلك يكون معروفا داخل المعرفة– فإنه ينبغي أن نكون قادرين، مع ذلك، على تبيان موجود نكون ملزمين على أن نعترف به كمعطى مطلق وبلا ريب، في المستوى الذي يكون فيه بالضبط معطى بكيفية يحمل معه فيها وضوحا تاما، انطلاقا منه كل سؤال يجب أن يجد جوابه المباشر.

    والآن لنذكر بطريقة الشك الديكارتية. فبالنظر إلى الإمكانات المتعددة للخطأ والوهم، يكون من الممكن أن أسقط في قنوط ريبي يجعلني أنتهي إلى القول بأن لا شيء هو يقيني بالنسبة لي، كل شيء هو مشكوك فيه. لكن، في الحال وعلى الفور، يكون من البديهي، مع ذلك، أن لا يكون كل شيء مشكوكا فيه، لأنه في الوقت الذي فيه أحكم على أن كل شيء هو مشكوك فيه بالنسبة لي فإن ما لا ريب فيه، عندما أحكم هكذا، هو أنني أسعى للحفاظ على شك كوني. هذا من العبث. ومما لا ريب فيه، في كل حالة من حالات الشك المحدد، أنني أشك بكيفية محددة. وأن هذا يسري أيضا على كل cogitatio (موضوع الفكر) إنه في أية كيفية أدرك بها وأتمثل وأحكم وأستدل، ومهما كان يقين أو لا يقين هذه الأفعال، وجود أو لا-وجود موضوعاتها، يكون من الواضح ومن الأكيد، وأنا أوجه نظرتي على فعل الإدراك أنني أدرك هذا أو ذاك، وبتوجيه هذه النظرة على الحكم بأنني أحكم على هذا أو ذاك، الخ.

    لقد لجأ ديكارت إلى هذا الاعتبار من أجل أهداف أخرى، نستطيع، والحالة هذه، أن نستخدم هنا هذا الاعتبار مُعَدِّلين إياه بصورة ملائمة.

    عندما نسعى إلى معرفة ماهية المعرفة، فإن المعرفة هي التي تكون-مهما كان الشك المتعلق بصلاحيتها وبهذه الصلاحية نفسها، بصورة ظاهرة -العنوان الذي يعين الشكل المتعدد لدائرة الوجود الذي يكون قابلا بأن يُعْطَى لنا بشكل مطلق. لأن أوجهه  figuresالفردية يمكن أن تكون في كل لحظة معطاة لنا بشكل مطلق فعلا. لأن أوجه الفكر هي معطاة لي شريطة أن أتأملها وأن أتلقاها وأضعها بشكل خالص كما أراها. أستطيع أن أتكلم  بكيفية ملتبسة عن المعرفة، الإدراك، التمثل، التجربة، الحكم، الاستدلال، الخ. في هذه الحالة، طبعا، عندما أتأمل، فإن الشيء الوحيد الذي يكون معطى لي إنما هو ظاهرة الالتباس هذا، لكنه معطى لي بكيفية مطلقة “التكلم عن المعرفة أو استهداف التجربة، الحكم، الاستدلال، الخ”.إن ظاهرة الالتباس هذه هي من بين تلك التي نصادفها تحت عنوان المعرفة بالمعنى الواسع جدا. لكنني أستطيع كذلك إنجاز إدراك الآن وأن أوجه نظرتي نحوه، أستطيع فضلا عن ذلك بأن أتمثل إدراكا في الخيال أو في الذكرى وأن أوجه نظرتي نحوه باعتباره معطى هكذا في الخيال. لم أعد أمتلك إذن خطابا فارغا أو منظورا تمثلا ملتبسا عن الإدراك، إنما الإدراك يجد نفسه تقريبا أمام عيني، كمعطى راهني أو كمعطى للخيال. وإن هذا يصدق على كل معيش ذهنيvecu intellectuel ، على كل وجه من أوجه الفكر، وعلى المعرفة.

    لقد وضعت على الفور، هنا جنبا إلى جنب، رؤية الإدراك التَّأملي والخيال التأملي. وتبعا للطريقة الديكارتية، فإنه ينبغي، أولا، توضيح الإدراك: ذاك الذي يتطابق، في مستوى ما، مع ما يسمى في النظرية التقليدية للمعرفة، الإدراك الباطني (وهو مصطلح ملتبس تماما)

    كل معيش ذهني وكل معيش على العموم، في اللحظة التي يتحقق فيها، يمكن أن يصبح موضوعا لرؤية ولضبط محض، وأنه في هذه الرؤية يكون معطى مطلق. إنه معطى كموجود باعتباره “هذا الذي [أمامي]” والذي يكون من باب اللا-معنى وضع وجوده موضع شك. يمكنني أن أتساءل حول أي نوع من الوجود يتعلق به الأمر هنا، وما هي علاقة هذا النمط من الوجود بأنماط الوجود الأخرى. أستطيع من جهة أخرى أن أتساءل عما يعنيه هنا العطاء والحضور، وأستطيع- دافعا بالتأمل بعيدا-أن أقود تحت رؤية ما، هذه الرؤية نفسها والتي يتشكل فيها هذا العطاء أو هذا النمط من الوجود. لكنني في كل هذا أتحرك باستمرار فوق ميدان مطلق، يعني أن هذا الإدراك يكون، ويبقى، ما دام مستمرا، مطلقا، “هذا الذي [أمامي ]”، يظل شيئا ما يكون في نفسه ما هو عليه، شيئا ما أستطيع أن أقيس عليه كما لو أن الأمر يتعلق بمقياس نهائي. ما يمكن أن يعنيه أن تكون، وأن تكون معطى، وما الذي ينبغي أن يعنيه، هنا على الأقل طبعا، بالنسبة لنمط الوجود والحضور الذي يعتبر فيه “هذا الذي [أمامي]” مثالا. وهذا (أمر) يصدق على جميع الأوجه الخصوصية للفكر، حيثما تكون معطاة. (لكن يمكن أن تكون كلها معطيات في الخيال، يمكن أن تكون “شبه” حاضرة أمام أعيننا بدون أن تكون كحضورات حالية، كإدراكات، كأحكام، الخ، تحققت حاليا. فحتى إذا كانت بمعنى ما معطيات فإنها توجد هنا بكيفية حدسية، لا نتكلم عنها فقط في شكل تعيين ملتبس، في إطار منظور فارغ: إننا نراها ونستطيع، ونحن نراها، أن نمسك بماهيتها، تكوينها، بصفتها المحايثة وأن نعدل خطابنا بكيفية ملائمة تماما مع الوضوح التام الذي يقدم نفسه للنظر. إن هذا، والحالة هذه، سيتطلب على الفور بأن يكتمل عن طريق مناقشة تتعلق بمفهوم الماهية ومعرفة الماهية.)

    في انتظار ذلك، نُقِرّ بأنه من الممكن تعيين دائرة حضور مطلق، هو الدائرة التي نحن في حاجة إليها بالضبط، إذا كان ينبغي لهدفنا، هدف إقامة نظرية للمعرفة، أن يكون ممكنا. وبالفعل، فإن الغموض الذي يلف المعرفة، فيما يتعلق بمعناها أو بماهيتها، يستدعي علما بالمعرفة، علما لا يبتغي شيئا آخر سوى أن يقود المعرفة نحو وضوح فعلي. لا يسعى علم المعرفة هذا إلى تفسير المعرفة باعتبارها حدثا سيكولوجيا، ولا إلى أن يدرس شروط نظام الطبيعة التي تظهر فيها المعارف وتتوارى وأن يدرس قوانين الطبيعة التي ترتبط بها في صيرورتها وتحولاتها. فدراسة هذه الأمور هي من مهمة علم طبيعي، علم الطبيعة الذي يتعلق بالظواهر النفسية، بالمعيشات النفسية التي يحياها الأفراد. وعلى العكس من ذلك فإن ما يسعى إليه نقد المعرفة إنما هو إبراز وشرح وتوضيح ماهية المعرفة وكذلك مطالبته بالصلاحية التي تشكل جزءا من ماهيتها (إن توضيحهما، إنما يرجع إلى حضور-مباشر-بشخصه.)

    تلخيص وتكملة. تتيقن المعرفة الطبيعية من صلاحيتها وهي تتقدم باستمرار وبنجاح في مختلف العلوم، وليس لديها أي مبرر للعثور على مشكل ما في إمكان المعرفة ولا في معنى الموضوع المعروف. لكن حالما ينصرف التفكير نحو الترابط القائم بين المعرفة والموضوع، (وعند الاقتضاء كذلك نحو المحتوى المثالي والدال للمعرفة في علاقتها بالفعل المعرفي، من جهة، ونحو موضوع المعرفة من جهة أخرى) فإن صعوبات وتعارضات تطفو على السطح، ونظريات تتناقض تبدو مؤسسة، والتي تدفع إلى الاعتراف بأن إمكان المعرفة هو على العموم (فيما يخص صلاحيتها) يعتبر لغزا.

    إن علما جديدا يولد هنا، [هو] نقد المعرفة الذي يريد أن يبدد هذه العقبات وأن يوضح لنا ماهية المعرفة. نجاح هذا العلم يتعلق، على ما يبدو، بإمكان ميتافيزيقا، (إمكان) علم بالوجود بالمعنى المطلق والنهائي. لكن كيف يمكن لعلم المعرفة عموما، مثل، هذا أن يقوم؟ إن ما يضعه علم ما موضع سؤال لا يمكن أن يستخدمه كأساس معطى من قبل. والحال أن كل معرفة هي التي توضع (هنا) موضع سؤال، لأن إمكان المعرفة عموما هو الذي يعلن عنه نقد المعرفة (فيما يتعلق بصلاحيتها) بأنه إشكالي.فعندما يبدأ [ هذا النقد ] لا معرفة تستحق أن تعتبر معطاة. إنه، إذن، لا يستطيع أن يستعير أي شيء من أية دائرة من دوائر المعرفة الما-قبل علمية، فكل معرفة تحمل (معها) مؤشر إشكالية.

    بدون معرفة معطاة كبداية لا تكون هناك أية معرفة لاحقة. هكذا فإن نقد المعرفة لا يتمكن من أن يبدأ. فلا يمكن أن يكون هناك علم مثل هذا.

    والحال أنني كنت أريد أن أقول، بأنه في هذا يوجد ما هو صائب، وهو أنه لا معرفة تستحق أن تعتبر في البداية كمعطى بدون فحص. لكن إن كان ممنوعا على نقد المعرفة أن يستقبل دفعة واحدة معرفة ما مستعارة من مكان ما، فإنه يستطيع أن يبدأ بصنع معرفة، وبالطبع ليست معرفة لم يبرهن عليها، ولم يستنبطها منطقيا، الأمر الذي يتطلب معارف مباشرة يجب أن تكون معطيات من قبل، وإنما معرفة يضعها في الضوء بكيفية مباشرة والتي تكون واضحة بشكل مطلق ولا ريب فيه، بحيث تستبعد كل شك بصدد إمكانها، ولا تحمل على القطع أي شيء من اللغز الذي ينعش جميع العقبات الريبية. وإنه، هاهنا، استدعيت طريقة الشك الديكارتية ودائرة المعطيات المطلقة، أو دائرة المعرفة المطلقة التي تندرج ضمن عنوان بداهة الفكرcogitatio.

    يتعلق الأمر الآن بأن نبين عن قرب أن محايثة هذه المعرفة تجعلها [تجعل هذه المعرفة ] صافية لتصلح كنقطة الانطلاق الأولى لنظرية المعرفة، وأنه كذلك بفضل هذه المحايثة تكون هذه المعرفة متحررة من سمة اللغز الذي هو مصدر جميع العقبات الريبية، وأخيرا بأن تكون المحايثة، بصفة عامة، هي الخاصية الضرورية لكل معرفة عرفانية، وأنه من باب اللا-معنى استعارة أي شيء من دائرة التعالي، ليس فقط عند البداية وإنما بكيفية عامة، وبعبارة أخرى بتأسيس نظرية المعرفة على السيكولوجيا أوعلى أي علم طبيعي كيفما كان.

    ومن باب التكملة أضيف كذلك ما يلي: إن الحِجَاج المقبول جدا هو كيف لنظرية المعرفة-على اعتبار أنها تضع كل معرفة على العموم موضع سؤال-أن تبدأ إذ أن كل معرفة تصلح كبداية هي في نفس الوقت باعتبارها معرفة توضع موضع سؤال، وإن كانت كل معرفة بالنسبة لنظرية المعرفة لغزا فإن أول معرفة، تلك التي تبدأ بها هي نفسها تكون هي كذلك لغزا، أقول بأن هذا الحِجاج المقبول جدا هو طبعا حجاج مغلوط. إن الوهم آتٍ من العمومية الفضفاضة للغة. القول بأن المعرفة هي على العموم “توضع موضع سؤال” لا يعني طبعا بأننا ننكر على العموم وجود أية معرفة (الشيء الذي يقود إلى عبث) وإنما أن المعرفة تحتوى على مشكلة وهي مشكلة فهم كيف يمكن للعمل المنسوب إليها،[أي] بلوغ موضوعها أن يكون ممكنا. وأنني أشك، ربما، حتى فيما إذا كان ممكنا. والحال أنه حتى ولو أنني أشك هكذا فإن خطوة أولى تشتمل تقريبا على أن نرفع على الفور هذا الشك، من جَرّاء أن بعض المعارف يمكن أن تتضح فتجعل شكًّا مثل هذا بلا موضوع. من جهة أخرى عندما ابتدأ بالقول بأنني لا أفهم المعرفة تماما فإن هذا لا أفهم يغطي من دون شك في عموميته اللامحددة، كل معرفة. لكن لم يقل بأن كل معرفة سألتقي بها في المستقبل يجب أن تبقى بالنسبة لي على الدوام غير مفهومة. قد يحدث أن يكون لغز كبير مرتبطا بصنف من المعارف الذي يفرض نفسه أولا في كل مكان، وأنه بالسقوط في مأزق عام سأقول إذن: المعرفة هي على العموم لغز، في الوقت الذي تظهر فيه وأنه في معارف أخرى يكون هذا اللغز غائبا. وكما سنرى ذلك فإن هذا صحيح.

    لقد قلت بأن المعارف التي يجب أن يبدأ بها نقد المعرفة لا ينبغي أن تتضمن أي شيء إشكالي ومشكوك فيه، أن لا تتضمن أي شيء يضعنا في اضطراب معرفي ويولد نقد المعرفة بكامله. ينبغي علينا أن نبين بأن هذا يصدق على دائرة موضوع الفكرcogitatio.لكن من أجل هذا ينبغي القيام بتفكير أعمق يجعلنا ننجز خطوات هامة نحو الأمام.

    إذا لاحظنا عن قرب ما يكون لغزا جدا وما يجعلنا في المأزق عندما نبدأ في التفكير حول إمكان المعرفة، إنما هو التعالي. كل معرفة طبيعية، المعرفة الما-قبل علمية، ولسبب قوي تتموضع المعرفة العلمية بكيفية متعالية. إنها تعتبر الموضوعات موجودة، إنها ترفع من شأن زعم الوصول عن طريق المعرفة إلى أحوال ال-أشياء التي ليست في ذاتها “معطاة بالمعنى الحقيقي”، أي التي ليست “محايثة”لها.

       إذا ما لاحظنا عن قرب هذا التعالي فإننا نجد بأن له معنى مزدوج.فإما أن نفهم من ذلك،أن لا يكون موضوع المعرفة متضمنا-فعليا في فعل التعرف،بحيث أنه بكونه”معطى بمعنى حقيقي”(أو”معطى بكيفية محايثة” أي أن يكون [الموضوع ] متضمنا بالفعل فيه) فعل التعرف،الفكر cogitatio يتضمن لحظات فعلية ،لحظات تكونه بالفعل،لكن الشيء الذي يستهدفه والذي يزعم إدراكه والذي يتذكره،الخ،لا يوجد فعليا كجزء في الفكر cogitatio نفسه،مفهوما كمعيش،لا يقوم فيه كشيء يوجد فيه بالفعل.السؤال سيكون إذن هو:كيف يمكن للمعيش تقريبا أن يخرج إلى ما وراء ذاته؟المحايث يدل إذن هنا على المحايث بالفعل في المعيش المعرفي.

       لكن هناك كذلك [نوع ]آخر من التعالي والذي نقيضه هو محايثة مختلفة تماما،أعني الحضور المطلق والواضح،(الحضور-ب-شخصه بمعنى مطلق).إن هذه الكيفية من العطاء، التي تقصي كل شك،يكون لها معنى، وهذا المعنى بصر وإمساك مباشر بالموضوع المستهدف ذاته وكما هو، كيفية تشكل المفهوم الدقيق للبداهة مفهومة كبداهة مباشرة.كل معرفة غير بديهية،معرفة تستهدف وتطرح الموضوع ولا تراه هو نفسه،هي متعالية بالمعنى الثاني.في داخل هذه المعرفة نخرج إلى ما- وراء ما يكون فيها معطى بالمعنى الحقيقي،ما- وراء ما يمكن رؤيته والإمساك به مباشرة.السؤال يطرح هنا هكذا:كيف يمكن للمعرفة أن تعتبر شيئا ما غير معطى فيها مباشرة وحقيقة بأنه موجود؟

    من أول وهلة، قبل الدخول بشكل أعمق في تفكير نقد المعرفة فإن هاتين المحايثتين والتعاليين يجدان نفسيهما متداخلين فيما بينهما. فمن الواضح أن الذي يثير السؤال الأول المتعلق بإمكان التعاليات الفعلية هو في الحقيقة يترك الثاني داخلا في اللعبة، ذاك الذي يتعلق بإمكان التعالي فيما-وراء دائرة الحضور البديهي. إنه (أي الذي يثير السؤال) يفترض ضمنيا بأن الحضور الوحيد الذي يكون بحق مفهوما، بدون مشكل وببداهة تامة إنما هو ذاك الذي يكون في اللحظة المتضمنة فعليا في فعل التعرف، ولهذا السبب يعتبر كل ما هو في موضوع معروف غير متضمن في هذا الفعل كملغز، كإشكالي فعليا. (سوف نرى قريبا بأن هذا خطأ قاتل)

    لكن سواء فَهِمْنا التعالي في المعنى الواحد أو الآخر، أو في التباس معناه المزدوج، فإنه المشكل الرئيسي والمشكل الموجه لنقد المعرفة، إنه اللغز الذي يحول دون سير المعرفة الطبيعية ويشكل مبررا لأبحاث جديدة. يمكننا أن نعتبر في البداية حل هذا المشكل بأنه هو مهمة نقد المعرفة وبذلك نقوم مؤقتا بالتحديد الأول للشعبة الجديدة، بدلا من أن نعين بكيفية عامة جدا مشكل ماهية المعرفة عموما كتيمة لها.

    والحال أنه في اللحظة الأولى لتشييد هذه الشعبة يكمن اللغز، وإذن فإن ما يمنع من اعتبار ما يكون معطى من قبل يجد الآن نفسه محددا بشكل أدق. ينتج عن هذا أنه لا شيء متعال يمكن أن يستخدم كمعطى من قبل. (إذا لم أفهم كيف يمكن للمعرفة أن تصل إلى شيء ما متعال عليها فإنني لن أعرف كذلك فيما إذا كان ممكنا) إن الطريقة العلمية في تأسيس وجود متعال لم تعد الآن تفيدني في شيء. لأن كل طريقة غير مباشرة في التأسيس تحيل إلى الطريقة المباشرة، واللغز يكون متضمنا من ذي قبل في ما هو مباشر.

    لكن أحدا ربما سوف يقول: سواء كانت المعرفة مباشرة أو غير مباشرة فإنها تتضمن لغزا، فهذا أكيد. لكن الكيف  le commentهو الذي يكون ملغزا، في حين أن إنle que  هو الذي يكون أكيدا بشكل مطلق، فلا إنسان عاقل يشك في وجود العالم، وأن الريبي هو نفسه تكذبه ممارسته. جيد، سوف نرد عليه الآن بحجة أقوى تذهب بنا بعيدا. إنه يبرهن فعلا بأنه يمنع اللجوء، بأي وجه كان، إلى محتوى العلوم الطبيعية، العلوم المموضعة بكيفية متعالية، ليس فقط عند بداية نظرية المعرفة، وإنما حتى خلال تفاصيلها اللاحقة. إنه يبرهن بالتالي على الأطروحة الأساسية من أن نظرية المعرفة لا يمكنها أبدا أن تقام على علم طبيعي من أي نوع كان. نتسائل إذن: ما الذي يريد المعارض لنا أن يفعله بمعرفته المتعالية؟ إننا نضع أمامه حصيلة الحقائق المتعالية للعلوم الموضوعية، ونفترض بأنها لم تتضرر في قيمتها كحقيقة من اللغز المثار أمامنا، لغز يتعلق بكيف يكون علم متعال ما ممكنا. ما الذي يريد إذن أن يفهمه بعلمه الواسع، كيف يفهم الانطلاق من إن كي يبلغ كيف؟ إن علمه، من أن المعرفة المتعالية توجد وجودا واقعيا، يضمن له منطقيا بأن المعرفة المتعالية ممكنة. لكن اللغز هو كيف تكون (هذه المعرفة) ممكنة؟ هل على اعتبار أنه يستطيع أن يجد حلا للغز الذي تقوم فيه جميع العلوم، وهي تفترض جميع المعارف المتعالية كيفما كانت؟ لنتأمل: ما الذي ما يزال ينقصه إذن؟ بالنسبة إليه فإن إمكان معرفة متعالية هو فعلا بديهي لكنه بديهي بالضبط بكيفية تحليلية فقط، من جراء أنه يخاطب نفسه (قائلا): يقوم في ذاتي علم يتعلق بالوجود المتعالي. فما ينقصه يكون ظاهرا. إن العلاقة بالتعالي هي التي تكون غامضة بالنسبة إليه. فما يكون غامضا بالنسبة إليه هو الخاصية المنسوبة إلى المعرفة أو إلى العلم، لـ”بلوغ وجود متعال”. أين وكيف يمكنه العثور على الوضوح؟ طبعا يستطيع ذلك إذا كانت ماهية هذه العلاقة معطاة له، في مكان ما، كي يتمكن من رؤيتها، لتجد الوحدة بين المعرفة وموضوع المعرفة، الوحدة التي يشير إليها لفظ “بلغ”، نفسها أمام ناظريه، وبالتالي لا يحصل فقط على علم بإمكانها، وإنما يحصل على هذا الإمكان نفسه في وضوحه الحاضر. في الواقع أن الإمكان نفسه هو الذي يعتبر كشيء ما متعال، كإمكان معلوم ولكنه غير معطى. إن تفكيره، على ما يظهر هو كما يلي: إن المعرفة هي شيء آخر غير موضوع المعرفة؛ المعرفة معطاة لكن موضوع المعرفة غير معطى، المعرفة والحالة هذه تفرض أن ترتبط بالموضوع، بأن تعرفه. كيف يمكنني أن أفهم هذا الإمكان؟ الجواب طبعا هو كما يلي: إنه فقط إذا كان هذا الرابط قابلا بأن يعطي هو نفسه كشيء ما يمكن أن يرى، آنذاك يمكن أن أفهمه. إذا كان الموضوع شيئا متعاليا ويبقى متعاليا، وإذا كانت المعرفة والموضوع منفصلين حقيقة الواحد عن الآخر، فإنه لن يرى هنا بالتأكيد أي شيء، وأن أمله في العثور على طريق يوصله بكيفية ما إلى الوضوح، ربما بواسطة استدلال انطلاقا من بعض القضايا المتعالية، هو بالضبط جنون خالص.

    كي يكون منطقيا مع هذا التفكير فإنه يتوجب عليه في حقيقة القول أن يتخلى عن نقطة انطلاقه: يتوجب عليه أن يعرف بأنه في هذه الحالة من الأشياء، تكون معرفة ما هو متعال مستحيلة، وأن ادعاءه معرفته ليس سوى حكم مسبق. المشكل لن يكون إذن هو: كيف تكون المعرفة المتعالية ممكنة، وإنما كيف يمكن تفسير الحكم المسبق الذي يعزي للمعرفة “عملا” متعاليا: إن هذا هو بالضبط طريقة هيوم.

    لكن، لنترك هذا جانبا، ولنضف بأن مشكلة كيف (كيف تكون المعرفة المتعالية ممكنة) بل وعموما كيف تكون المعرفة على العموم ممكنة لا يمكنها قط أن تحل بفضل (علم مُعطى مسبقا حول موضوعات متعالية، بفضل قضايا معطاة من قبل) العلوم الدقيقة، من أجل توضيح هذه الفكرة الأساسية لنضف كما قلت ما يلي: إن الأصم منذ الولادة يعلم بأن هناك نبرات وأن النبرات تؤسس إيقاعات، وأن فَنًّا رائعا مؤسس عليها؛ لكن فَهْم كيف تفعل النبرات ذلك كيف تكون الأعمال الموسيقية ممكنة، فإن هذا بالنسبة إليه مستحيل. إن هذا هو بالفعل شيء ما لا يمكنه أن يتمثل له، يعني لا يمكنه أن يراه وأنه لا يمكن أن يمسك في هذه الرؤية عن الكيف. فعلمه المتعلق بالوجود لا يساعده في شيء، وسيكون من العبث أن يتشبث باستنباط كيف الفن، الموسيقي، انطلاقا من علمه هذا وبأن يسعى إلى توضيح إمكانات هذا الفن انطلاقا من معلوماته هو. أن يتم الاستنباط انطلاقا من موجودات معلومة فقط وغير مرئية، فإن هذا غير صحيح. فِعْلُ البَصَرِ لا يترك نفسه يبرهن عليه أو يستنبط من شيء ما. إنه على ما يبدو من باب اللا-معنى أن تكون هناك رغبة في إبراز إمكانات ما (وهذا كذلك بالنسبة لإمكانات مباشرة) بواسطة استنباط منطقي انطلاقا من معرفة غير حدسية. أستطيع، إذن، أن أتيقن كلية بأن هناك عوالم متعالية، أستطيع أن أترك تماما محتوى جميع العلوم الطبيعية: فلا أستعير أي شيء من هذه العلوم. لا ينبغي علي أبدا أن أتخيل بأنني يمكن أن أصل، عن طريق الافتراضات المتعالية والاستدلالات العلمية، إلى حيث أريد أن أصل إليه عن طريق نقد المعرفة: يعني أن أمسك بالبصر إمكان الموضوعية المتعالية للمعرفة. وهذا يَصْدُق على ما يظهر ليس فقط على بداية نقد المعرفة وإنما كذلك على تفاصيلها بمقدار ما تتمسك بمشكلة إبراز كيف تكون المعرفة ممكنة. وهذا يَصْدق أيضا على ما يبدو على مشكل الموضوعية المتعالية وعلى إظهار كل إمكان.

    إذا ما ربطنا بهذا [الذي قيل] المَيْلَ القوي الذي لدينا في جميع الحالات التي يتحقق فيها فعل تفكير متعال، وحيث يتعلق الأمر بإقامة حكم على قاعدة هذا الفعل، بأن نحكم في المعنى المتعالي وبأن نسقط،من تم،في μετάδασις εις αλλο γέυος، فإنه ينتج عن هذا الاستنباط الكافي والتام للمبدأ المعرفي التالي في كل بحث معرفي، سواء تعلق بهذا النّمط من المعرفة أو ذاك، ينبغي إنجاز الاختزال الغنوصيولوجي، يعني تسجيل كل تعال يكون داخلا في اللعبة، مؤشر الوضع خارج التيار، أو مؤشر اللامبالاة، بطلان معرفي، مؤشر يقول هذا الذي يلي: إن وجود جميع هذه المتعاليات،سواء كنت أومن بها أم لا،وجود لا يهمني هنا في شيء، فالأمر هنا لا يتعلق بإصدار حكم بصددهذه المتعاليات  فكل هذا يبقى كلية خارج اللعبة.

    ترتبط جميع الأخطاء الأساسية لنظرية المعرفة بما يطلق عليه اسم. μετάδασις (الخطأ الأساسي للنزعة السيكولوجية من جهة، ومن جهة أخرى خطأ النزعة الأنتربولوجية والنزعة البيولوجية). إن لها آثارا خطيرة جدا لأن المعنى الحقيقي للمشكل لم يخرج قط إلى حيز الوضوح، وأنه في هذه الميتافيزيقا، يضيع تماما، في جزء منه كذلك، لأنه، حتى ذاك الذي يسعى إلى جعل هذه المشكلة واضحة، لا يجعل هذا الوضوح فعالا، ولا يحافظ عليه إلا بصعوبة، وأنه عندما يتراخى فكره يضيع مرة أخرى، فلا نعود نستطيع أن نطرح المشكل بسهولة في كيفيات التفكير والحكم بشكل طبيعي، وكذلك في جميع الكيفيات الخاطئة والمضلة لطرح المشكل والتي تتولد في ميدانه.

    Edmund Husserl, Lidée de la Phénoménologie, Cinq leçons, traduit de l Allemand par Alexandre Lowit, EPIMETHEE Essais philosophiques, Collection fondée par Jean Hyppolite et dirigée par Jean-Luc Marion , PUF 4 édition 1990 Juin.

  • الفلسفة والتواصل الرهان والممكن | عز الدين الخطابي

    بخصوص الفلسفة والتواصل، تتوزع القضايا المقترحة في هذه الدراسة على فضاءين وهما: فضاء الرهانات وفضاء الممكنات.

    فالأول يشمل رهانات ومفارقات العملية التواصلية والتي أثارها باحثون في حقول متعددة [ علوم الإعلام، بسيكولوجيا، سوسيولوجيا الخ…]. أما

    الثاني فيتضمن الممكن الكانطي والممكن الهيجيلي في تبليغ الفلسفة وتعليمها، ونود الإشارة هنا إلى أننا سننطلق من فرضية مفادها أن الفلسفة تواصلية، متجنبين الخوض في النقاش الذي أثاره جيل دولوز وفليكس غاتاري عبر المصادر القائلة بأن الفلسفة لا تتأمل ولا تفكر ولا تتواصل.

    فكيف تتوزع المساحات والأدوار على هذين الفضاءين؟

    1. رهانات ومفارقات التواصل:

     رغم أن القاعدة التواصلية تبدو بسيطة وشفافة، حيث تحدد العملية التواصلية كتبليغ لمعلومة (أ) إلى متلقي (ب) بواسطة قناة اتصال (ج)، إلا أن هذه العملية تتضمن رهانات ومفارقات تسمح بإعادة النظر في الشفافية والبساطة المزعومتين.

    فالرسائل المبثوتة نادرا ما تكون واضحة وأحادية المعنى، بل إنها على العكس من ذلك تتضمن تعددا دلاليا. كما أن المتلقي لا يكون مجرد مسجل سلبي للمعطيات المرسلة، بل إنه يعمل على انتقاء هذه الأخيرة وغربلتها وتحويلها. وبخصوص قناة الاتصال، فهي بدورها تؤثر في مضمون الرسالة بحسب طبيعة الوسائل المستخدمة [وسائل سمعية بصرية، أسلوب التخاطب المباشر…].

    وأخيرا، أثبتت الدراسات في مجال علوم الإعلام أن التواصل لا يتضمن فقط فعل الإخبار، بل يبحث أيضا عن طرق التأثير في الآخر وإيهامه وإغرائه. يتضح إذن بأن التواصل عملية معقدة، من هنا وجب الكشف عن طبيعة هذا التعقيد، وإبراز الرهانات والمفارقات التي تسم هذه العملية.

    وقبل ذلك، نشير إلى أن مفهوم المفارقة Paradoxe يؤخذ هنا بمعنى التناقض الناتج عن عمليات استنباطية صحيحة، وذلك انطلاقا من مقدمات وأوليات متماسكة.

    ويسمح هذا التحديد بإقصاء كل أشكال المفارقات الزائفة Faux paradoxes القائمة على خطأ برهاني مضمر أو على قول سفسطائي لا يستند على مقدمات متينة. وعادة ما تستعمل لفظة “متناقضات” antinomies كمرادف للفظة مفارقات، خصوصا ضمن الأبحاث ذات الصبغة الصورية، كما هو الأمر في مجال المنطق والرياضيات. [نستحضر هنا متناقضات العقل لدى كانط والمتعلقة بالقضايا الميتافيزيقية الكبرى مثل: الوجود الإلاهي ولا نهائية العالم ومسألة الروح، إلخ..]. وقد مكنت الأبحاث في هذا المجال بتحديد ثلاث أشكال للمفارقات وهي:

    1. المفارقات المنطقية-الرياضية أو المتناقضات [مثل مفارقات: أخيل والسلحفاة أو السهم الطائر لزينون الإيلي].
    2. التعريفات المفارقة أو المتناقضات السيمانتيقية، حيث يتخذ الملفوظ دلالة متناقضة [مثل قولي “أنا كذاب”، فدلالة الملفوظ لا يمكن أن تكون حقيقية إلا إذا كانت كاذبة والعكس أيضا. فأنا أقول الحق عندما أكذب!].
    3. المفارقات التداولية التي تتحدد عبرها التبادلات الإنسانية والسلوكات الواجب اتباعها ضمن هذه التبادلات، وترتبط عادة بما يسمى بالإلزامات المفارقة injonctions paradoxales، كما هو الحال في العبارة التالية: “كن تلقائيا!” فمعلوم أن التلقائية مرتبطة بحرية الفعل وليس بالإلزام.

    يتضح إذن بأن المفارقات حاضرة على مختلف المستويات: فكرية ولسانية وسلوكية. ولأن الأمر يتعلق بفعالية الإنسان وبتفاعلاته، فإن فعله التواصلي يظل رهين المفارقات، كما أن رهانه سيتمثل في الحفاظ على تقاليد الحوار والتحاور وقبول الآخر المختلف.

    وإذا ما حاولنا تشخيص الوضع التواصلي، فإننا سنتوصل إلى مجموعة من الحقائق منها:

    تعدد المعاني التي يحتويها مضمون رسالة ما: إذ أن كل معلومة تتوفر على مضمون ظاهر وآخر خفي. وقد أكدت الأبحاث السيميائية [بيرس، بارث، إيكو…] بأن غموض المعنى يرجع إلى تعدد دلالات العلامات المستخدمة في عملية التواصل.

    وفي هذا الإطار، أكدت عمليات تحليل الحوار في مجال الإثنو-لسانيات بأن تبادل العلاقات والرموز، يؤدي إلى العديد من سوء التفاهم وإلى تحويل المعنى المقصود من طرف أحد المخاطبين.

    بخصوص قناة الاتصال: هناك تساؤلات تطرحها الأبحاث في مجال التواصل مثل: هل للصورة تأثير أكبر على المتلقي من تأثير المكتوب؟ وهل هذا الأخير أكثر فعالية من الشفوي؟ وهل يساهم التقارب بين المتخاطبين ولقاؤهم المباشر في جعل الرسائل المبثوتة أوضح وأفيد مما هو عليه الحال بالنسبة للرسائل المبثوتة عبر وسائط [ إعلامية أو مؤسساتية]؟

    وفي هذا الإطار أيضا، تطرح مسألة استقبال المعلومة من طرف المتلقي الذي لا يمكن اعتباره سلبيا بأية حال، فهو يقوم بفك رموز الرسالة وتحليلها وتأويلها. بحيث تتحكم في ممارسته هاته مجموعة عوامل منها: مرجعيته الثقافية وحمولته المعرفية والمسافة القائمة بين مستواه الثقافي والمستوى المطلوب لفهم المعلومة. وهذا هو المقصود من مفهوم غربلة المعلومات من طرف المتلقي الذي ينعكس انتماؤه الثقافي على مواقفه وردود أفعاله.

    وقد دفع هذا الوضع بالباحث أليكس مكييلي A.Mucchielli إلى تحديد مجموعة من الرهانات المطروحة على العملية التواصلية وهي: الرهان الإعلامي، رهان التموقع، رهان التأثير، الرهان العلائقي والرهان المعياري.

    فالرهان الأول للتواصل هو نقل المعلومات، ويدعوه جاكوبسون بالوظيفة المرجعية. غير أن التواصل والإخبار قد لا يتلازمان، وعلى سبيل المثال، فإن مهنة التعليم والعمل الصحافي، وإن كان هدفهما هو الإخبار والإعلام، إلا أن بإمكانهما الانسياق وراء رغبة التلاعب بأفكار المتلقي وإغرائه، كما يحدث أحيانا في المجال السياسي.

    ويتمثل الرهان الثاني في لعبة التموقعات التي يقوم بها أطراف العملية التواصلية. وإذا ما اعتبرنا مع “إرفين كوفمان” “E.Goffman” بأن العلاقات الإنسانية هي عملية إخراج مسرحي للذات Mise en scène de soi، فإن التواصل سيكون في أساسه بروزا أمام الآخر بمظهر خاص وسيكون الهدف منه تقديم صورة متميزة عن الذات وتبرير مواقفها والدفاع عن ما يميزها كهوية.

    ومن هنا يتجلى تأثير الوظائف الاجتماعية والأدوار على عملية التواصل [ إذ أن الوضع المهني مثلا، يختلف عن الوضع داخل الأسرة أو في المقهى أو أمام كاميرا…] ضمن ما يمكن تسميته بلعبة التموقع ورسم الحدود أو “الخطوط الحمراء” التي يجب على الآخر عدم اجتيازها.

    أما الرهان الثالث، فيتعلق بالتأثير في الآخر وإقناعه، بل إغرائه وتمويه الحقيقة عليه بهدف جعله مشاركا لنا في الرأي. وتبرز هنا أهمية الحجاج كأداة ضرورية في العملية التواصلية. وقد سبق لحاييم بيرلمان C.Perelman بأن أكد بأن الحجاج يسكن في بيت أغلب أشكال التواصل اللساني، سواء تعلق الأمر بالحوار العادي أو بالمطارحات الفكرية أو بالعروض العلمية. فوراء النقل العادي لمعلومة ما، تكمن الإرادة في المحاجة، أي في إخضاع الآخر لرأينا والتأثير عليه بالتالي.

    بخصوص الرهان الرابع، فهو يهدف إلى تنظيم العملية التواصلية، ذلك أن العلاقة بين شخصين نادرا ما تكون تلقائية وبسيطة وهادئة، فهي على العكس من ذلك تتسم في الغالب، بعدم الاستقرار على مستوى السلوك وبالصراع على المستوى العاطفي والفكري. وهنا تبرز ضرورة وضع قواعد لتنظيم عملية التواصل وإخضاعها لآداب المجاملة والحوار [من قبيل: اسمح لي أن أخالفك الرأي، أن أقاطعك، ما رأيك؟..].

    والهدف من ذلك، هو ضمان استمرارية التواصل والحفاظ على الرابطة الوجدانية التي تجمع بين المرسل والمتلقي.

    ويعتبر الرهان الأخير معياريا، لأنه يخص آفاق العلاقة الإنسانية التي تتلخص في ضرورة بناء مجتمع حواري يوجهه مبدأ قبول الآخر المختلف. فالتواصل، وإن كان ينطلق من استراتيجية تأكيد الذات والتأثير في الآخر، إلا أنه يهدف في العمق إلى بناء ما يسميه هابرماس Habermas بـ”الفضاء العمومي” كفضاء للعلاقات القائمة على الاختلاف والحوار وسيادة روح الديمقراطية والتسامح.

    ويمكن تحقيق ذلك، إذا ما نحن شيدنا نموذجا آخر للتواصل، يعوض التعاقد الاجتماعي الكلاسيكي بين الفرد والمجتمع، بتوافق تبلوره المناقشة بين جميع الأفراد بهدف تحقيق “المواطنة الديموقراطية”. ويؤكد هابرماس بأن هذا الأمر سيسمح بخلق علاقات تشاورية تشكل مستوى أرقى من الديموقراطية التمثيلية [البرلمانية]، لأنها ستؤدي إلى تبادلات أوسع يتم فيها إعادة الاعتبار إلى الذات الفاعلة في فضاء المجتمع.

    في ضوء هذه المعطيات نتساءل: كيف يتحدد فعل التواصل في درس الفلسفة؟ وما هي رهانات هذا الدرس؟ وكيف يمكن للفلسفة أن تكون فضاءا للحوار وللديمقراطية، وأن تحقق التعايش بين الحرية والضرورة؟

    إن الأمر يتعلق هنا تحديدا بالحرية المتمثلة في فعل التفلسف، أي في ممارسة التفكير النقدي التساؤلي وبالضرورة المتمثلة في المؤسسة المدرسية والإلزامات البيداغوجية التي يطرحها تعليم الفلسفة. فما هي تجليات هذه الإشكالية؟ا

    2. الفلسفة والتواصل أو مدى قابلية الفلسفة للتعلم:

    ترتبط هذه الإشكالية بمسألة تبليغ الفلسفة وإيصالها إلى المتلقي، وهي مسألة وإن كانت راهنة، إلا أنها تحيل على نقاشات فلسفية قديمة، برزت بالخصوص مع أفلاطون ضمن مقولات النضج الفلسفي وسن التفلسف، واستمرت عبر تاريخ الفكر الفلسفي مع كانط، هيجل ونيتشه، وصولا إلى شاتلي، دولوز ودريدا. وقد أثيرت في إطارها علاقة الفلسفة بالمؤسسة [كإنتاج للمعارف وللحقائق ] وأيضا علاقة حرية الفرد في التفكير وفي إصدار الأحكام، بالضرورة البيداغوجية والديداكتيكية.

    وسنقتصر على نموذجين أثارا بشكل عميق مثل هذه القضايا، وذلك ضمن استراتيجيتين مختلفتين في تبليغ الفلسفة: تراهن الأولى على تعلم التفلسف وتراهن الثانية على تعليم الفلسفة. إن الأمر يتعلق هنا بالفيلسوفين الألمانيين: كانط وهيجل. فما هي الحجج التي اعتمدها كل فيلسوف لتبرير موقفه؟

    1.2 الاستراتيجية الكانطية أو تعلم التفلسف:

    لقد انطلق إيمانويل كانط من التمييز بين التفلسف وفكرة الفلسفة. إذ اعتبر بأن فكرة الفلسفة كنسق مكتمل ليست سوى فكرة لعلم ممكن، أما فعل التفلسف فإنه موجود حقيقة، وهو بمثابة تخل عن كل نزعة دوغمائية.

    لهذا سيعتبر بأنه لا يمكن تعلم الفلسفة، فما يمكن تعلمه هو التفلسف، لأن الفلسفة هي نسق كل معرفة فلسفية، والفيلسوف هو من يكون قادرا على استخدام ودمج كل المعارف كأدوات لتحديد الغايات الأساسية للعقل الإنساني، وفيلسوف كهذا لم يوجد بعد.

    لذا، لا يمكننا أن نتعلم سوى التفلسف كفعل للتفكير يفحص مبادئ الأنسقة الفلسفية ومصادرها، ويعمل على تأييدها أو رفضها وبالتالي يصدر حكما شخصيا قائما على خاصية النقد.

    وسيقدم كانط بهذا الصدد مجموعة من الحجج، نعرضها بشكل موجز. هكذا سيعتبر بأن فعل التفكير هو استخدام لملكة العقل، هذا الاستخدام الذي يقوم أساسا على مبدأ الحرية. لذلك فإن التعلم بالنسبة للعقل هو ممارسة الحرية. وسيرفض كانط تبعا لذلك كل ما من شأنه أن يخضع عملية تدريس الفلسفة لشروط مخالفة لتلك التي اختارتها الفلسفة بحرية.

    إن تعلم التفكير وممارسته، ليس تعلما لمحتويات أو لأنساق، إنه استعمال نقدي للعقل، وتجاوز لكل الصيغ الدوغمائية التي أسسها العقل نفسه. وهذا الاستعمال النقدي للعقل هو حوار، وباعتباره كذلك، فإنه يحدد الفضاء المؤسساتي للتفلسف كمكان للصراع الفكري وليس أبدا كمكان للحرب أو العنف. ولا يسمح هذا التحديد بوضع تصور دقيق حول ما يجب أن يكون عليه تدريس الفلسفة، فهو يشير فقط إلى ضرورة الاستعمال الحر للعقل النقدي وإلى فهم الممارسة الفلسفية كتفلسف.

    وهو ما دفع كانط إلى إقرار الصيغة المشهورة: “لا يمكننا أن نتعلم الفلسفة بل يمكننا أن نتعلم التفلسف”. (أي استعمال قدرة العقل في تطبيق مبادئه العامة على بعض المحاولات التي تظهر أمامه، لكن مع احتفاظ العقل بحقه الدائم في البحث عن هذه المبادئ ذاتها، داخل منابعها والتأكد منها أو رفضها بالتالي). ويمكن للتمعن في هذه الصيغة أن يخرج بملاحظتين أساسيتين:

    أولاهما أن كانط يميز بين التفلسف كفعالية عقلية والفلسفة كمعرفة.

    وثانيهما أن الفلسفة هي في أساسها شيء آخر غير كونها مادة مدرسية إذ لا يمكننا تعلمها.

    ويرجع هذا التحديد إلى تمييز كانط بين المفهوم المدرسي للفلسفة Concept scolastique ومفهومها الكوني: concept cosmique ففي المدرسة يعني التفلسف تمرينا عقليا يتطلب الأناة والصبر، وهو ما يسمى عند كانط كما عند أرسطو بالديالكتيك. أما الفلسفة فإنها مطالبة بتحمل مسؤولية أخرى، فهي لا تحدد ما معنى التفكير فقط، بل تقاس بمثال: إنه مثال الفيلسوف النموذج l’idéal du philosophe type الذي يعتبره كانط مشرع العقل الإنساني.

    ويلاحظ جاك دريدا بهذا الصدد، بأن مقولة كانط تسمح بوضع تمييز داخل الفلسفة ذاتها بين “التاريخانية المدرسية” والعقلانية، إذ بإمكان التلاميذ أن يتعلموا ويستظهروا مضامين هي عبارة عن أنساق فلسفية.

    وفي هذه الحالة، يمكن لأي كان أن يعتبر تلميذا بغض النظر عن سنه. فبإمكاننا كما يقول كانط، أن نحافظ مدى الحياة على علاقة تاريخية –أي مدرسية- بالفلسفة التي لن تصبح سوى تاريخا لعرض المواقف الفلسفية. وهذا التمييز داخل الفلسفة لا يصدق بالمقابل على الرياضيات التي يمكن معرفتها وتعلمها. فمن بين كل العلوم العقلية، يقول كانط: “يمكن للرياضيات أن تعلم بطريقة عقلية، في حين لا يمكن تعلم الفلسفة [ اللهم إلا إذا كان ذلك بشكل تاريخي ]، أما بخصوص العقل، فلا يمكن أن نتعلم سوى التفلسف”.

    يمكننا أن نستنتج –في ضوء ذلك- بأن ماهية الفلسفة تنفي كل إمكانية لتدريسها، أما ماهية التفلسف فتستوجب ذلك، فما يوجد هو فعل التفلسف أما الفلسفة فإنها حاضرة كأثر، وهو ما يفسر إقرار كانط بأن الفلسفة كنسق ليست سوى فكرة لعلم ممكن.

    وهنا تواجهنا مجموعة من الأسئلة وهي: كيف تقر بأن الفلسفة غير قابلة للتعلم، من منطلق أنه لا توجد فلسفة نسقية صالحة للجميع أو نؤكد من جانب آخر على أن بإمكانها أن تتواجد داخل فضاء المؤسسة كتفلسف وأنه من الممكن تعلمها باعتبارها كذلك؟

    وإذا كانت وظيفة الفلسفة انتقادية أساسا، ألا يعتبر حصرها في مكان ما متناقضا مع جوهرها القائم على التفكير بحرية؟

    ألا يستوجب النقد الفلسفي نوعا من الترحال، ومن الاستقلال عن كل مكان مؤسساتي يتضمن في حد ذاته خطر سجن الفكر النقدي ووضعه تحت الإقامة المحروسة؟

    يجيبنا كانط بأن الفلسفة هي في الأساس تأمل نقدي، وإذا ما اختزلنا هذه الهوية ضمن مادة مدرسية وجامعية، فإننا سننفي عنها طابعها التأملي وخاصيتها النقدية. بهذا المعنى نستطيع الحديث عن بيداغوجيا التفلسف لدى كانط، ترفض تدريس الفلسفة المذهبية والنسقية، وتعطي الحق للفردانية ولحرية التفكير مع أخذها بعين الاعتبار ضرورة الفكر الكوني الشمولي.

    هكذا فإن تدريس الفلسفة يجب أن يركز على تعليم التفكير بهدف تعويد العقل على الممارسة النقدية، كما يجب على الفلسفة أن تنفتح على المؤسسة المدرسية، شريطة ألا تحاصر هذه الأخيرة ممارسة العقل النقدي.

    تلك إذن هي استراتيجية كانط المتعلقة بمسألة تعلم التفلسف، فما هو رد هيجل على هذا الموقف؟

    2.2 الاستراتيجية الهيجيلية أو تعلم الفلسفة:

    بالنسبة لهيجل إن قابلية الفلسفة للتعلم هو ما يجعلها قابلة للتواصل. وما يمكن تعلمه هو محتوى الفلسفة وليس التفلسف كما سبق لكانط أن أقر بذلك. فبتعلمنا لمحتوى الفلسفة، يقول هيجل، لا نتعلم التفلسف فقط، ولكننا نتفلسف فعلا.

    كما أن السعي نحو تعلم التفلسف في غياب محتوى الفلسفة، سيؤدي إلى تكوين أذهان فارغة. ولأن فكر المتعلم ناقص ومتعثر ومليئ بالأوهام، فإن تعلم محتوى الفلسفة سيملأ فراغاته، ويجعل الحقيقة تحل محل الفكر الوهمي. “إنني، -يقول هيجل-، أُصاب بفزع عظيم كلما عاينت النقص الكبير في ثقافة ومعارف الطلبة الذين يدرسون بالجامعة، ليس فقط بالنسبة لي، بل كذلك بالنسبة لزملائي، خصوصا عندما أتذكر بأننا معينون لتدريس هؤلاء الأشخاص، وأننا نتحمل مسؤولية تكوينهم، وأن الهدف من هذا التكوين قد لا يتحقق بالرغم من النفقات المخصصة لذلك. غير أن غاية هذا التكوين لا تتعلق فقط بتكوينهم المهني، بل تهدف كذلك إلى تكوينهم الفكري”.

    هكذا، فإن الإقرار بتعلم الفلسفة يرجع إلى اعتبار هذه الأخيرة كعلم موضوعي للحقيقة. فالفلسفة كمادة تعليمية، كعلم، ينبغي أن تدرس كباقي العلوم، وينبغي أن تدرس من خلال تاريخ الفلسفة كمحتويات أي كتجليات للحقيقة. وسيضع هيجل خطة لتدريس الفلسفة يشترط فيها أن يكون المدرس متوفرا على خاصتي الوضوح والعمق، وأن يخضع لتطور وتدرج يتناسب مع مستوى المتلقين ومع الحصص الزمنية المخصصة له. وهو ما طرحه في رسالته الموجهة إلى الوزارة الملكية المكلفة بالشؤون الطبية والمدرسية والدينية. إلا أن الملاحظ بالنسبة لهاته الرسالة، هو أن حضور الفلسفة بالثانوي عرضي أكثر منه أساسي. فقد جاء فيها بصريح العبارة: “لست في حاجة إلى أن أوضح بأن العرض الفلسفي يجب أن يقتصر على الجامعة وأن يقصى من التعليم الثانوي”. وسيضيف في موضع آخر بأنه من اللازم إقصاء الميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة من المؤسسة الثانوية.

    هكذا سيتحدث هيجل عن معارف تحضيرية بالثانوي، وتحديدا في السنة النهائية تسمح بالتحرك داخل مجال الأفكار المجردة والاستئناس بالأفكار الصورية كتحضير مباشر للدراسات الفلسفية بالجامعة.

    وتتلخص هذه المعارف في ما يطلق عليه: علم النفس التجريبي الذي يدرس التمثلات الحسية وتخيل الذاكرة بالإضافة إلى ملكات نفسية أخرى.

    كما ينحصر هذا التعليم في إعطاء مقدمة في المنطق يكون موضوعها الرئيسي هو الأسس الأولية للمنطق، ويمكن أن يمتد إلى نظرية المفهوم والحكم والقياس بمختلف أشكاله، ومن ثم إلى نظرية التعريف والتقسيم والبرهان. وبنفس الكيفية ستظل بعض المفاهيم المحددة والدقيقة، المتعلقة بطبيعة الإرادة والحرية والقانون والواجب، في موقعها الأصلي بالتعليم الثانوي.

    وقد كان هيجل واضحا حينما أكد بأن هذه المعارف تحتاج إلى استعمال الذاكرة، ومن هنا أهمية المحتويات التي يتم تقديمها في هذا الإطار. يقول هيجل: “لن أشعر بالحرج البتة، إذا ما قمت باقتراح شيء من هذا القبيل في هذه المرحلة من التعليم الثانوي. فلامتلاك معرفة ما ومن ضمنها الأكثر سموا، يجب تركيزها أولا في الذاكرة، سواء كان البدء منها أو الانتهاء بها. فإذا كان البدء منها، فسنحصل على مزيد من الحرية وعلى تحفيز للتفكير نفسه. كما يمكننا بالإضافة إلى ذلك التصدي لذلك الذي يرغب حضرة الوزير بحق في تجنبه، ونقصد سقوط التعليم الفلسفي بالثانوي في حشو العبارات الجوفاء، أو تجاوز حدود التعليم المدرسي”.

    إن هذا الموقف من مسألة تدريس الفلسفة بالثانوي، سيدفع بالفيلسوف جاك دريدا وضمن قراءة متعمقة لهاته الرسالة إلى إقرار أن فيلسوف يينا يمارس الإقصاء بحق كل إمكانية لممارسة الفلسفة قبل المرحلة الجامعية وإن كان يقترح دروسا تحضيرية للفلسفة بالثانوي بمعدل ساعتين أسبوعيا. هكذا يقول دريدا: “يتم إقصاء الفلسفة بالمعنى الحقيقي، مع قبول تدريس شكلها غير الفلسفي Sa forme improprement philosophique وبطريقة لا فلسفية de façon non philosophique وعبر دروس ذات صبغة معيارية أو إلزامية، مثل دروس الأخلاق، والأخلاق السياسية الخ…”.

    هكذا فإن المواد الملقنة في هذه المرحلة [ علم النفس التجريبي، مقدمة المنطق والأخلاق] تبدو معارضة لروح التفلسف القائمة على مبدأ الحرية العقلية والنقد. وهو ما يجعل الطرح الهيجيلي مخالفا في جوهره للطرح الكانطي.

    وهنا نتساءل: هل نقر مع كانط بمسألة تعلم التفلسف بما يتضمنه ذلك من مساءلة ونقد؟ أم نساير هيجل القائل بضرورة تعلم محتوى الأفكار وامتلاك المعرفة بالاعتماد على الذاكرة أساسا؟

    لنترك السؤال مفتوحا كما يقول هايدجر.

    3.2 درس الفلسفة ومسألة الانفتاح على العقلانية والحداثة.

    أكد دريدا في نص شهير له بأن قسم الفلسفة في الثانويات هو الفضاء الذي يمكن فيه لنصوص حول الحداثة النظرية والماركسية والتحليل النفسي على الخصوص أن تؤدي إلى ممارسة القراءة والتأويل.

    وهذا معناه أن درس الفلسفة هو المجال الذي يمكن فيه الانفتاح على الشأن الإنساني، أي على كل ما له صلة بالفعالية الإنسانية: اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفكريا. ولأن الأمر يتعلق بالإنسان المغربي فإن هذا الدرس يجب أن يراهن على مسألتين أساسيتين وهما: الحداثة والعقلانية.

    وقد ارتبط مفهوم الحداثة، كما هو معلوم بمقولات العقل وتقدم العلوم أي بأهمية النشاط العقلاني للإنسان، الذي سيطال مختلف المجالات: تقنية كانت أو إدارية، سياسية أو اقتصادية. لذلك فإن المجتمعات الحديثة قد أسست لمفاهيم مركزية، عرفت انطلاقتها من فكر الأنوار وارتبطت بعد ذلك بفكرة الذاتية والنزعة الإنسانية والتقنية والمشروع الكوني. وتتجلى هذه المفاهيم عبر فكرة المواطنة والديموقراطية والمعرفة النسبية ومفهوم المثقف ومفهوم التاريخ ومفهوم الحق الخ. وهي مفاهيم ملازمة للعقل وللعقلانية. فالحداثة بهذا المعنى هي إقرار للتعدد والاختلاف ورفض للتجانس والتماهي والخضوع، ولذلك فإن مفاهيم الذاتية والفردية والحرية، تشكل العدة التي تتسربل بها المجتمعات الحديثة، حيث تعبر العلاقات الاجتماعية عن حرية الأفراد واستقلالهم الذاتي. وكما يؤكد ألان تورين A.Touraine فإن الفرد مواطن بسبب وجوده الفردي الحر، مثلما أنه حر بسبب المواطنة التي يتمتع بها.

    من هذا المنطلق، يمكن اعتبار الفلسفة كمجال لتجلي الفكر الحداثي، لأنها تنبني على الاعتراف بتعدد المواقف والرؤى، وتستند على مبدأ الإنصات والتحاور مع الآخر وعلى المساءلة والنقد، أي أنها تقوم على ما يدعوه كانط بـ”الحرية العقلية” التي لا يمكن للفلسفة أن توجد بدونها.

    لذلك، يمكن الإقرار بأن فعل التفكير كاستخدام لملكة العقل، يقوم أساسا على مبدأ الحرية. وشرط التفلسف هو تفعيل الحوار والتخلي عن كل نزعة دوغمائية أو إقصائية، والتأكيد بالتالي على أن الفكر الفلسفي هو وجه من وجوه “الثقافة الديموقراطية”.

    ولأن التفلسف هو بمثابة ممارسة نقدية، فهو يستدعي خوض غمار المساءلة والدخول في معترك الأسئلة، عبر تتبع مسارات الفكر الذي ينادينا ويدعونا للقيام بفعل التفكير، فهو إذن دعوة للابتكار والخلق ولخلخلة الثوابت والبديهيات والمطلقات وتفكيكها من الداخل. فعبر عملية التفكيك، تصبح كل القضايا عرضة للمساءلة والنقد والحوار وهذا هو الهدف الأساسي من كل ممارسة فلسفية.

    ولأن الفلسفة اختارت هذا المسار منهجا، فإن درسها ملزم بخلق فضاء حواري قائم على الاستفهام والاستشكال، بغية بعث روح النقد والمساءلة لدى متلقي المعرفة الفلسفية. وبطبيعة الحال، فإن ذلك يستوجب توفر فضاء مؤسساتي منبن على الحرية واحترام الآراء المعارضة والمغايرة وإمكانية الإبداع.

    إذ لا يمكن الحديث عن حرية الرأي والتعبير داخل القسم، دون ربطها بوضع الحريات بمختلف مؤسسات المجتمع ومن ضمنها المؤسسات التعليمية.

    وبذلك سيصبح رهان الفلسفة مجتمعيا وسياسيا وثقافيا، إنه رهان العقلانية والحداثة والحق في الاختلاف، أو بتعبير جاك دريدا: هو رهان “الديموقراطية المنتظرة”

    عز الدين الخطابي

زر الذهاب إلى الأعلى