مفهوم الرغبة

المحور الثاني: الرغبة والإرادة

تحليل ومناقشة نص “جيل دولوز” “الرغبة إنتاج إجتماعي” ص34

الرغبة إنتاج اجتماعي

إذا كانت الرغبة هي غياب الموضوع الواقعي، فإن واقعها ذاته، يكمن في ماهية للغياب ” وهي التي تنتج الموضوع المتخيل استيهاميا. لقد عرض لنا التحليل النفسي عمل الرغبة كإنتاج، لكنه إنتاج للاستيهامات. ففي مستوى أول من التأويل، الذي يقترحة التحليل النفسي، نجد الموضوع الواقعي الذي – تفتقده الرغبة يميل إلى إنتاج طبيعي وخارج عن الذات، في الوقت الذي تنتج الرغبة داخل الذات موضوعا خياليا يعوض الموضوع المفتقد في الواقع كما لو كان وراء كل موضوع متخيل موضوع واقعي، أو إنتاجا عقليا وراء الإنتاجات الواقعية …. ...


التأطير النظري والإشكالي للقضية الفلسفية

يتحدد منطوق النص داخل المجال العام “لمجزوءة الانسان” وينخرط مضمونه ضمن المجال الإشكالي “لمفهوم الرغبة” في علاقتها بـ”مفهوم الإرادة”، وهو يعالج الإشكالية الفلسفية المتعلقة بالرغبة والإرادة. فحين نفكر في طبيعة هذه العلاقة، نجدها تطرح إشكالية فلسفية تتعلق بالتداخل الحاصل في دلالات هذين المفهومين وتقاطعاتهما، فمن ناحية أولى: يبدو أن الرغبة تتقاطع مع الإرادة، مادامت تشتغل في نطاق الواقع والخيال معا، ومادام مجال تحقق الإرادة هو الواقع فقط، ومن جهة أخرى، قد تتحول الرغبة إلى إرادة حينما يتم الوعي بها، وأجرأتها فعليا وواقعيا بإقرانها بالفعل والعمل الجاد والمثابرة. وفي سياق هذا التقابل الذي تطرحه العلاقة بين المفهومين يمكننا التعبير عن جوهر الإشكال الفلسفي المطروح في ضوء الأسئلة الفلسفية التالية:

مطلب التحليل

أطروحة النص

يجيب صاحب النص عن الإشكال المطروح بالقول: “إن الرغبة لا ترتبط بالإنتاجات اللاشعورية، التخيلية والاستيهامية، ولا يتحدد موضوعها كغياب، أي كموضوع مستحضر ذهنيا، بل ان الرغبة إنتاج اجتماعي واقعي، فهي وواقعها شيء واحد، متماهية مع موضوعها وتشتغل في إطار الواقع بشكل فعلي كإنتاج إرادي”.

مفاهيم النص وشرحها

في تقديم صاحب النص لأطروحته، وظف جملة من المفاهيم التي تحتاج إلى تحديد، من قبيل مفهوم “الرغبة” و”الإرادة” و”الواقع”. فما دلالة هذه المفاهيم؟

تُعرف “الرغبة” باعتبارها ذلك النزوع أوالميل النفسي، الذي يدفع الفرد الى تحقيق أشياء يفتقدها في وضعه الحاضر، والتي تعتبر بالنسبة إليه مصدر متعة وارتياح”، أما مفهوم “الإستيهامات” فتحيل على الأفكار التخيلية اللاشعورية التي تنتجها الذات الانسانية بفعل غياب الموضوع المرغوب فيه، في حين يشير مفهوم “الواقع” إلى كل معطى حسي قابل للادراك والشعور، هذا ويُرادُ بمفهوم “الإنتاج الاجتماعي” تحويل الرغبة من مستوى التخيلات والاستهامات الى مجال الفعل والممارسة الواقعية.

العلاقة بين المفاهيم

وفي سياق العلاقة بين المفاهيم يتبين أن الرغبة ليست تخيلات واستهامات فردية ذاتية بل هي بمثابة إنتاج واقعي واجتماعي أيضا، اذن فالرغبة لكي يتم تحقيقها واقعيا لابد من الوعي بها وإخضاعها للارادة.

حجاج النص

أما إذا انتقلنا الى المستوى الحجاجي نجد ان صاحب النص استهل نصه بحجة العرض والتوضيح حيث بدأ بعرض تصور التحليل النفسي لطبيعة الرغبة، والذي يربطها بالإستيهامات والتخيلات، ثم عمل على نقد هذا التصور نافيا أن تكون إنتاجات استهامية ومؤكدا في مقابل ذلك على أن الرغبة انتاج اجتماعي تسري في مجمل الحقل الاجتماعي، وهذا ما عبر عنه الكاتب بالقول “إذا كانت الرغبة تنتج شيئا، فهي تنتج واقعا، ولا يمكن ان تكون كذلك الا في الواقع وفي آخر النص استنتج أنه لا توجد إلا الرغبة وماهو اجتماعي كحقل للصراع والتنافس بين الأفراد.

مطلب المناقشة

قيمة الأطروحة

وبانتقالنا إلى مستوى المناقشة، وتحديدا المناقشة الداخلية، يتبين لنا أن أطروحة النص تحمل قيمة فكرية وواقعية وعملية أيضا… ففعلا، مهما كانت طبيعة الرغبات التي تستحوذ على تفكير الفرد وشعوره، فلابد للفرد إن أراد تحقيق ما يرغب فيه من أن يسلك طريق الواقع مجندا إمكاناته وطاقاته بشكل عملي إجرائي، حيث يقتضي تحقيق الرغبة أولا؛ الوعي بها، ثم ثانيا إخضاعها للتحقق الواقعي كأهداف قابلة للإنجاز على مدى زمني معين، بإقرانها بالفعل والممارسة والعمل الدؤوب والصبر إن اقتضى الأمر ذلك. فالشيء الذي يعطي المعنى للرغبة هو ربطها بالواقع، كمجال للفعل والممارسة وهنا تبرز أهمية الإرادة الانسانية.

حدود الأطروحة

أما حدود هذه الأطروحة هي أنها حين تُفْصَلُ الرغبة عن مجال الفكر وما يستدعيه من تخيلات واستيهامات نفسية كآليات نفسية، وتربطها في المقابل بالواقع فقط فكأنما تطابق بين الرغبة والإرادة، حيث يصبح لهما نفس المعنى تقريبا، علما أن مفهوم الرغبة مفهوم نفسي في الأصل ويرتبط بما يخالج الذات الانسانية سيكولوجيا.

المناقشة الخارجية

وينسجم هذا مع ما عبَّر عنه المحلل النفسي “جاك لاكان”،  في اعتباره أن مجال الرغبة هو مجال اللاشعور، وهي من منظور التحليل النفسي تتوخى تحقيق اللذة والاستمتاع، لكن خارج دائرة الوعي والإرادة، أي استمتاع الجسد الموشوم بالتوترات والضغوطات الدفية الناتجة عن آلية الكبت النفسي، وبذلك فلا سلطة للذات على الرغبة، فإذا كانت الرغبة بمثابة لذة أو استمتاع جسدي ، فإن ذلك يتحقق بكيفية استهامية ترتد إلى التوترات والأشياء المكبوتة خلال المرحلة الطفولية المبكرة، وهكذا فإن المحدد الرئيس للرغبة هو جانب اللاوعي.

وخلافا للتصور التحليلي النفسي لطبيعة الرغبة، وعلى النقيض من أطروحة “جيل دولوز” تُقدم “الفلسفة العقلانية” في شخص الفيلسوف الهولاندي “باروخ سبينوزا” تصورا فلسفيا يميز من خلاله بين مفهومي “الرغبة” و”الإرادة”، فالانسان في حفاظه على بقائه واستمراريته، يتصرف استنادا إلى أفكار النفس وانفعالات الجسد، ولهذا علاقة بكل من “الشهوة” و”الرغبة” و”الإرادة”. فالإرادة هي الجهد الذي يصدر عن النفس وحدها (الجانب العقلي)، أما الشهوة فهي الجهد الذي يصدر عن النفس والجسم معا (الجانبين العقلي والانفعالي)، في حين تكون الرغبة هي الشهوة المصحوبة بوعي ذاتها، أي، حين يكون للفرد وعيا بشهواته، فتلك هي الرغبة، وتشكل الرغبة حسب “اسبينوزا” ماهية الإنسان، و تتجذر في أعماق طبيعته. ويضيف “سبينوزا” أن الانسان رغم وعيه بما يرغب فيه، فهو أحيانا يجهل الأسباب الحقيقية الموجهة لرغباته، ذلك أن منطق الرغبة لا يقتصر على قوانين الفهم والعقل البشري، بل يتعداها إلى ما هو طبيعي وفطري في الانسان ، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الرغبة تحتل مكانا وسطا بين النفس والجسد.

مطلب التركيب

يتبين لنا في ختام التحليل والمناقشة بصدد إشكالية العلاقة بين “الرغبة” و”الإرادة”، أن الانسان في حفاظه على بقائه واستمراريته وتحقيقه لذاته، يسلك ويتصرف بناء على مقومات وجوده الذاتية، وهو يعيش حياته بحلمه وخياله، رغباته وإرادته، شعوره ووعيه وعواطفه، غير أن الوجود الانساني ليس اعتباطيا، بل هو وجود مفكر فيه، مخطط له، يتوقف على العقل والوعي والإرادة؛ إرادة الحياة والبقاء، التي تدفع الانسان إلى الفعل والعمل المستمر من أجل تغيير الذات وبناء الواقع، وتحقيق السعادة للانسان. وبحديثنا عن السعادة في هذا المقام، يمكن التساؤل من جديد: هل يمكن اعتبار السعادة مسألة رغبة، وهل تؤدي الرغبات إلى سعادة الانسان، أم من الممكن ان تكون سببا في تعاسته وشقائه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى