المحور الثالث (3) قيمة الحقيقة | مفهوم الحقيقة | مجزوءة المعرفة
من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ هل باعتبارها غاية في ذاتها، أم لكونها مجرد وسيلة لتحقيق غايات عملية؟ هل للحقيقة قيمة نظرية معرفية؟ أم قيمة عملية نفعية؟ أم قيمة أخلاقية؟
اعتبرت الحقيقة عبر تاريخ الإنسانية قيمة عُليا، لكن الفلاسفة اختلفوا في تحديد طبيعة هذه القيمة. فالفلسفة الكلاسيكية اعتبرت الحقيقة كغاية في ذاتها، وكقيمة معرفية وأخلاقية عُليا، أما الفلسفة المعاصرة، فقد ربطت الحقيقة بالمنفعة والمردودية وبالتالي اعتبرتها قيمة عملية نفعية:
ما قيمة الحقيقة؟ هل للحقيقة قيمة نظرية معرفية أم قيمة عملية نفعية، أم قيمة أخلاقية؟
تأطير إشكالي لقضية الحقيقة بوصفها قيمة
الكل يطلب الحقيقة ويسعى وراءها، الجميع يبحثون عن الحقيقة ويطمحون لمعرفتها، وكل من موقعه الخاص وبحسب مجاله وتخصصه ووضعه الاجتماعي، سواء كانوا، فلاسفة، علماء، صحفيين، إعلاميين، محققين، قضاة، سياسيين، أو حتى أشخاص عاديين… لأنها تُعتبر قيمة عليا بالنسبة للحياة الإنسانية والاجتماعية.
حين تُرضي الحقيقة الفضولَ العقلي للإنسان سواء بانسجامها مع مبادئ الفكر أو مطابقتها للواقع، تكون لها قيمة نظرية معرفية وتعتبر غاية في ذاتها، وحين تفيد في تغيير الواقع إيجابا وتخدم الحياة الانسانية للأفضل، تكون لها قيمة عملية نفعية، أي تعتبر وسيلة لتحقيق غايات نفعية، ناهيك عن هذا فللحقيقة كذلك قيمة أخلاقية حين ترتبط بالقول الصادق والفعل الحق باعتبارها واجبا أخلاقيا يوجه التفاعلات والعلاقات الاجتماعية بين الناس وفق ما يقتضيه مبدأ الخير الأسمى، وهكذا يمكننا طرح التساؤلات التالية:
من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ هل باعتبارها غاية في ذاتها، أم لكونها مجرد وسيلة لتحقيق غايات عملية؟ هل للحقيقة قيمة نظرية معرفية؟ أم قيمة عملية نفعية؟ أم قيمة أخلاقية؟
تصور الفلسفة الكلاسيكية
1. الفلسفة اليونانية
أطروحة أرسطو Aristotle | للحقيقة قيمة نظرية معرفية
يقول أرسطو في كتاب «الميتافيزيقا»، إذا كان الفلاسفة الأوائل قد تفلسفوا كي يخرجوا من الجهل، فمن البين أنهم قد اهتموا بالعلم من أجل المعرفة، لا من أجل معرفة ما، وبديهي أننا لا نتوخى من الفلسفة غاية غير الفلسفة نفسها» يظهر من هذا القول أن الحقيقة باعتبارها ما تتوخاه الفلسفة والعلم عند ارسطو، قيمة نظرية معرفية تلتمس لذاتها وليس من أجل تحقيق أغراض أخرى.
فلقد أكد أرسطو ومعه كثير من الفلاسفة أن الحقيقة قيمة معرفية موضوعية وكونية، وأن ما يضمن موضوعيتها وكونيتها هو تبادل الحجج والبراهين، أي أن البرهان هو الشرط المعرفي للحقيقة ولكونيتها، والحقيقة من حيث هي قيمة معرفية تعتبر إذن غاية في ذاتها ولا يشكل البحث عنها وسيلة لتحقيق غايات أو منافع مهما كانت طبيعتها
2. الفلسفة الحديثة
أطروحة كانط E.kant | الحقيقة قيمة أخلاقية
يعتبر هذا التصور أن الحقيقة قيمه أخلاقية، وقد برز هذا التصور مع الفلسفة الحديثة خصوصا مع [إمانويل كانط E.Kant] الذي اعتبر الحقيقة واجبا أخلاقيا مطلقا، يكتسي بُعدا إنسانيا منزَّهٍا عن كل منفعة. يقول “كانط” : “من مقتضيات العقل المقدسة والضرورية أنه ينبغي على الانسان أن يكون صادقا في تصريحاته وأقواله”.
إن قول الحقيقة في نظره واجب أخلاقي ينبغي أن يلتزم به الجميع ولو أدى ذلك الى الضرر، ويرفض كانط أن يكون قول الحقيقة واجبا على من له الحق في المعرفة، (امتياز). بل إن ذلك الواجب مُطلق يتساوى فيه الجميع. فالحقيقة ليست شيئا يمكن امتلاكه ولا يكون للبعضِ دون الآخر.
إقرأ المزيد من أفكار كانط حول قيمة الحقيقة (…) بالنقر هنا
- القول الصادق يكون لذاته وليس لأغراض عملية نفعية أو اعتبارات مصلحية (مكاسب عملية / مصالح شخصية …)
- قول الحقيقة يعتبر واجب أخلاقي مطلق يتعين النطق به والعمل به في جميع الظروف والأحوال ومهما كانت النتائج والدوافع …
- الحقيقة ليست مجرد وسيلة لتحقيق غايات نفعية، بل هي غاية في ذاتها، أي غاية أخلاقية …
- تعتبر الحقيقة واجبا مطلقا يجب احترامه والالتزام به بغض النظر عن النتائج المترتبة عنه …
- التصور الكانطي لقيمة الحقيقة يقضي بأن الإنسان يجب أن يتصرف بناءً على قواعد أخلاقية ثابتة، وليس بناء على المصالح الشخصية …
- في الفلسفة الأخلاقية الكانطية، يُعَدُّ الصدق قيمة مطلقة، وواجب أخلاقي، وأَنَّ الكذب مرفوض دائمًا، حتى لو كان بدافع الخير. وهذا حسب ما يقتضيه مبدأ الأمر المطلق (Categorical Imperative)، الذي ينص على أن الفعل يجب أن يكون قابلاً لأن يصبح قانونًا كونيًا …
- يرى كانط أن البحث عن الحقيقة واجب أخلاقي، وأنها قيمة مطلقة، ومعنى ذلك أن نكون صادقين في أقوالنا وأفعالنا، وان نسعى دائما إلى قول الحقيقة حتى لو كان ذلك صعبا ومؤلما …
- حسب كانط، نحن أحرار في اختياراتنا، ولنا حرية الإرادة في اختيار أن نكون صادقين أو كاذبين، إلا أننا مسؤولون أخلاقيا عن أقوالنا وأفعالنا، لذلك يجب دائما أن نتحمل نتائج أفعالنا، وأن قول الحقيقة أمر مطلق …
تصور الفلسفة المعاصرة
3. الفلسفة البراغماتية
أطروحة وليام جيمس | للحقيقة قيمة عملية نفعية
لا تَكْمُنُ قيمةُ الحقيقة حسب “ويليام جيمس William James” في مطابقة الفكرِ للواقعِ، وهي لا تستمد قيمتها من ذاتها، بل من قابليتها للتحقُّقِ والتطبيقِ في الواقع بشكل عملي. فالحقيقة هي حدث يتم إنتاجه من أجل فكرة ما، وتصير هذه الأخيرة حقيقية من خلال العمل الذي تُنجزه وتتحقق من خلالهِ ويُكسبها صَلاحيتَها ومِصداقيتها من خلال عمل يهدف إلى نتيجةٍ تَعود بالخير والمنفعة والفائدة على عامة الناس. وفي هذا السياق يقول ويليام جيمس “إن امتلاكَ أفكارٍ صَحيحةٍ، يعني على وجه الدِّقةِ امتلاكَ أدواتٍ ثمينةٍ للعمل”.
إذا كان التصور السابق يؤكد على القيمة النظرية والمعرفية للحقيقة، فالتصور البراغماتي مع “وليام جيمس” لا ينظر للحقيقة كغاية في ذاتها، بل باعتبارها مجرد وسيلة لتحقيق غايات إنسانية ترتبط بالمنفعة والفائدة لصالح المجتمع وأفراده. يقول “وليام جيمس” ” إن امتلاك أفكار صحيحة (صادقة) يعني على وجه الدقة امتلاك أدوات ثمينة للعمل” وهنا يظهر أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في ذاته، بل مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أو غايات ومنافع مفيدة لفكرنا وسلوكنا، أي غايات ملموسة لا تسمح فقط بفهم الواقع بل تقوم أيضا بتغييره.
والحقيقة المقصودة حسب التوجه البراغماتي” ليس هدفها نفع البعض وإلحاق الضرر بالبعض الآخر، فالمنفعة لا ينبغي أن تكون على حساب طرف على آخر، بل الغاية منها التحفيز على العمل والقدرة على التطبيق وهو ما من شأنه أن يسهم في بناء المستقبل.
شروحات إضافية (…)
- الأفكار الحقيقية هي الأفكار التي يمكن تطبيقها عمليا، أي تترتب عنها نتائج عملية نافعة ومفيدة وتخدم المصلحة العامة للأفراد والمجتمع …
- لا تتحدد قيمة الحقيقة بمطابقتها للفكر أو الواقع، بل من قابليتها للتحقق والتطبيق في الواقع بشكل عملي …
- الحقيقة ليست غاية في ذاتها بل مجرد وسيلة لتحقيق غايات إنسانية ترتبط بالمنفعة والفائدة لصالح المجتمع وأفراده …
- الحقيقي هو النافع والمفيد، والمنفعة لا ينبغي أن تكون في صالح طرف على حساب الطرف الآخر أو إلحاق الضرر به …
4. الفلسفة الوجودية
أطروحة سورين كيركيجارد | للحقيقة قيمة أخلاقية قبل أن تكون معرفية
في نفس الاتجاه الذي تذهب فيه أطروحة كانط، نجد الفيلسوف الدانيماركي الوجودي “سورين كيير كيجارد” يرى بأن الحقيقة قيمة أخلاقية، إنها فضيلة على الطريقة السوقراطية (نسبة إلى سقراط) قبل أن تكون مجرد معرفة.
فهي لا تنكشف في العقل ولا تدرك في الاستدلال، وإنما تولد في الحياة وتعاش بالمعاناة، بهذا المعنى فالحقيقة ليست شيئا ثابتا، إنها حوار واختلاف وذاتية، لأنها لا تتكرر في كل واحد منا، إنها أخلاق وفضيلة معرفية وغاية مذهبية بعيدة عن شروط ووجود الانسان.
تركيب محور قيمة الحقيقة
يتضح في نهاية هذا العرض، أن الحقيقة قيمة سامية ومثلا أعلى يُنشده الانسان على المستوى النظري والعملي والأخلاقي فالحقيقة قيمة نظرية لأن غاية كل معرفة هي الحقيقة في ذاتها، وهي أيضا قيمة أخلاقية لأنها تجعل الانسان قادرا على التمييز بين ما ينبغي وما لا ينبغي فعله، وبالتالي تمكنه من حسن الفعل والتصرف، كما أن لها قيمة عملية نفعية لأنهاأداة ووسيلة للإنتاج والمردودية في مجال العمل والممارسة.