Uncategorized

معايير علمية النظريات العلمية | النظرية والتجربة | مجزوءة المعرفة

المحور الثالث: معايير علمية النظريات

المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية

الإشكالية الفلسفية: منذ الثورة “الجاليلية” في ميدان الفيزياء، ومرورا بـ “نيوتن” في الجاذبية، إلى مختلف النزعات الوضعية الاختبارية، شكلت التجربة العلمية المنبع الأساسي لبناء النظرية العلمية الفيزيائية والمعيار الذي من خلاله يتم التحقق من صدق أو كذب النظرية. هذا ويشير مفهوم المعيار Le Critère إلى المقياس وما يُعير أو يقاس به غيره ويسوى على منواله، إنه أيضا المرجع الذي تميز وتصنف به الأشياء والمفاهيم، وبه نحكم على قضية ما بأنها صحيحة أو خاطئة. ومع التحولات العلمية المعاصرة، لم يعد التجريب وحده هو، هو المعيار الوحيد والأمثل لعلمية النظريات العلمية، فقد أصبح النقاش مفتوحا حول معيار الحكم على صلاحية هذه النظريات: ما المعيار الذي تستمد منه النظريات العلمية صلاحيتها وعلميتها؟ هل من مطابقة فروضها ونتائجها للواقع التجريبي، أم من الانسجام المنطقي الداخلي لمكوناتها وعناصرها؟ أم من قابليتها للتكذيب والتفنيد؟

معيار التماسك والانسجام المنطقي الداخلي: (النزعة العقلانية)

خلافا للتصور التجريبي الذي يرى بأن التجربة هي المعيار السليم للحكم على صلاحية النظرية، يرى “إينشتاين” أن المبدأ الأساسي لنظرية ما، لا يوجد في عالم التجربة. فوظيفة النظرية في نظره تقتصر على التطابق مع نتائج النظرية التي تظل أساس ومرجع المعرفة العلمية، بمعنى أن معيار النظرية الفيزيائية المعاصرة ليس هو التجربة، بل يكمن في تسلسل المنطق الرياضي واستدلالاته الاستنباطية، الذي يربط الافتراضات بالنتائج، فالعقل الرياضي هو الذي يعطي لنسق النظرية العلمية بنيتها وتماسكها المنطقي وانسجامها الداخلي، وعلى أساسه تتناسب معطيات التجربة وعلاقاتها المتبادلة مع نتائج النظرية.

منه فهو معيار صلاحيتها

معيار المطابقة (النزعة الاختبارية التجريبية)

يذهب “إرنست ماخ” الى التأكيد على أن الروح العلمية تقتضي منا التقيد بمعطيات الخبرة وحدها دون افتراض شيء آخر وراءها، فمهمة العلم تكتفي بقياس المقادير كما تتجلى لنا مباشرة وتعطى لنا في الملاحظة إما على شكل طاقة أو كتلة أو ضغط أو حجم أو حرارة، فدور الحَسم اذن في صحة وصلاحية النظرية العلمية هو للتجربة وحدها وليس للفروض العقلية أو الاستنتاجات الرياضية، وهو القول الذي أكده مفكرون آخرون ينتمون إلى نفس الاتجاه الاختباري الوضعي، من أمثال العالم الفيزيائي ” Pierre Duhem” “بيير دوهيم” من خلال كتابه La théorie physique: son objet, et sa structure حيث يذهب إلى التأكيد على أن معيار صحة النظرية العلمية وصلاحيتها هو مطابقتها للواقع التجريبي، وتكون هذه النظرية خاطئة، حين تلتجئ الى التفسير الافتراضي العقلاني لهذا الواقع وتبتعد عنه، لأن التفسير لا يمكن أن يستند إلا على فرضيات عقلية، وليس على معطيات التجربة، فضمان علمية النظريات الفيزيائية، يقتضي تخليصها من الفروض التفسيرية، لأن هذه الأخيرة ستدخلنا في متاهات الميتافيزيقا وتجعلنا أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم.

معيار القابلية للتكذيب:

رغم القيمة الفكرية التي يكتسيها الموقف الاختباري، إلا أن مواقف إبيستيمولوجية معاصرة أخرى قد كشفت عن محدوديته، وفي هذا السياق يرفض “كارل بوبر” اعتبار التجربة مرجعا ومعيارا للحكم على صلاحية وصحة النظرية العلمية، لأن معيار صلاحية النظرية العلمية في نظره، ليس في مطابقتها للتجربة (الواقع الاختباري) بل في قابليتها للتكذيب أو التفنيد. وهذا راجع في نظره إلى كون النظرية العلمية ليست حقيقة نهائية ومطلقة حتى ولو كانت تدعي العلمية، بل لكي تكون علمية، عليها أن تخضع مبادئها وفروضها لمبدأ القابلية للتكذيب. يقول “بوبر” «إن النظرية العلمية التجريبية الأصلية هي التي تستطيع أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز نقط ضعفها، وتُخضع بصفة قبلية، فروضها لمعيار القابلية للتفنيد أو التكذيب». هكذا يجب على النظرية، إن شاءت أن تكون علمية، أن تكون قادرة على تقديم الاحتمالات الممكنة التي تكذبها. ويرى بوبر أنه يمكن أن نطلق على معيار القابلية للتكذيب أيضا معيار القابلية للاختبار، لأن قابلية النظرية للتكذيب معناه أنه يمكن اختبارها بشكل دائم من أجل تجاوز العيوب الكامنة فيها. وهذا يدل على انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها. أما النظرية التي تدعي أنها يقينية وقطعية ولا عيوب فيها، فهي مبدئيا غير قابلة للاختبار. يشبهها ، ناهيك عن ذلك إن الطابع التركيبي والشمولي للنظرية يجعل من المستحيل تقريبا التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة. لذلك اقترح بوبر القابلية للتكذيب معيارا لعلمية نظرية ما، وإن لم تكذب فعلا، أي أن تتضمن في منطوقها إمكانية البحث عن وقائع تجريبية تكذبها

تركيب:

لا وجود لنظرية علمية مطلقة وثابتة، إذ أن العلم يخضع للتطور ويجدد نفسه باستمرار سواء على مستوى مناهجه أو موضوعاته، الأمر الذي ينعكس حتى على المعايير التي يتم اعتمادها للحكم على صلاحية النظريات العلمية، بحيث يمكن التمييز في معايير علمية النظريات العلمية، بين المعيار العقلي المنطقي، خاصة في الفيزياء النظرية، وبين معيار مادي تجريبي في العلوم التجريبية، وبين معايير أخرى، نذكر منها “معيار القابلية للتكذيب” ومعيار “تعدد الاختبارات”…، هذا التعدد في المعايير يكشف عن الواقع العلمي الجديد الذي لم يعد اليقين فيه نهائيا ونسقا مغلقا بل صار منفتحا ومستوعبا لتطور المعرفة العلمية ذاتها ولغنى الواقع الطبيعي المدروس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى