كانت البدايات الأولى لظهور التفكير الفلسفي عند اليونان في القرن 6 قبل الميلاد (العصر الهليني)، مع من كان يطلق عليهم اسم الفلاسفة الأيونيين وهم (طاليس، انكسماندر ، أنكسمانس) والملقبون بالحكماء الطبيعين ممن عاشوا في مدينة ملطية Milet الواقعة في إقليم أيونيا، وتوج هذا الظهور بإحداث قطيعة مع الفكر الأسطوري الشفوي الذي كان يتخذ مرجعا لتفسير أي شيء غير قابل للفهم ، والذي مثل الموروث الثقافي الماضوي الذي كان يؤثت الحياة الفكرية والروحية للمجتمع الإغريقي القديم والذي عبرت عنه أعمال الشاعرين الإغريقيين العظيمين هوميروس (ق.9.ق.م) من خلال ملحمتيه “الإلياذة L’Iliade و”الأوديسة” l’Odyssée، وهيزيود (ق.11.ق.م) في كتابه “انتساب الآلهة la théogonie . فبعدما كانت الأسطورة هي الشكل السائد للوعي الإجتماعي، بدأت في التزعزع والتراجع أمام الفلسفة كنمط فكري جديد، وصف بكونه: خطاب عقلاني ومنطقي منظم ، يقوم على الإستدلال البرهاني والحجاجي، وعلى إنتاج الأفكار و المفاهيم العقلية المجردة.
وكلمة فلسفة philosophia من حيث الإشتقاق اللغوي ، تتألف من جذرين لغويين هما: philo وتعني “محبة” و sophia وتعني ” حكمة ” ليكون بذلك معنى كلمة فلسفة هو ” محبة الحكمة” وكان الفيلسوف وعالم الرياضيات الإغريقي فيتاغورس ” هو أول من أطلق كلمة فيلسوف، و في المعتقدات الوثنية للإغريق تنسب الحكمة الى الآلهة والانسان لن يسعه ان يكون الا محبا للحكمة فقط. أما الحكمة فيقصد بها المعرفة العقلية الراقية، والإدراك الكلي لحقائق الوجود، في حين يكون الفيلسوف هو الإنسان الذي يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض، وبما أن طبيعة الانسان تجعل منه كائنا عاقلا ومفكرا، فإن كلمة فيلسوف لم تطلق على كل إنسان، بل أطلقت على الشخص الذي يسخر حياته للمعرفة والبحث عن الحقيقة، ودراسة طبائع الأشياء وإدراكها عقليا ، من أجل إنتاج معرفة صحيحة نسبيا بالطبيعة والواقع والإنسان، قد يكون من شأنها تحسين ظروف عيش الانسان والتنظير لمستقبله.
وإذا كانت اليونان القديمة هي مكان وزمان ميلاد الفلسفة كنمط من التفكير العقلاني المنطقي، فإن هذه النشأة لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت من ورائها عوامل متعددة متداخلة ومتكاملة فيما بينها أبرزها عامل الحرية الذي يتعلق بطبيعة المدينة-اليونانية، ومنها ما يتعلق بما هو تاريخي، جغرافي، اقتصادي، اجتماعي، سياسي، وثقافي.
عوامل ظهور الفلسفة
الموقع الجغرافي لبلاد اليونان
ظهرت الفلسفة لأول مرة في شبه الجزيرة اليونانية الممتدة على ضفاف بحر إيجة ، التي تقع في جنوب شرق أروبا، متوسطة بين الشرق والغرب، تحدها شمالا بيزنطة ومقدونيا، وجنوبا جزيرة كريت وغربا إطاليا وشرقا آسيا الصغرى، ويغلب على تضاريسها الطابع الجبلي مما نتج عنه صعوبة التنقل والمواصلات بين المدن اليونانية وانعزالها عن بعضها البعض
هذا العامل التضاريسي الصعب حتم على المدن اليونانية أن تعتمد على نفسها فيما يتعلق بتحقيق الإكتفاء الاقتصادي الذاتي، الذي أدى فيما بعد إلى ازدهارها وتطورها واستقلالها عن بقية المدن الأخرى، الشيء الذي جعلها تسمى بالمدينة-الدولة POLIS، حيث أصبح لكل مدينة نظامها الديني والسياسي والحضاري المستقل عن بقية المدن الأخرى، كملطية وإسبارطة وأثينا وإفيسوس… ساعدت بلاد اليونان بموقعها على إغناء التجربة الثقافية والفكرية لليونانية ، فموقعها البحري وتوفرها على موانئ مهمة، مكنها من احتلال مكانة استراتيجية في المنطقة وساهم في تطور وانتشار الفكر الفلسفي.
طبيعة المدينة اليونانية:
اكتست المدينة اليونانية طابعا خاصا بارتباطها بمؤسسة “المدينة-الدولة” حيث كانت كل مدينة تتمتع باستقلالها السياسي و الاقتصادي والديني، وتشمل المجال الحضري والقروي دون إقامة فوارق بينهما فالقرويون والحضريون كانوا يتمتعون بنفس الحقوق ويخضعون لنفس الواجبات، كما منحت “الدولة-المدينة” لمواطنيها ساحة عمومية تسمى “الأغورا” AGORA كان لها دور في خلق حياة ووحدة مشتركة، بين المواطنين اليونانيين وإشاعة حرية الرأي والنقاش والانسجام والتناغم مع الفضاء الاجتماعي اليوناني، ولم يقتصر دور الساحة العمومية على مناقشة القضايا السياسية والاجتماعية فحسب، بل كانت أيضا مكانا يجتمع فيه المواطنون اليونان للاستمتاع بالمسرح أو الشعر أو مختلف العروض الفنية وغيرها من الإبداعات الأدبية الشيء الذي أشاع الثقافة بشكل ديموقراطي بين المواطنين بعد ان كانت حكرا على بعض العائلات من ا. وقد ترتب عن اشاعة السلطة والثقافة في المجتمع اليوناني تطور الفكر وظهور التأمل الفلسفي القائم على النقد والبرهان والاستلال.
العامل السياسي
عرفت المدن اليونانية مع القرن 6 ق.م تحولات سياسية هامة، إذ لم يعد النظام الذي كان يولي الحكم للنبلاء يناسب التحولات التي عرفها المجتمع اليوناني خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فنشب صراع حاد وعنيف بين النبلاء والشعب انتهى بسيادة الطبقة الجديدة ، فانتصرت الديموقراطية (حكم الشعب) واعتز أفراد الشعب بحريتهم التي ناضلوا من أجلها عصرا طويلا وأخذو يسهرون بأنفسهم على شؤون البلاد، فظهرت شخصية الفرد في السياسة والفكر والفن، فآلت السلطة إلى أفراد لا يحكمون بحق وراثي (الموناركية = حكم بالسلطة الوراثية)، بل بتفويض من الشعب، فوضعوا تشريعات ديموقراطية تراعي مصالح جميع الطبقات.
1. عامل الحرية والديموقراطية.
كان من نتائج سيادة الديموقراطية كنظام سياسي اجتماعي في اليونان القديمة للقرن السادس قيل الميلاد، توفر عامل الحرية التي لاتسود مجتمعا إلا بسيادة الديموقراطية عنده، فكانت بذلك إحدى الشروط الأساسية لظهور الفلسفة، وإعلان بميلاد مجتمع جديد، متحرر من هيمنة الأسطورة والأنظمة الإستبدادية، وهكذا عندما لم تعد السلطة السياسية والثقافة حكرا على الأسر الأريستوقراطية (حكم الطبقة الواحدة) التي كانت تنفرد بممارسة الحكم، وأصبحت بدل ذلك مشاعة بشكل ديموقراطي بين جميع أفراد الشعب ، أصبحت قواعد العمل السياسي – الإشهار والنقاش الحر والمحاجة – قواعد للفكر – و ترتب عن ذلك تغيروتطور واضح في الأفكار ، فصارت المذاهب تكشف ويصرح بها وتخضع للنقد والمناظرة ، وتعطى لها صورة استدلالية برهانية، وهكذا وأصبح الإنسان اليوناني منفتح على ثقافة العقل والمنطق التي كان لعلم الرياضيات الذي ظهر مع طاليس (562-640) ق.م دورا في ذلك ، حيث أمد الفلسفة بالآليات الضرورية للبرهنة العقلية.
العامل الاجتماعي:
لقد كان للتقسيم الطبقي الذي عرفه المجتمع اليوناني، الأسياد من جهة، والعبيد من جهة أخرى، وتقسيم العمل إلى واحد فكري والآخر يدوي، إحدى العوامل المساعدة على ظهور التفكير الفلسفي، لدى طبقة الأسياد التي اختصت بالعمل الفكري
العامل الاقتصادي
عرف المجتمع الاغريقي تطورا اقتصاديا واجتماعيا تمثل في التحول من النشاط الفلاحي والرعوي إلى النشاط التجاري والصناعي، فنمت تجارة اليونان ، وظهرت مجموعة من الصناعات ، كصناعة المعادن والنسيج، واقترن ذلك بظهور العملة ، حيث أصبح التبادل التجاري يعتمد على النقود بدل المقايضة
العامل الفكري
إن العامل الأساس الذي ساهم في عقلنة الروح والثقافة اليونانية يرجع إلى التقدم الذي عرفته المعرفة اليونانية في مجال الرياضيات وعلم الفلك مما أدى إلى نهضة فكرية على جميع الأصعدة ، وخاصة على المستوى الفلسفي ، حيث ظهر خطاب جديد يقوم على الحوار والإقناع العقلي (خطاب اللوغوس = Logos) في مقابل خطاب شفوي سردي للقصص والحكايات، يحمل إسم الفوضى وتعدد الآلهة (Mythos) .